«ملّ» سعد الحريري من الجلسات المُكرّرة لمناقشة مشروع موازنة الـ 2019، فأجرى يوم الخميس سلسلة اتصالات لفرض التهدئة على شركائه، وتأمين إمرار المسودة. إذا كان الهدف الانتهاء من الموازنة مهما يكن مضمونها، فيُمكن القول إنّ الحريري نجح في جهوده. أما إذا نُظر إلى ما تحقّق من باب الجدوى الاقتصادية، فستكون النتيجة مزيداً من «الاستقرار»… في المسير الدائم نحو الهاوية.
قرّر الوزراء أمس وضع حدّ لنقاشاتهم حول مسودة موازنة ما تبقى من الـ 2019، «مُبشرين» اللبنانيين بـ«إنجاز» الانتهاء من حسابات «دكانتهم»، من دون أن تُعبّر عن خطة الدولة الاقتصادية لمواجهة المرحلة الخطيرة التي تمرّ بها البلاد. لم يكن من داعٍ ليضيّع مجلس الوزراء 19 جلسة، حتى يخرج بنتيجة كان يُمكن الانتهاء منها بظرف ساعات. 19 جلسةٍ من الأخذ والردّ، والبحث بأمورٍ كثيرة لا تتوافق مع التفسير الدستوري والقانوني للموازنة، ومن دون أن تُقارب بأي شكلٍ من الأشكال جوهر المشكلة الحقيقية. المسودة، والأوراق الاقتصادية، التي أنهى الوزراء البحث بها، لا تصل إلى مستوى «حكومة الطوارئ» التي تسعى إلى إنقاذ الوضع، وليست أكثر من تعبير عن وجود مجموعةٍ من «المتعهدين» الذين يعيشون تحت سيف مؤتمر «سيدر» والمانحين الدوليين والتهديدات المالية، والساعين إلى «تحرير» القروض ــــ التي تنتحل صفة المساعدات ــــ التي وُعدوا بها في المؤتمر الباريسي، لتبدأ الأعمال.
مؤشرات عدّة دلّت على أنّ اجتماع أمس سيكون الأخير في السرايا الحكومية، قبل أن تنعقد جلسة في قصر بعبدا، تقرّر أن تكون قبل ظهر الاثنين. استبق رئيس الحكومة سعد الحريري جلسة أمس، باتصالات قام بها يوم الخميس مع كلّ من الوزيرين علي حسن خليل وجبران باسيل، طالباً التهدئة. وطلب من وزير المال اصطحاب الدراسات والأرقام المرتبطة بالاقتراحات التي تقدّم بها وزير الخارجية والمغتربين وغيره من الوزراء، لاتخاذ قرار بالذي يُبحث منها في مشروع موازنة 2019، وتلك التي ستُرحَّل إلى موازنة الـ 2020، أو ما يُحال إلى مجلس النواب أو ما يمكن بتّه بقرارات حكومية أو وزارية. رئيس الحكومة بدا مُنزعجاً في جلسة يوم أمس، لكنه لم يُعبّر عن ذلك بالنقاش الحادّ، بل بالاستهزاء بكثير من الطروحات، كما فعل حين مناقشة فرض ضريبة على اليخوت. فعندما قال أحد الوزراء إنّ تسجيل اليخت بالنوادي الخاصة يُكلّف 15 ألف دولار، سخر الحريري قائلاً: «تعوا نزيد ضرائب تا يتشجعوا أصحاب اليخوت يسجلوها عنّا»، قبل أن يتم الإيضاح له أنّ رسوم التسجيل الحالية تستفيد منها النوادي الخاصة وليس الخزينة العامة.
