كتب جوزف طوق في “الجمهورية”:
كيف استطاع المخرج سامر البرقاوي أن يجلس بعيداً خلف الكاميرا ويترك داخل كلّ مشهد من «الهيبة – الحصاد» طعم يالنجي جدتّه، ورائحة فستان خالته ودفء حضن عمتّه ونشوة قبلته الأولى؟… كيف استطاع أن يقود عدسته إلى عمق الكاراكتيرات، ليذكّرنا أنّ الطفولة التي يكون أبطالها عادة من النساء، لا ترضى أن تكبر لترى نضوجنا يغتصب بطلات حياتنا، وينسى فضلهنّ على صلابة شخصياتنا.
عندما نقول الهيبة، يتبادر إلى ذهننا فوراً سيل من التيستوستيرون الذي ينقّط من أفواه البنادق، ورجولية تبحث عن مرسى لجنونها بالعنف والبطش والمشاكل… لكن بعد ثلاثة مواسم، انتبهنا أنّ ذهننا انبهر بقشور الشخصيات وغابت عنه طيبتهم وإنسانيتهم. وبعد الزراعة والريّ، حان وقت الحصاد، ولم يكن المحصول أقلّ من رؤوس شخصيات مقطوعة ومشقّعة في صندوق شاحنة صغيرة تشقّ طريقها من نشاف سهل البقاع إلى رطوبة المدينة.
لم يبق كاراكتير على حاله، الوجوه لم تتغيّر والأجساد لم تتبدّل، ولكن طافت على مسكات الأبواب ومقاود السيارات ومقابض البواريد وبين شعرات اللحى، نعومةٌ… نعومة موروثة، تماماً كما الإسم والعرض والأرض عن الأب، لكن هذه المرّة عن المرأة البطلة في حياة الشخصيات.
جبل شيخ الجبل (تيم حسن)، الذي سُجن في الهيبة لموسمين، حرّره الحب وعرّض حياته وإرثه وإمبراطوريته للخطر… وجبل، الذي لم ينحن لمصيبة أو مكيدة، ركع بملء إرادته لنبضات قلبه، ووجد فيه المعبد الذي تلا منه صلوات المظلومين والمحرومين. وتمكّن ذاك الذي أوقعنا بغرام وسامته وصلابته، أن يغوينا بحنيّته وحنكة أدائه إلى عالم نهاب عبسته ولا نفهم طيبته، بعدما انهمك بالعمل على بسط تفاصيل شخصية باتت أكثر واقعية.
وحتى رأس شاهين (عبدو شاهين) إنقطع، وهذا الذي زمجر وأرعد وانتفض برجوليته، حوّل دموعه وغصّاته وضعفه إلى بطلات. مثّل طوال أول 8 حلقات دون أن يمثّل، وبعد أن ظهر على الشاشة أخذ كاراكتيره إلى مكان غير معهود، فحوّل الخارج على القانون إلى داخل على القلوب، ولم يرضَ في أي مشهد إلّا أن يبرهن أنه يحمل العمل على أكتافه، فلا يترك تعبيراً أو نظرة أو صرخة إلّا ويعطيها كامل قلبه وحرفيته.
ونور رحمة (سيرين عبد النور) قطعت رأس أنوثتها وجمالها، فسرقت قلب الهيبة بعد أن عرفت كيف تقولب كاراكتيرها غير السطحي، فضحكت وبكت وخانت وخافت وعبّرت… مثّلت وانفعلت حتى نقلت هيبة جبل من بين الصخور إلى رخامة المجلى في المطبخ.
ولكن أم شاهين (ختام اللحام) قطعت رؤوس كثير ممن يدّعون النجومية في التمثيل، وأثبتت بدورها الصغير والمحدود، حجم مقدرتها الفريدة على عيش الكاراكتير إلى أبعد حدّ… ومثلما زحفت إلى قبر إبنها، زحفت إلى قلوب المشاهدين وإلى شعر بدنهم وعيونهم، فأبكت وأثّرت وعبّرت، ولبطت النجومية برجلها لتجلس على كرسي الإبداع في التمثيل.
أمّا ثروت (جوزف بو نصّار)، فلا يمكن القول إنّه أقلّ من ثروة العمل. فمجرّد نظراته المتعمشقة على ذلك الصوت في صناعة كاراكتير مخيف، تُحوّل بدلاته وكرافاتاته إلى ثوب كاهن يبارك كل مشهد يمرّ فيه.
ومنى واصف، الذي بات الحديث عن أدائها يفقده قيمته، هي التي تعرف في كل حلقة وكلّ مشهد أن تكون عملاقة من حركة إصبعها إلى نظرتها وصوتها وحركتها، وكلّما أطلّت تسرق الهيبة كلّها من المسلسل والممثلين وحتى التقنيين.
هناك حنيّة امرأة تعيش داخل كلّ رجل مهما بطش وتوحّش، وهناك بطلة تسيّر مشاعر الرجولية مهما شردت… وفي «الهيبة – الحصاد» لم نرَ فقط امرأة أخت الرجال، ولكن تابعنا رجال أخوات نسوان. ورأينا فساد الإعلام، وفساد الخارجين على القانون، وفساد المسلّحين… لكن كل هذا الفساد لا يضاهي شعرة من فساد الحاكمين والسياسيين المتحكّمين والتجّار، الذين هم ليسوا أكثر من إخوات… «محضورة».