كتب رضوان مرتضى في “الاخبار”:
أصدرت المحكمة العسكرية الدائمة، برئاسة العميد الركن حسين عبد الله، حكمها في قضية المقدم سوزان الحاج والمقرصن إيلي غبش، المتهمَين بتلفيق اتهامات بالتعامل مع العدو الإسرائيلي للممثل المسرحي زياد عيتاني. بالإجماع، قررت المحكمة تجريم غبش وإنزال عقوبة الأشغال الشاقة 3 سنوات بحقه، وخفضها الى الحبس سنة واحدة. وباحتساب مدة توقيفه، غبش صار حراً منذ أمس. وبالأكثرية (3 من 5 أعضاء) قضت المحكمة بإبطال التعقبات بحق الحاج بجرم التدخل في اختلاق ملف التعامل للممثل المسرحي زياد عيتاني، وأدانتها بجرم مخالفة التعليمات العسكرية، وحبسها شهرين مع غرامة 200 ألف ليرة. وباحتساب مدة توقيفها سابقاً، صارت الحاج حرة أيضاً.
ما تقدّم ليس الحدث. الحدث كان في أداء النيابة العامة، ممثَّلةً بمفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي بيتر جرمانوس. الرجل هو ممثل الحق العام. وأمام هيئة المحكمة، هو خصم المتهمين. في هذه الحالة، هو خصم الحاج. لكن، أمس، لم تكن الأخيرة بحاجة إلى محامين للدفاع عنها. وكيل الدفاع عنها كان جرمانوس. القاضي نفسه هو المسؤول عن توقيف زياد عيتاني، وهو الذي ادعى على الحاج وغبش، لكنه حضر شخصياً ليطلب البراءة للرئيسة السابقة لمكتب مكافحة جرائم المعلوماتية. قبل نطق رئيس المحكمة بالحكم، نطق به ممثل الادعاء العام، فألقى باللوم على عيتاني الذي سُجِن ظُلماً أكثر من مئة يوم، ثم نظر إلى الحلقة الأضعف في القضية، المتّهم غبش، وخاطبه قائلاً: «قلتلي مبسوط تحت عند المعلومات؟ إيه خليك تحت»، بعدما طلب له العقوبة القصوى. كان النائب العام العسكريّ «يعاير» المتهم لرفضه الانتقال من سجن المقر العام لقوى الأمن الداخلي إلى سجن آخر، وكأنه يقول له إن طلبه تشديد العقوبة بحقه هو من باب النكاية.
كذلك بدا جرمانوس كمن لم يتمكّن من ضبط أعصابه، فأدخل قضية عيتاني ــــ الحاج ــــ غبش في إطار الصراع بينه وبين المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي وفرع المعلومات، على خلفيات متعددة، آخرها ما يُعرف بملف مكافحة الفساد في القضاء. فاسم جرمانوس ورد في إفادة موقوف واحد على الأقل. لكن القاضي رفض المثول أمام هيئة التفتيش القضائي، بذريعة أنه قاض عسكري لا مدني. وهو يتهم «الأمن الداخلي» بالزج باسمه في القضية، وسبق أن ادعى على فرع المعلومات بجرم تسريب التحقيق وغيره من الجرائم.
جرمانوس هو المسؤول الأول، قضائياً، عن سجن عيتاني نحو 109 أيام. وهو المسؤول الأول، قضائياً أيضاً، عن سجن الحاج وغبش. ويوم أمس، كان له النصيب الأكبر في براءة الحاج. وفي قضية عيتاني، لم يكن مسؤولاً بالتسلسل عن التوقيف. فهو شخصياً شارك في استجواب الممثل المسرحي، ما أدى إلى صدور قرار توقيفه.
