كتب أنطوان فرح في صحيفة “الجمهورية”:
حظي مؤتمر «سيدر» حتى الآن بنصيبه من الجدل العقيم في الداخل اللبناني. وراوحت الآراء بين تصويره مُنقذاً وحيداً للبلد لتحاشي الانهيار، وبين «شيطنته» واعتباره مصدراً مضموناً لزيادة الدين العام وتسريع الانهيار. لكن المفارقة أنّ «سيدر» أصبح مصدر خطر حقيقي على لبنان، لأسباب لا علاقة لها بما يطرحه المعارضون.
غرق اللبنانيون في متابعة تطورات مناقشة مشروع الموازنة في مجلس الوزراء. وستُتاح لهم فرصة ثانية للمتابعة يوم يبدأ المجلس النيابي بهيئته العامة مناقشة المشروع. لكن النقطة الأهم في هذه المعمعة، أنّ الموازنة، ومتى خرجت رسمياً من ساحة النجمة، ستتحوّل أوراقَ اعتماد تقدّمُها الحكومة الى القيّمين على «سيدر»، وفي مقدمهم الفرنسيون، للحصول منهم على التقييم: رسوب أم نجاح؟ والرسوب هنا يعني أنّ مضمون الموازنة غير مُقنع، وبالتالي سيتم تأجيلُ البدء في تنفيذ مندرجات مؤتمر «سيدر». والنجاح يعني أنّ باريس، ومعها الدول المانحة الأخرى التي شاركت في «سيدر» (حوالى 50 دولة ومنظمة دولية)، سوف تعطي الضوء الأخضر للمباشرة في تنفيذ لائحة المشاريع التي تمّ تأمينُ تمويلها في المؤتمر الذي انعقد في باريس في نيسان 2018.
يتضمّن «سيدر» خطة من ثلاث مراحل. المرحلتان الأولى والثانية تضمّان مجموعة مشاريع في قطاعات البنية التحتية التي يسعى لبنان إلى تمويلها من القروض الجديدة أو عبر الخصخصة والشراكة مع القطاع الخاص.
تمتدّ المرحلة الأولى من 2018 إلى 2021، والمرحلة الثانية من 2022 إلى 2025، وتصل كلفتهما الإجمالية الى نحو 17.253 مليار دولار. أما المرحلة الثالثة (2026-2030) فتتضمّن المزيد من المشاريع بكلفة إضافية تصل إلى 5.7 مليارات دولار.
قبل هذه المرحلة، كان الجدل يدور حول أهمية تنفيذ هذه المشاريع في دعم الاقتصاد. وكان رئيس الحكومة ومعه شريحة واسعة من السياسيين والاقتصاديين يؤكدون أنّ الأموال التي سيتم ضخُها في المشاريع، ولو جاءت بشكل قروض، إلّا أنها قروض ميسّرة وبفوائد مدعومة ومنخفضة جداً. وقد زادت أهمية هذه القروض بعد الارتفاع الذي شهدته أسعار الفوائد في السوق اللبناني، بحيث إنّ استخدام هذه القروض بات يوفّر على الخزينة مبالغ طائلة مُلزمة بدفعها في حال اضطرت الى الاقتراض بأسعار فوائد السوق. في المقابل، هناك فريق آخر يروّج أنّ تنفيذ «سيدر» سيزيد البلد فقراً، لأنه سيرفع حجم الدين العام ولن يُنعش الاقتصاد، لأنّ الأموال مُخصّصة لتنفيذ مشاريع بنى تحتية لن تُجدي في تنشيط الدورة الاقتصادية سوى بنسب بسيطة، خصوصاً أنّ بعض هذه المشاريع مجرد تنفيعات تمّ اختيارُها وتوزيعُها في المناطق لحسابات إنتخابية.
هذا الجدل لم يعد يستقيم اليوم، لأنّ أهمية أو مخاطر مؤتمر «سيدر» لم تعد مرتبطة بالإجابة على سؤال في شأن مفاعيل استخدام الأموال، بل إنّ المطلوب اليوم الإجابة على هذا السؤال: ماذا يحصل إذا ارتأت الدول المانحة أنّ الموازنة غير مُقنعة، ولم تعطِ بالتالي الضوءَ الأخضرَ للبدء في تطبيق «سيدر»؟
الإجابة لا تقتصر، كما قد يظنّ البعض، على حجب الأموال، وتأجيل البدء في تنفيذ المشاريع. هذه النتيجة منفردة قد يستطيع البلد تحمّل تبعاتها، لكن ما لا يستطيع تحمّلُه هو الهزّات الارتدادية التي سيتسبّب بها هذا الرفض. لأنّ الرفض هنا يعني أنّ المجتمع الدولي أعطى لبنان علامة راسب في الامتحان، ومفاعيلُ الرسوب لن تقتصر على حجب أموال «سيدر» بل ستتعدّاها الى انعكاساتٍ أشدّ خطورة، يمكن اختصارُها بنقطتين:
أولاً- فقدان الثقة بقدرة لبنان على تحاشي الانهيار، مع ما يستتبع ذلك من ردات فعل من ضمنها تراجع إضافي في تدفّق الأموال من الخارج، بما فيها أموال اللبنانيين العاملين هناك. بالإضافة طبعاً الى ارتفاع منسوب الأموال التي قد تخرج من لبنان. ولا حاجة لذكر احتجاب الاستثمارات الجديدة، وهو تحصيلٌ حاصل في وضع مماثل.
ثانياً- ستتكوّن لدى مؤسسات التصنيف الدولية مادةٌ دسمة قد تشكّل أساساً كافياً تستند اليه لخفض التصنيف الائتماني للبنان. ومن المعروف أنّ «موديز» سبق وخفضت تصنيف لبنان الى Caa1، وفي حال قررت واحدة من الشركتين (ستاندرز اند بورز أو فيتش) الحذو حذوها، سيخضع البلد لمفاعيل درجة الـ(C) وهي مفاعيل قاسية ستساهم في زيادة الأضرار على الاقتصاد.
من هنا، بات «سيدر» مصدر خطر «يتسلّل» الى البلد لأنّ مفاعيل عدم تطبيقه لم تعد محصورة بفقدان أمواله، بل بفقدان لبنان ثقة العالم به، مع ما يستتبع ذلك من أضرار كارثية لا مجال لتحاشيها.
لكنّ هذا الوضع الخطر، لديه جانب مضيء. إذ من حُسن حظ لبنان أنّ رئيس «اللجنة الفاحصة» هي فرنسا، الدولة الحريصة على مساعدة البلد على تحاشي الانهيار. وهي تدرك طبعاً مخاطر رفض البدء في تطبيق «سيدر». لذلك، قد يكون مصدر الخطر هو نفسه حبل النجاة الذي قد يدفع الفرنسيين، ومعهم المجتمع الدولي، الى الادّعاء مرة جديدة بأنهم يصدقون مضمون الموازنة في خفض العجز، ويصدقون أنّ ما جرى في 2018 لن يتكرّر في الـ2019، ويعطون الضوء الأخضر للمباشرة في تنفيذ «سيدر». وبعد ذلك، لكل حادث حديث.