وانعكست نتيجة الاتصالات التي قام بها الحريري هدوءاً داخل القاعة، حيث إنّ خليل كان يردّ على كلّ من يُقدّم طرحاً بالقول: «منمشي». وباسيل أيضاً لم يُناقش بطريقة استفزازية، أو يعيد طرح مطالب قديمة. الاستثناء الوحيد كان حين سأل وزيرُ الخارجية عن سبب عدم خفض موازنات عددٍ من الوزارات. الردّ عليه أتى من وزير الشؤون الاجتماعية ريشار قيومجيان، الذي برّر بأنّ وزارته تدفع المال للعديد من الجمعيات، كرعاية المعوقين ومعالجة الإدمان. ومن غير الممكن التوقف عن تمويل هذه الجمعيات، بسبب غياب أي مؤسسات تملكها الدولة وتؤمن الرعاية بهذه الأمور. أوضح باسيل أنّه لم يكن يقصد بكلامه «الشؤون الاجتماعية» وحدها، مُستغرباً أن يُبادر قيومجيان إلى التبرير، بل كان يقصد أيضاً وزارات الصحة والأشغال العامة والاتصالات. تدخل وزير الأشغال يوسف فنيانوس، مُذكراً بأنّ موازنة «وزارته» خُفضت بحدود الـ 20%، مثلاً كان مُخصصاً 250 مليار ليرة للطرق، أصبحت بعد الخفض 200 مليار ليرة». بدورها، الوزيرة مي شدياق سألت باسيل ساخرةً، «غريب كيف لم تُطالب بخفض موازنة أي وزارة من نصيب التيار الوطني الحرّ». فأتى كلام الوزير غسان عطا الله كنوعٍ من الردّ عليها، فجدّد التذكير بنية «التيار» إقفال وزارة المهجرين. إلا أنّ ما كان مفاجئاً للوزراء بطرح عطا الله، قوله إنّه سيكون بحاجة إلى 600 مليار ليرة لاستكمال ملفات المهجرين وإقفال الوزارة! بعد 29 سنة على انتهاء الحرب الأهلية، لا تزال الحكومة بحاجة إلى 400 مليون دولار من أجل إقفال هذا الملفّ! وأضاف عطا الله مُطالباً بـ 10% من الـ 600 مليار ليرة، هذا العام، على أن ترتفع الحصة إلى 30% لكل من السنوات الثلاث المقبلة. تحت صدمة ما يطلب الوزير الشاب، تهامس عدد من زملائه، مُتذكرين يوم كان النائب طلال أرسلان وزيراً للمهجرين، وقال إنّ الوزارة بحاجة إلى 60 مليار ليرة لإنهاء الملف.
بعيداً عن ذلك، اتخذ الوزراء عدداً من القرارات، كفرض رسوم تسجيل وضريبة القيمة المضافة على اليخوت التي يزيد طولها على 15 متراً. لكن من غير المتوقع أن تدرّ هذه الضريبة أرباحاً كبيرة، لأنّه قبل 18 سنة، وحين أُعفيت اليخوت من الرسوم، لم يُسجّل إقبال على تسجيلها في لبنان.
أُقر رفع أسعار بطاقات السفر 75 ألف ليرة لدرجة رجال الأعمال، و25 ألف ليرة للدرجة السياحية
ومن أبرز الأمور في جلسة أمس، زيادة رسم الخروج من لبنان بقيمة 75 ألف ليرة على المسافرين على درجة رجال الأعمال، و25 ألف ليرة على بطاقات الدرجة السياحية (الاقتصادية). ما يعني عملياً، رفع أسعار بطاقات السفر، فوق ما هي أصلاً مرتفعة. وفُرض أيضاً رسم على البحص والرمل بقيمة 1500 ليرة لكلّ متر مكعب. وطرح باسيل تخفيض الرواتب فوق الـ 3 ملايين ليرة، فكان الردّ الرافض عليه من الوزير محمد فنيش.
بعد الانتهاء من النقاشات، بادر الحريري إلى الوقوف ورفع الجلسة لارتباطات خاصة، قائلاً إنّ الجلسة المقبلة ستكون في بعبدا. فاعتبر باسيل أنّ وجود الرئيس ميشال عون قد يُشكّل دفعاً لإقرار الموازنة. على الرغم من ذلك، لا يزال وزراء ناشطون على خطّ الاتصالات السياسية، يردون بأنّهم لا يعرفون إن كانت الموازنة قد انتهت أو لا!
وصرّح علي حسن خليل بعد الجلسة بأنّه «لا يوجد أي اقتراحات أو أرقام أو مواد لا تزال معلقة… هناك توجهات عامة جرت مناقشتها ليست مرتبطة بشكل مباشر بالموازنة». وقال إنّ «التدبير الرقم 3 ليس بحاجة إلى موازنة، بل إلى قرار من مجلس الوزراء. والأملاك البحرية أُقرت وهي ملحوظة بالموازنة، ووزارة المال بدأت بتكليف المعنيين بهذا الأمر». أما الوزير جمال الجراح، فأعلن أنّ نسبة العجز انخفضت من 11.5% إلى 7.5%. ومن المنتظر أن يُعقد اليوم اجتماع بين قادة الأجهزة الأمنية، برئاسة قائد الجيش، لبحث آلية تطبيق «الضمائم الحربية» (التدابير الرقم 1 و2 و3)، علماً بأن وزير الدفاع الياس بوصعب يذكّر بأن المادة 80 من قانون الدفاع تنص على أن كل ما يمت لـ«الضمائم الحربية» بصلة يُتّخذ بمرسوم عادي (لا يحتاج إلى قرار من مجلس الوزراء) بناءً على اقتراح وزير الدفاع، وأنه، أي بوصعب، يريد أن يتخذ قراره بناءً على توصية من المجلس الأعلى للدفاع.