سرد جرمانوس حكايته مع الملف. تحدّث عن «كبار الضباط» في أمن الدولة الذين زاروه في منزله لإبلاغه بتعامل ثلاثة أشخاصٍ مع العدو الإسرائيلي: قاضٍ وشخص من بلدة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله (لم يُفهم لماذا زج جرمانوس باسمه في «مرافعته» أمس) وعيتاني. قال إنّه طلب منهم توخّي الحذر وعدم توقيف عيتاني، إنما مراقبته لكون المشغّلة الإسرائيلية ستأتي إلى لبنان. وادعى أنّ سعي قوى الأمن الداخلي لتوقيف عيتاني، دفع بأمن الدولة إلى المسارعة إلى توقيفه. هنا تحدّث عن صراع بين الأجهزة الأمنية من دون أن ينجح في إخفاء حنقه من فرع المعلومات الذي دوّن اسمه على محاضر التحقيق في قضية الفساد القضائي. وزعم بأنّ ضباطاً من فرع المعلومات شاركوا في التحقيق مع عيتاني لدى أمن الدولة.
سجّل جرمانوس أكثر من سابقة في «مطالعته» الدفاعية. وجانب الصواب أكثر من مرّة. قدّم وصفاً لشخصية كل من عيتاني وغبش والحاج لإقناع الرأي العام بأنّ أمن الدولة لم يخطئ بتوقيف عيتاني، وأنه لم يُخطئ عندما أمر بالتوقيف. تحدّث عن استجوابه الممثل المسرحي في مركز توقيفه حيث دعاه لشرب القهوة وسمح له بتدخين سيجارة ليسرد عيتاني رواية مترابطة عن «تعامله مع العدو».
ذكّر بـ«كوليت التي كشف اسمها عيتاني، مقدماً وصفاً دقيقاً للباسها ولون فستانها»، قبل إحالته على القضاء العسكري حيث أنكر إفادته الأولية. وتحدث جرمانوس عن إمرار قاضي التحقيق العسكري رياض أبو غيدا استنابة «خلافاً للأصول ومن دون أن تمر عبري إلى فرع المعلومات للتوسّع بالتحقيق». عرّج على اعتراف غبش وإعلان اللواء أشرف ريفي أنّ الملف مفبرك في مقابلة تلفزيونية، وختم جرمانوس عن تغريدة كتبها عيتاني «فيها دعوة إلى التطبيع مع العدو عزّزت الشكوك». انتقل بعدها لتشريح شخصية غبش غير العادية ثم قال: «اللي منعرفو إنو مفبرك ٥ ملفات». وعلّق قائلاً: «هذا الشخص يستسهل فبركة ملف تعامل»، ليخلُص إلى أنّه «بيشتغل بالقُطعة مع الأجهزة».
أما بشأن المقدم الحاج، فقرر جرمانوس، بكل ذكورية وتمييز ضد المرأة، وضع ما قامت به في إطار كونها «واجهت مشكلة مع قيادتها، ما خلّف عندها اضطراباً في شخصيتها. هذا الاضطراب قد يكون مضاعفاً لكونها امرأة»! (هنا، ابتسمت الحاج). انطلق من هذه المقدمة ليقول إنّ الذي عرض الفكرة الجرمية هو غبش، ثم قدّم مطالعة تفصيلية دافع فيها عن المتهمة، ورفض حتى اعتبارها متدخّلة في الجرم. رأى أنّها متفرِّجة، لا أكثر! والتفرّج، في حالتها، ألا يُعتبر تدخّلاً؟ أليست ضابطاً كان يشغل مركزاً أمنياً حسّاساً، وبالتالي، كان يجب عليها منع وقوع الجريمة بحق عيتاني، أو إبلاغ رؤسائها لوقفها؟ لم ينجح جرمانوس في إخفاء حماسته للدفاع عن الحاج أو إدانة غبش وإلقاء اللوم على عيتاني. وكلاء الدفاع عن الحاج لم يكونوا بحاجة الى ممارسة مهمتهم. أمس، كان المحامون يتبنّون مطالعة الادعاء العام! وهذه سابقة، تستحق الدراسة.
