Site icon IMLebanon

«براغماتية» حزب الله وكفاءة إيران بمواجهة العقوبات الأميركية!

 

تشخص أنظار الموظفين والمواطنين والناس أجمعين إلى القصر الجمهوري في بعبدا. هناك، كما هو مقرر، ستعقد جلسة رقم 20، ليس للبحث أو لإقرار موازنة العام 2020، بل للنظر في مواد وبنود وأبواب وأرقام موازنة العام 2019، التي قال وزير المال علي حسن خليل أنها تمّت الموافقة عليها، في جلسة «الجمعة الحاسمة» أو جمعة الحسم، بعد إصرار، من قِبل الرئيس سعد الحريري، الذي انتزع الموافقة انتزاعاً، ولَّوح بموقف أو أكثر، إذا لم يخرج وزير الإعلام جمال الجرّاح المحسوب على فريق رئيس الحكومة الوزاري، ويحمد الله «هلأ خلصنا وانتهت الموازنة».

لم يكن وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل راضٍياً لا عن حجم التخفيضات، أو الحزم بأن لا مبرر بعد للجلسات، وأن التخفيض الذي حصل بنسبة 7،5 من مجمل العجز، بات بإمكانه ان يفتح الطريق إلى مقررات الدول المانحة في مؤتمر باريس، أو ما يعرف بمؤتمر «سيدر» أي المقررات لدعم اقتصاد «بلد الأرز»، وإحياء عملية الاستثمار فيه في البنى التحتية والتعليمية وسواها..

كانت الحجة القوية بوجه باسيل أن الأرقام الراهنة، ليس نهاية الدنيا، فما إن يفرغ مجلس النواب من مناقشة الموازنة وإقرارها، حتى ينصرف إلى الموازنة اللاحقة، في مسلسل انحداري من التخفيض، لا أحد مسبقاً يعلم حدود تراجعه، ولكن ليس بإمكانه ان يبلغ حدّ الصفر أو التوازن، في بلد هو من أكثر البلدان مديونية في العالم..

كان من المفترض، وفقاً للذهنية اللبنانية، الإسقاطية، التحكمية، الفاقدة للمرتكزات ان يصوّت مجلس النواب يوم الجمعة في 31 الجاري على الموازنة، وكان من المفترض ان تنشر في الجريدة الرسمية، قبل عيد الفطر السعيد، أو في بحر الأسبوع الأوّل من حزيران، الا ان سفن الموازنة لم تجر وفقا للعقلية اللبنانية، السحرية، التي تكاد، تعتقد ان «قوة الوهم» والخيال لدى الطبقة الممسكة بزمام الأمور، تجعلها قادرة على فعل أيّ شيء، على طريقة الطفل الصغير، الذي يظن ان والده على كل شيء قدير..

لم يدر في خلد الأشاوش من الوزراء الميامين، ان الموازنة تدرس في ظروف، وتحولات بالغة التعقيد في بلدان جوار لبنان، أو الدول الإقليمية ذات النظام المؤثر في مجريات الصراعات الجارية، لا سيما بعد انفضاح جملة من الخيارات والقرارات، تتعلق بالمسألة الفلسطينية، وبالنفوذ الإيراني، وربما بالتجربة الشيعية في الحكم والإدارة، سواء في الدول المتعددة القوميات والمذاهب، والأجناس، أو تلك التي ما تزال تخضع لحكم مركزي، يبحث فيه الشيعة عن شراكة، وتبحث سائر المكونات في بلد مثل لبنان عن مكاسب، تتخطى المناكب والإمكانيات والأدوار المرسومة.

