كتبت ميسم رزق في “الاخبار”:
يتواصل الحراك الأميركي بين لبنان والعدو الاسرائيلي، وتتكثف اللقاءات التي يعقدها دافيد ساترفيلد، والرسائل حول ترسيم الحدود البرية والبحرية. مرحلة جديدة دخلتها الإتصالات بعد موافقة كيان العدو على التلازم بين البر والبحر. يبقى الجواب الذي ينتظره لبنان حول المدة الزمنية للتفاوض التي يريدها أن تكون مفتوحة.
شهدت بيروت منذ بداية العام سلسلة زيارات لمسؤولين أميركيين، توّجها حضور وزير الخارجية مايك بومبيو للحث على ترسيم الحدود مع فلسطين المحتلة. منذ ذلك الحين صارت العاصمة اللبنانية محطة شهرية لمساعده لشؤون الشرق الأدنى دايفيد ساترفيلد.
وبنتيجة هذه الزيارات، بدأت المساعي الفعلية لإطلاق مسار التفاوض مع كيان العدو. استوجب الأمر تحرك ساترفيلد على خط بيروت – تل أبيب، من دون أن يتوقف الأميركيون عن تخطي الخطوط الحمراء، ومحاولة فرض تسويات تراعي الخاطر الإسرائيلي. غيرَ أن توحّد الموقف اللبناني حول الآلية أعادهم خطوة الى الوراء، فقبلوا ومعهم الإسرائيلي ببعض ما كانوا قد رفضوه سابقا. مهما كانت أهداف هذا التراجع وأسبابه المباشرة – التي حتماً تصُبّ ضمن المصلحة الإسرائيلية – يبقى أن المسؤولين اللبنانيين يؤكدون أنهم متنبهون لأي فخ منصوب.
قبلَ نحو أسبوعين، أتى ساترفيلد حاملاً أجواء «إيجابية». هكذا قيل يومها. لكن المعلومات كانت تؤكد خلاف ذلك، إذ «لا إتفاق بشأن نقاط الخلاف الأساسية، وأبرزها رفض العدو للتلازم في ترسيم الحدود بين البر والبحر، واقتراحه تبادل الأراضي، والخلاف على النقاط التي سيتم الإنطلاق منها للترسيم». الإيجابية الوحيدة، كانت في «قبول التفاوض برعاية الأمم المتحدة».
غادر ساترفيلد الى اسرائيل حاملاً «كدسة» من الملاحظات اللبنانية، ثم عاد أمس وفي جعبته «جديد». فما الذي حمله ساعي البريد الأميركي الذي لم يتوقف يوماً عن النطق باسم اسرائيل؟ هل هو جاد؟ أم أن الزيارات المتكررة ليست الا محاولة خادعة لطمأنة لبنان في موضوع الترسيم والإستخراج النفطي بهدف تثبيت الـ1701 على الجبهة اللبنانية، بالتوازي مع تنفيذ ما رُسم وخطط له إقليمياً ودولياً لفلسطين والمنطقة؟
الجو هذه المرة مختلف، عكسه رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي جالس ضيفه الأميركي ما يقارب ساعة ونصف ساعة، فأكد أن «الجانب الإسرائيلي وافق على أهم نقطة وهي التلازم بين البر والبحر. وطبعا إجراء المفاوضات في الناقورة برعاية الأمم المتحدة وضيافتها، وبحضور وسيط أميركي». وأشار بري أمام زواره أمس الى أن «هناك تقدماً بحاجة الى مزيد من الخطوات»، كاشفاً أن هناك نقطة غير متوافق حولها وهي “المدة الزمنية للتفاوض». ففي وقت يريد الجانب الإسرائيلي حصرها بستة أشهر، يصر لبنان على أن تكون مفتوحة، «كي نمنع العدو من المناورة في الوقت المحدد من دون الوصول الى نتيجة، وهذه المهلة يمكن أن تنتهي في يومين أو سنة». وأضاف رئيس المجلس أن «ساترفيلد أكد أنه سيتصل بالجانب الإسرائيلي أو يزوره لنقل الموقف اللبناني ومن ثم يعود بالجواب».
هل نحن أمام اللمسات الأخيرة؟ يشير الرئيس بري الى «أننا ننتظر الجواب الأخير وحينها سنطلع الجيش على الإتفاق كي ندخل مرحلة تنفيذه». وماذا عن بعض اقتراحات العدو، كتبادل الأراضي، أي تخلي الجانب الإسرائيلي عن جزء من أراضي بلدة العديسة يلامس الطريق العام الرئيسي للبلدة، في مقابل حصوله على ما يوازيه من الأرض اللبنانية تبعاً لمتطلبات أمنية وعسكرية لجيش الاحتلال، أجاب بري بأن «طرحهم قائم وموقفنا معروف، وبالتأكيد سيعاودون البحث به على الطاولة»، مشيراً في الوقت عينه إلى أن «مزارع شبعا خارج البحث».
