أصدر الكاتب والناشط في حقل الدفاع عن حقوق الانسان وائل خير كتاب “من يدحرج الحجر؟ مصير مسيحيي الشرق” عن منشورات الشرق.
يبدأ الكتاب بالمشهد الاول: ثلاث نسوة يتوجهن مع الفجر نحو القبر ليطيّبن جسد الميت، كانت محدودية قواهنّ وضخامة الحجر الذي وضع على باب القبر مصدر قلقهنّ. كنّ يتساءلن: “من يدحرج لنا الحجر عن باب القبر؟” يتبع هذا المشهد قسمان. القسم الاول يتناول الكنيسة عامة والكنيسة الانطاكية بوجه خاص.
يرى لاهوتي بروتستنتي ان الكنيسة هي اكثر المؤسسات فسادا اذ التباين بين اهدافها وانجازاتها يتعدى بكثير التباين بين ما نهدت المؤسسات عبر التاريخ لتحقيقه، وما انجزته. لكن هذا اللاهوتي يضيف” لكن بالمقابل، ما من مؤسّسة انسانيّة، باستثناء الكنيسة، تحمل وعد المسيح بانتصارها على العالم.”
بداية الكنيسة كانت يوم العنصرة عند حلول الروح القدس على الرسل وانضمام عدد كبير من الناس الى صفوفها. ابتدأت من ذاك التاريخ بشارة المسكونة في اطار الامبراطورية الرومانية وما يتعدّاها.
عرفت المسيحيّة الاولى مركزين رئيسييّن انساب منهما ما يكاد يكون كل ألق مسيحي الى سائر العالم: الاسكندرية وانطاكية.
مرّ تاريخ الكنيسة الانطاكية بحقبات: الحقبة الاولى كانت “الاباء الرسوليون” ومن بعدها فترة الآباء. تلتها منذ اعتناق قسطنطين المسيحيّة، مرحلة ثالثة هي مرحلة المجامع التي نظّمت الكنيسة اداريا وحدّدت على شكل نهائي، اسسها اللاهوتية.
عقب هذه الفترات الذهبيّة الثلاث فترة ذبول كاد يبلغ حد اجتثاث المسيحية في الشرق الاوسط بعد الفتح الاسلامي حيث، خلال عقد في النصف الاول من القرن السابع، سقطت ثلاث بطريركيات لتلحق بهم بعد ثماني قرون القسطنطينية، البطريركية الرابعة والاخيرة بين البطريركيات الارثوذكسية التاريخيّة. لم يبقى من الاراضي الارثوذكسية خارج السيطرة الاسلامية الا امارة صغيرة وصفها الراهب فيلوثيوس ب”روما الثالثة التي لا رابعة بعدها” واضاف ان هذا “النور من الشمال سوف يضيء العالم.”
منذ القرن الرابع عشر بدأ الميزان يميل لمصلحة العالم المسيحي. اتخذت بدايات التحوّل شكل “الامتيازات الأجنبية” التي اطلقتها معاهدة عقدتها السلطنة العثمانية مع فرنسا لتمتد لدول غربيّة اخرى. ذاك كان المنعطف الذي انسابت منه الارساليات الاجنبيّة الكاثوليكيّة الى الشرق، لتلحق بها في القرن التاسع عشر الارساليّات البروتستنتية.
دخول روسيا الشرق الاوسط اخذ شكلا مختلفا. بدايته كانت اعداد الحجاج الغفيرة الى الاراضي المقدسة. لكن التبديل الكبير كان اصلاحات بطرس الاكبر التي حّولت روسيا من دولة متواضعة ذات تاثير ثانوي الى دولة اوروبية عظمى وابتدأت روسيا بمدّ نفوذها في كل الاتجاهات ومن بينها نحو الجنوب، نحو الامبراطورية العثمانية. من اهم معالم التاريخ المعاصر، خاصة ما تعلّق منه بالبلقان والشرق الاوسط، كانت الحرب الروسية – العثمانية من 1768 حتى 1774 التي انتهت بتوقيع اتفاقية كوجك كينارجي التي ارست ما عرف ب ” المسألة الشرقية.”
كانت روسيا وراء تثبيت وضع الارثوذكس في الكرسيين الاورشليمي والإنطاكي وجود ارثوذكسيّ كان في طريقه الى الزوال تحت تأثير الضغط الإسلامي من جهة، والإرساليات الكاثوليكية والبروتستنتية من جهة اخرى التي بذلت كل جهد لجذب الارثوذكس الى صفوفها. بدعم من السلطات الروسية، لعبت مؤسستان دورا حاسما في الحفاظ على ارثوذكس ساحل المتوسط الشرقي: الارسالية الكنسيّة الى فلسطين والجمعيّة الامبراطورية. من ابرز خدمات روسيا للأرثوذكس كانت المدارس المسكوبيّة ومساعدة العرب استرجاع البطريركية الانطاكية في العام 1899 بعد قرابة 175 سنة من الاستئثار اليوناني
اما القسم الثاني فيسرد التطوّرات السياسيّة الدوليّة ذات الاثر على مسيحيي الشرق الاوسط.