1 – من هذه التحولات، حجم الاشتباك الأميركي- الإيراني، مع تداخلاته الإسرائيلية وحتى العربية، ومن زاوية دور لبنان في حقبة ما بعد التسويات أو في حقبة انهيار التسويات؟

2 – هل يُمكن مثلاً، فهم مسار نقاشات الموازنة وأرقامها، خارج رقابة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وهل يُمكن فهم رقابة هاتين المؤسستين الدوليتين خارج الإرادة الأميركية، مع الإشارة الى ان البنك الدولي (IBRD) يعمل على دعم الاقراض المشروعي (Project Financing) منذ الثمانينات، أي التمويل البرامجي، ومنها برامج التكييف الهيكلي (Structural Adjustment (SAL)، إذ لا يموّل البنك مشروعاً محدداً، إنما يمول خدمة من السياسات خاصة سياسات الإصلاح الاقتصادي والتكييف الهيكلي.. هنا يصبح مفهوماً مثلاً: تركيز الرئيس الحريري على ان الموازنة تتضمن رؤية إصلاحية اقتصادية، في حين ينتقد فريق وزاري وازن (باسيل وتياره) الموازنة لجهة غياب الرؤية الإصلاحية..

أمَّا التكييف الهيكلي فهو على صلة بحجم القطاع العام وعمليات التوظيف، وليس من قبيل الصدفة ان يندفع رئيس لجنة الموازنة النيابية إبراهيم كنعان للكشف عن عمليات توظيف تتخطى المعقول، وصفها بالفضيحة، وجاء فيها انه تمّ توظيف واستخدام 5473 شخصاً بعد 21 آب 2017، من غير الأجهزة الأمنية والعسكرية منهم فقط 460 وفقاً للأصول و5013 خلافاً للأصول.. كذلك توظيف 32009 أشخاص واستخدموا قبل آب 2017، يتجاوز ملاكات الإدارات والمؤسسات وتجاوز قوانين وأنظمة التوظيف.

وفي سياق هذه الوضعية الدولية، يتحكم صندوق النقد الدولي في نظام السحوبات والتحويلات من وإلى المصارف اللبنانية فنظام البنكور (Bancor)، وهو التعبير الذي اطلقه الاقتصادي البريطاني اللورد كينز (الذي مثل بريطانيا في مفاوضات إنشاء البنك الدولي إلى جانب ممثّل الرئيس الأميركي آنذاك (1941) هاري وايت (Harry White) يقتضي انه يجوز لدول العجز (ولبنان دولة عاجزة) ان تسحب ربع الحصة من الموجودات من دون قيود، وفي حال الزيادة يكون أمام الدولة العاجزة حلّ من ثلاث: 1- تخفيض العملة، 2 – فرض رقابة على حركات رؤوس الأموال، 3 – التنازل عن جزء من احتياطياتها من الذهب والعملات الأجنبية.. وهنا يلاحظ أن لبنان ارتأى السير في الخيار الثاني..

4 – اشتداد العقوبات الأميركية، لا سيما المتعلقة بالعملات الصعبة، وبيع صادرات النفط على إيران، وارتداد ذلك على القوة المالية لحزب الله.. فاختناق إيران اقتصاديا، من شأنه ان يسحب تأثيرات قاسية على وضعية حزب الله المالية، وفقا لتقرير نشرته صحيفة «لو فيغارو» الباريسية، واختارت له عنواناً مؤذياً: تراجع المساعدات الإيرانية يدخل حزب الله في حمية.. مضيفاً أي التقرير ان الحزب «لحقت به تدابير التقشف، ولم يعد يتمتع بميزات كما كان من قبل.

يكشف التقرير – وعلى ذمته دائماً- أنه قبل ستة أشهر، كانت التحويلات النقدية من طهران إلى مطار بيروت على متن الخطوط الجوية الإيرانية تقدر بما بين 70 و80 مليون دولار شهرياً، وفقاً لتقديرات الولايات المتحدة وفرنسا، لكن تلك المدفوعات انخفضت حالياً إلى النصف (40 مليون دولار فقط).. فضلاً عن القيود الأميركية على التحويلات المصرفية، والمراقبة المصرفية التي تطال بشكل صارم تجاراً لبنانيين في الخارج.. والسؤال: هل لو كانت مناقشة الموازنة، قبل ستة أشهر من تاريخه، كانت خضعت للمنطق التخفيضي والتوتري الذي سادته الجلسات الـ19 الماضية؟