وفيما لم تفصل بعض الأوساط النزاع الحدودي البري والبحري بين لبنان والعدو عن مسار «صفقة القرن»، ومحاولة «سحب الذرائع من أمام حزب الله للاحتفاظ بسلاحه»، وتنفيذ الإتفاق ليكون قوة دفع لإطلاق الحوار حول استراتيجية وطنية للدفاع تحصر السلاح بيد الدولة، أشار بري الى أن السبب الوحيد والأساسي الذي يجعل الجانب الإسرائيلي مستعجلاً هو «المصلحة الإقتصادية». بمعنى أنه «يبحث عن شركات دولية للتنقيب عن الغاز والنفط، ولن يكون هناك شركات في حال لم يتم الإتفاق بين البلدين نتيجة الشعور بعدم الأمان. ولو كانت لدى اسرائيل شركات متخصصة في هذا المجال لما سأل عن الترسيم».
وكان ساترفيلد التقى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس الحكومة سعد الحريري ووزير الخارجية جبران باسيل. وبحسب مصادر متابعة للملف، لم تقترِب المفاوضات حول آلية ترسيم الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة من خواتيمها، لكنها لم تعد في الأمتار الأولى. خطورة المسألة أو دقتها تكمن في أنها «سلة متكاملة. إما أن يوافق الإسرائيلي على الشروط اللبنانية كلها، ومنها ما هو مبدئي ومنها ما هو تقني، وإما لا تفاوض». والطرف اللبناني، بحسب المصادر، يسعى إلى اتفاق على آلية ليس فيها «خرم ابرة» يستطيع أحد التسلل منها لإفشال التفاوض، مشيرة الى «ضرورة البقاء متيقظين، وعدم الوثوق بالوسيط الأميركي».
حتى اليوم، لم يتبين بعد سبب المرونة المستجدة في موقف الولايات المتحدة الأميركية من ترسيم الحدود البرية والبحرية. فمنتصف الشهر الماضي، كان الموقف الأميركي الرسمي الذي تبلغه لبنان من ديفيد ساترفيلد نفسه، لا يزال متشدداً، ومتبنياً وجهة النظر الإسرائيلية بالكامل، ويرفض أي بحث في أي اقتراح خلاف ذلك. خلال لقائه وفداً لبنانياً ضمّ كلاً من النائبين إبراهيم كنعان وياسين جابر، ومستشار رئيس مجلس النواب علي حمدان، (نشرت «الأخبار» يوم 24 نيسان 2019، المحضر الرسمي للاجتماع – الصادر عن سفارة لبنان في واشنطن – تحت عنوان «واشنطن ليكس 2»)، قال ساترفيلد إنه تحدث إلى وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو وإلى كبير مستشاري الرئيس دونالد ترامب، جاريد كوشنير، لتوحيد الموقف باسم الإدارة الأميركية من ملف الحدود. واختصر الموقف الأميركي بتأكيد أن دور الأمم المتحدة سيكون لوجستياً وحسب. وقال إن الدعم الخارجي مشروط بتغيير مواقف حزب الله، وترسيم الحدود الجنوبية مشروط بالقبول بالولايات المتحدة وسيطاً وحيداً وبخط هوف (ما يعني التنازل عن نحو 360 كلم مربع من المياه اللبنانية)، وبفكّ الربط بين الحدود البحرية والحدود البرية، مهدداً بأن على لبنان أن يبحث عن وسيط آخر إن لم يقبل بهذه النقاط. ورفض ساترفيلد حينذاك، بصلافة، الاطلاع على دراسة قانونية عن وضع الحدود، ما دفع حمدان إلى أن يؤكد له أن أي مسؤول لبناني، وأياً من الرؤساء الثلاثة، لن «يتفاوض على كرامة لبنان».
غيرَ أن مداولات اللقاءات التي يجريها ساترفيلد حالياً تؤكد تراجع الولايات المتحدة عن دفتر شروطها، ما يطرح علامات استفهام كثيرة حول الخلفيات، خصوصاً أنها تأتي بالتزامن مع تطورات المنطقة، بدءاً من التوتر في الخليج، وصولاً الى التحضير لـ«إطلاق صفقة القرن» من بوابة مؤتمر البحرين الاقتصادي.