كتبت مرلين وهبة في “الجمهورية”:
تتجّه الحكومة إلى فرض رسوم جمركية على 20 سلعة مستوردة منها مواد البناء (مثل الرخام والجرانيت والألمنيوم والأدوات الصحية وأنابيب الحديد) والمواد المرتبطة بلقمة عيش المواطن (مثل الطحين والبرغل والألبان والأجبان والمأكولات المعلّبة وكراتين البيض والكورنفليكس والبسكويت) ومواد استهلاكية أخرى تُستعمل في كل بيت (مثل مواد التنظيف والأدوات الكهربائية والورق والمحارم المعطّرة والورق الصحي والملبوسات والأحذية). وتسوّق هذه الإجراءات على أنّها لمصلحة لبنان، لأنّها تحمي القطاع الصناعي في لبنان والعاملين فيه وتخلق فرص عمل وتخفّض عجز لبنان التجاري وتُدخل إلى الخزينة حوالى 100 مليار ليرة سنوياً.
بحسب رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق الدكتور باتريك مارديني، تهدف الرسوم الجمركية إلى رفع أسعار البضائع المُستهدفة بنسب تتفاوت بين 5 و20%. وتستفيد بعض الشركات اللبنانية من منع دخول المنافسة إلى السوق اللبناني، وتستغل احتكارها المستجد من أجل رفع أسعارها على المواطن وتحقيق الأرباح على المدى القصير.
ولكن رفع الرسوم الجمركية لا يخدم فعلياً سوى مصالح خاصة لعدد محدود من المدعومين على حساب باقي المواطنين. فاستهداف مواد البناء يضرب قطاع البناء، وزيادة أسعار المواد الغذائية ترتد سلباً على المطاعم والفنادق والسياحة. وتساهم التجارة في لبنان بـ14% من الناتج المحلّي، وتوظّف 24% من اليد العاملة، كما يساهم قطاع البناء بـ21% ويوظّف 12%، فيما يساهم قطاع السياحة والسفر بـ19% ويوظّف 19%، أما الصناعة فلا تساهم سوى بـ10% ولا توظّف سوى 10%. ويعني ذلك، أنّ ما سيخسره لبنان والدولة من جرّاء زيادة الضرائب الجمركية يشكّل خمسة أضعاف ما سيكسبه القطاع الصناعي.
أما على المدى الطويل، فستشهد الشركات المدعومة انخفاضاً في الكفاءة بسبب غياب المنافسة، ما يؤدي إلى تردّي منتجاتها وانخفاض أرباحها.
وينفي مارديني حجة أنّ الدول الأخرى، مثل أندونيسيا وكمبوديا وبنغلادش وغيرها، تدعم المنتجات وتصدرّها إلى لبنان بأقل من سعر الكلفة وتتحمّل الخسائر بسبب هذا الإغراق المزعوم. فلا وجود لأي إغراق في لبنان برأيه. إذ إنّ السبب الوحيد الذي يسمح للمواطن اللبناني بشراء المواد المستوردة بسعر رخيص، هو أنّ الدول المصدّرة أبقت كلفة إنتاجها متدنية (أجور وكلفة كهرباء ورسوم منخفضة) ما سمح لها بالمنافسة.
أما في لبنان، فقد أطاح العبث بالرواتب والأجور وانقطاع الكهرباء والزيادة المتواصلة للضرائب والرسوم، بقدرة بعض الصناعات على المنافسة. ولكن الحال لا يكون بإجبار المواطن على شراء المنتجات الثمينة.
ويستند مارديني إلى بيانات البنك الدولي، ويشير إلى أنّ لبنان لا يعاني من مشكلة عجز في الميزان التجاري. فقد انخفض عجز الميزان التجاري من 82% من الناتج القومي في العام 1990 إلى حوالى 20% في العام 2017. وكذلك، فإنّ عجز العام 2017 أدنى من متوسط عجز الميزان التجاري للبنان منذ انتهاء الحرب الأهلية، والذي بلغ 34%. ورغم ذلك، يحاول البعض التعمية على هذه الحقيقة وعرض قسم من الصورة، فيتم التركيز على القيمة المالية للعجز من دون أخذ النمو الاقتصادي والسكاني في الاعتبار.
وتُعتبَر زيادة القيمة المالية للعجز التجاري برأي مارديني، دليل غنى لأنّها تعكس زيادة في الدخل الذي تضاعف أكثر من عشر مرات منذ العام 1992. أما اليوم، ومع انخفاض نسبة النمو في لبنان من 1.5% كانت متوقعة للعام 2018 إلى 0.2% فعلياً، ومع توقعات الركود (Recession) في العام 2019، فإنّ العجز التجاري في لبنان سينخفض تلقائياً من دون الحاجة إلى أي سياسات حمائية من الدولة. وقد بدأ ذلك فعلاً. فانخفض العجز التجاري للبنان بنسبة 17.7% في كانون الثاني 2018 مقارنة بكانون الثاني 2017. إلّا أنّ انخفاض العجز التجاري ليس خبراً سارّاً إطلاقاً، لأنّه يعني أنّ المواطن اللبناني ازداد فقراً ولم يعد باستطاعته الاستيراد. وهو كذلك لا يعني أنّ الإنتاج الوطني قد حقق كسباً. فمع تراجع الواردات بنسبة 17.5% في كانون الثاني 2018، تراجعت الصادرات أيضاً بنسبة 16.6%.
ويردف، انّ العجز في الميزان التجاري يسمح للبنانيين بشراء سلع وخدمات من الخارج أكثر مما يبيعون للخارج، لأنّ المقيمين خارج لبنان يحوّلون الأموال إلى لبنان: تحويلات المغتربين لذويهم والمساعدات للاجئين وودائع المغتربين في المصارف اللبنانية وشراء الأصول المالية اللبنانية من قِبَل المقيمين في الخارج، مثل العقارات والشقق وسندات الخزينة اللبنانية والأسهم والمصانع ومراكز التسوق وغيرها. وتسمح هذه التحويلات المالية للبنانيين باستيراد ما يحتاجونه. وهذا ما يفسّر المستوى المعيشي المرتفع نسبياً للبنانيين، رغم حالة الاقتصاد المحلي. لذا، فإنّ العجز التجاري هو في الحقيقة ترف أصبح ممكناً بفضل المغتربين والأجانب، الذين يحوّلون إلى لبنان أموالاً أكثر مما يحوّل اللبنانيون إلى الخارج.
وعلى الرغم من أنّ النسخة الأولى للموازنة المُقترحة لم تشمل هذه الزيادات الجمركية، إلا أنّها أُقحمت في النص النهائي. فهل كان ذلك نتيجة سياسات الضغط التي انتهجها بعض المنتفعين أم بسبب سوء تقدير لمصلحة المواطن الحقيقية؟