ينتقل الكتاب الى اوضاع الأرثوذكس في لبنان وهنا ايضا يبرز دور روسيا. لم يكن لنا اثر في تاريخ لبنان السياسي قبل فترة المتصرفيّة 1861- 1915. وراء دورنا يقف اصرار روسيا عبر مندوبها في المفاوضات لتنظيم جبل لبنان، م. نوفيكوف، على جعل الكورة قائمقاميّة أرثوذكسة بين قائمقاميّات لبنان في اطار المتصرفيّة. كانت هذه القاعدة الجغرافيّة للأرثوذكس الرافعة لهم سياسيّا. (يعرض الكتاب مداخلات مندوب روسيا ورد مندوب فرنسا، التي انتهت بمندوبي الدول الى الموافقة على مطالب سان بيترسبورغ.)
الديناميكيّة السياسيّة في لبنان تتلخّص، بالدرجة الاولى، بتنافس بين مكّونات لبنان الطائفية. قوة كل مكوّن يردّ الى مصدرين: مصدر ذاتي ( العدد، المكانة الاقتصادية، المؤسسات التابعة له، المستوى العلمي، التماسك السياسي، التمركز الجغرافي الخ) وهناك ايضا المصدر التحالفي الذي يجمع بين هذا المكّون وبين قوى خارجيّة مؤثّرة.
الازمة المصيريّة التي تواجه مسيحيي لبنان هي خسارتهم على الصعيدين: ذاتيا (خسارة التفوق العددي والبأس الاقتصادي، والامتياز العلمي، والتماسك السياسي الخ) ثم خسارتهم الحليف الخارجي بسبب علمانية اوروبا الغربية وتدني درجة اكتراث الولايات المتحدة بمصيرهم.
روسيا امر آخر. بعد انتهاء الحقبة الداكنة من تاريخ روسيا الحديث وعودتها الى تألّقها، ابتدأت روسيا من جديد تستعيد دورها في الشرق الاوسط وباتت مقررا رئيسيا لمصير المنطقة كما اثبتتها السياسة الروسية منذ 2015.
الاستعداد النفسي للروس وحده لا يكفي. لابد من جدوى سياسيّة لأي استثمار سياسي ما يطرح اوضاع الأرثوذكس في لبنان.
اوضاع الارثوذكس في لبنان على قدر كبير من السوء. نحن الطائفة الرابعة عددا غير ان وزننا السياسي شبه معدوم. لا ينتخب الارثوذكس الا قلة من نوّابهم الـ14 كذلك. وزراؤنا ليسوا استثناء عن هذه القاعدة ما يزيد في ضعف الارثوذكس هو افتقادهم الى رئاسة دينية تنزل بثقلها وراء مطالبهم المحقّة.
علينا كأرثوذكس ان نتوجّه الى تقويم هذا الاعوجاج على المستويين: السياسي والكنسي. لا بدّ لهذه الاصلاحات ان تتوجه الى البنية الكنسيّة، والى ما هو ضمن البنية الكنسيّة والى ما هو خارج البنية الكنسيّة (قوانين الانتخاب في لبنان.)
ان كان لنا ان نوفّق الى قانون انتخاب ينصفنا، والى كنيسة تقف وراء مطالب شعبها، بات ارثوذكس لبنان في وضع وازن يغري القوى الخارجية في الاستثمار السياسي فيهم و بهذه الحزمة من الاصلاحات ننتقل من حالة العدم السياسي الحالي الى ان نكون مكوّنا وازنا من مكّونات لبنان.
تشدّد هذه الاطروحة ان على رأس ما ينقذ المسيحيين في لبنان على تعدد أطيافهم، هو تطوير علاقات وثيقة مع الاتحاد الروسي.
ينتهي الكتاب بمشهد اخير يستعيد المشهد الاول. تساؤل النسوة وقلقهنّ كان منطقيا له ما يبرره. لكنهنّ كنّ ايضا على خطأ. اين أصبن واين اخطأن؟ أصبن في مقارنة امكانياتهنّ الذاتية والاستنتاج ان لا قدرة لهنّ على دحرجة الحجر ووددن لو صادفن رجالا لهم قدرة عضليةّ تسهّل دخولهن القبر. لكن خطأهنّ كان بحصر الحل بالقدرات الانسانية ولم يتركن محلا لخطة الله الخلاصيّة حتى ان بلغن القبر وجدن الحجر مدحرجا والقبر فارغا اذ كان المسيح قد قام من الموت.
محتويات الكتاب تقتصر على الابعاد الانسانيّة والقوى السياسيّة، المحليّة والدوليّة، لحل الازمة الوجوديّة التي يواجهها مسيحيو الشرق الاوسط. جميع هذه العناصر تقع في إطار ال”آن” وال”هنا”، “من يدحرج لنا الحجر عن باب القبر؟” هو جهد ضروري لا غنى عنه في كل معالجة جديّة لازمتنا. لكن علينا ألاّ نصرف النظر عن البعد الآخر والحاسم: خطة الله الخلاصيّة التي تخرج عن إطار ال”هنا” وال”آن” لتشمل الأبدية. الاستسلام الى القصد الالهي هو الجواب على “من يدحرج الحجر؟”