5 – يُدرك حزب الله، على مستوى قيادته وكوادره ووزائه ونوابه، ان الحلف الأميركي- الإسرائيلي يستخدم ضده سلاح العقوبات، مع ارجاء «ظرفي» أو دائم للحرب المباشرة، المكلفة، وربما الموجعة للفريق الآخر، حكماً.. وعليه، بات الحزب يقف في مناقشة الموازنة بين حدّين خطيرين، أحلاهما مرّ، الحد الأول الحاجة إلى تمرير الموازنة بأقل خسائر ممكنة، حفاظاً على عدم خروج الانتظام الاقتصادي عن السيطرة.. وفي ديمومة الاستقرار مصلحة للحزب وبيئته الشعبية..

هكذا يدير الحزب سياسته، هو لا يدفن رأسه في الرمل، ولكن يعتمد سياسة «براغماتية» تحاول، على الطريقة الإيرانية، إبعاد الخطر بأقل كلفة ممكنة، في ظل وضع متصاعد من الضغوط، على النظام في إيران، ليس بهدف احتوائه، بل بهدف إضعافه، وإسقاطه، على الرغم من القدرة الفائقة على احتواء الضغوط، بصرف النظر عن مدى توافر أو انعدام «الكفاءة الاقتصادية» في مواجهة الضغوط الأميركية على إيران في محاولة معلنة، ليس لإسقاط نظام السيّد الخامنئي، بل لإبعاد «الحرس الثوري» عن مقدرات القرار السياسي والعسكري والمالي في إيران، أو الجمهورية الإسلامية الإيرانية..

أقر الحزب ان أرقام الموازنة وإجراءاتها طالت الفئات الفقيرة، التي وفرت بيئة حماية اجتماعية آمنة لحزب الله.

6 – ولكن ما الصلة بين الموازنة، وتوطين النازحين واللاجئين؟ المعلومات تتحدث عن ان لبنان احتل المرتبة الأولى عالمياً في عدد النازحين المتواجدين على أرضه، وفقاً لدراسة عام 2017 كموقع (Word inden) فإن لكل 1000 مواطن لبناني 164 نازحاً.. ومن هنا تفهم الإشارة التي تحدث عنها الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، السبت الماضي.

… وبعد، ليس الأمر بجديد، أن تحكم ظروف المنطقة وأحداثها الوضعية الداخلية للطبقة الحاكمة في لبنان.. فالإقتصاد اللبناني يتأثر بالحروب العربية- الإسرائيلية منذ قيام دولة إسرائيل في 15 أيار 1948.. وهو تأثر بحرب 1976، وإغلاق قناة السويس، وقبل بالعدوان الثلاثي على مصر عام 1956.. ولكن الجديد، بأي طبقة اجتماعية- اقتصادية سياسية، بشرية، تعالج شؤون الدولة في بلد مثل لبنان، تفرض الشركات الكبرى الطامحة لاستثمار موارده البحرية و«اللاحفورية» (نفط ومشتقاته) في ظل مناخ استقرار.. بما في ذلك الموازنة..

هذا هو السؤال الصعب، الذي لا يتغيّر بتحول في ايديولوجية مَنْ يحكم، بل لماذا يحكم؟ مَن هو الذي يحكم؟

سأل أديمنتس سقراط (أفلاطون في محاورة الجمهورية) ماذا تعني بالنظام الأوليغاركي (الأوليغارشي)، فأجاب: «أعني به قدر الرجال بثروتهم، فيحتكر الأغنياء الحكم، وليس للفقير فيه.. حظ ما»؟! وهؤلاء الذين يتهافتون على حشد المال.. يفقدون الفضيلة.. إنها الأوليغارشية اللبنانية، ذهبت بوحدة الدولة، بين اغنياء يحكمون وفقراء يقهرون.. والمسألة أبعد بكثير بعد الموازنة.. وقبلها؟!