ترافع بعد جرمانوس، وكيل الدفاع عن غبش المحامي جهاد لطفي الذي ركّز في مرافعته على أنّ موكله بريء من جريمة مستحيلة. واعتبر أنّ ما قام به موكّله كان «وضع طُعم»، وإن اعتُبر جرماً فإنّه لا يتجاوز جُرم التشهير. رأى أنّ المتهم لم يُفبرك جرم تعامل، إنما كان هدفه «يهِزّلو بدنو ويعرّضو للمساءلة». وختم أنّ اعترافات موكّله تندرج ضمن الجريمة الافتراضية لكون تقرير فرع المعلومات التقني أكّد أنّ جميع الوثائق الموجودة لا تُدين عيتاني. وإذ أعرب لُطفي عن اقتناعه بوجوب الادعاء على عيتاني بجرم تضليل التحقيق وإعلان براءة غبش لانعدام الركنين المادي والمعنوي للجريمة، استعاد عبارات كان يتحدّث بها غبش مع المقدم الحاج: «أمرُكِ لأنفّذ. وافقي لكمّل. إنا بعمل اللي بتريديه. انشالله يكون كلّو على ذوقك؟»، ليقول إنّ هذا الرجل اعتاد تنفيذ الأوامر.
بعد لُطفي، جاء دور وكيلي الحاج، المحاميين رشيد درباس ومارك حبقة. مطالعة درباس كانت حماسية. وقف الرجل المخضرم ليؤدي المرافعة باستعارات وأمثلة أعطتها شيئاً من التشويق رغم طولها. طالب ببطلان الإحالة لانتفاء الإسناد. وتحدث عن انتفاء الافتراء، معلناً تبنّيه مطالعة مفوض الحكومة ومرافعة وكيل خصمه. توجّه إلى هيئة المحكمة ليخبرها أنه يُريد الدفاع عن غبش. وقال: «جئت لأدافع عنه لأنه بريء، وليس بدافع الشفقة». شنّ بعدها هجوماً على عيتاني، منطلقاً من الحديث عن قطعة من حشيشة الكيف ضُبطت في منزله عند توقيفه: «لست أدري لماذا تُرِكت تلك القطعة مع أنّ السرّ يكمن فيها»، كأنه يعتبر أنها السبب خلف السيناريو الذي سرده عيتاني أثناء توقيفه! بدوره، تحدث حبقة عن مسائل عدة تثبت براءة موكّلته، أبرزها أنّ غبش جهّز الملف من دون تدخّل فني من الحاج. وأشار إلى أنّه في الاجتماع الوحيد الذي جرى في منزل المتهمة، لم يُطرح موضوع العمالة. وفي اللقاء الذي عقده المتهمان في مقهى «شي بول» في جونية، لم تطّلع موكّلته على تفاصيل الملف، كما لم تكن على دراية بالاتفاق الأمني مع أمن الدولة.
أكثر من مرة، رفع عيتاني يده طالباً الكلام. لكن رئيس المحكمة لم يأذن له.
لقد تمسّك وكلاء الدفاع عن الحاج وغبش ببراءة موكّليهما على اعتبار أنّهما يحاكمان على جريمة لم تحدث. و«لم تحدث» يُقصد بها أن القضاء أثبت براءة عيتاني. ربما لا يعتبرون سجن بريء لأكثر من 100 يوم جريمة. شبّهوا الملف بجريمة قتلٍ لا جُثّة فيها، محمّلين المسؤولية للضحية لكونه سرد إفادته بـ«ملء إرادته».
«سوزان الحاج مظلومة. إيلي غبش مظلوم. زياد عيتاني مظلوم»، عبارة قالها أحد المحامين. ربما تكون صحيحة. من الذي أجرم بحق بريئين ومظلوم؟ لا إجابة. ربما كان يجدر بجرمانوس، لو سمع هذه العبارة، أن يقف مطالباً المحامي بالاعتذار. فهو المسؤول عن توقيف البريئين والمظلوم. مسار المحاكمة أمس أثبت أمراً مختلفاً: ثمة جثة، ولا وجود لقاتل. ليس القاتل هنا مجهولاً. القضاء قال أمس إنه لا وجود لقاتل. كيف يُحل هذا اللغز؟ بسيطة، فلنقل إن زياد عيتاني انتحر!