كتب صلاح تقي الدين في صحيفة “العرب” اللندنية:
فيما انعقدت حكومة الرئيس سعد الحريري على مدى 19 جلسة متتالية لدراسة الميزانية العامة للدولة للعام 2019، كان يفترض بوزير الاقتصاد الوطني منصور بطيش أن يكون أحد المشاركين الرئيسيين في رسم السياسة الاقتصادية والمالية للبنان إلى جانب وزير المالية علي حسن خليل، إلا أنه بدا كممثل ثانوي يؤدي دور الكومبارس تاركا لرئيس تياره “الوطني الحر” وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل القيام بالدور المطلوب.
غير أن بطيش المشهود له بكفاءته الاقتصادية عندما كان يعمل في القطاع الخاص، وخاصة في القطاع المصرفي حيث يحتل منصب المدير العام في بنك “فرنسبنك”، انكب ولا يزال منذ تعيينه وزيرا للاقتصاد في حكومة الرئيس الحريري على وضع الدراسات الضرورية للنهوض بالاقتصاد اللبناني المتهاوي، وإخراجه من أزمته، وهو عقد لهذه الغاية العديد من المؤتمرات الصحافية لكي يعلن رؤيته المستقبلية لتعزيز النمو وإبداء ثقته بقدرة البلد على تجاوز الأزمة التي يمرّ بها.
المشكلة في المناخ
انتقد بطيش، في الواقع، في مؤتمر صحافي عقده عقب الانتهاء من دراسة الموازنة المسؤولين “بسبب تعميم أجواء عن واقع اقتصادي صعب”، إلا أنه لم ينكر وجود حلول. قال: “إننا أمام تحديات وطنية صعبة. وهذه المرة لها طابع اقتصادي. لكنني واثق بقدرتنا على تجاوزها، فالبلد يضج بالكلام عن الوضع الاقتصادي الصعب. والناس يتناقلون كلاما عن انهيار مرتقب. ويتساءلون فقط عن توقيته! وبعض المسؤولين يسهمون بتعميم مثل هذه الأجواء”.
ويضيف بطيش: “صحيح أن واقعنا الاقتصادي صعب، وإجمالي الدين العام يقارب 87 مليار دولار، وخدمة الدين وحدها قد تتجاوز الـ6.5 مليار. ولن أستفيض بالكلام عن عجزنا المالي أو التجاري، أو العجز في الحساب الجاري وميزان المدفوعات. وكلها أرقام غير مطمئنة. لكنني، وبصدق وشفافية، واستنادا إلى الأرقام نفسها، وإلى المعرفة بإمكانات البلد، أؤكد أن الحلول ممكنة، وليس هناك ما يستدعي هذا التهويل وبث السلبية بين الناس”.
غير أن “طلاقة” بطيش الاقتصادية لم تظهر خلال جلسات الحكومة لدرس ومناقشة الأرقام المالية في الموازنة والتي تتضمن أيضا رؤية اقتصادية مستقبلية لإخراج لبنان من الأزمة التي يعاني منها لأسباب كثيرة لعلّ أكثرها إيلاما هي استضافته أكثر من مليون ونصف مليون لاجئ سوري، ليس قادرا على مواجهة الأعباء التي ترتّبت على هذا اللجوء وفي مقدمها الأعباء الاقتصادية.
تولّى باسيل تلك المهمة، وقدّم ورقة تضمنت أفكارا اقتصادية أطالت من “عمر” النقاشات وبالتالي تأخر إقرار الموازنة في مجلس الوزراء، بدا بطيش أثناءها مستمعا إلى طروحات “رئيسه” والطروحات المضادة التي كانت تقدّم من قبل سائر الوزراء، من دون أن يكون له أي دور فيها، مستسلما لواقع أن باسيل هو “الآمر الناهي” حتى في الأمور الاقتصادية.
بطيش من مواليد العام 1954 في بلدة فاريا الكسروانية، ويتولى منصب مدير عام في فرنسبنك منذ يناير 2005. كلّف برئاسة لجنة الدراسات في جمعية مصارف لبنان منذ العام 2013 ولا يزال عضوا فيها منذ عام 1999، علما بأنه كان قد عين رئيسا لها خلال 2008 – 2009. هو أيضا عضو في المجلس الاقتصادي والاجتماعي منذ العام 2017 ويرأس لجنة القضايا الاقتصادية العامة في المجلس.
فلسفة اقتصادية شفهية
بعد توليه وزارة الاقتصاد، كانت لبطيش سلسلة مواقف مالية واقتصادية لافتة، كان يلجأ في غالب الأحيان إلى مواقع التواصل الاجتماعي وبخاصة موقع “تويتر” للتعبير عنها، لكنه حين أعلن أنه وضع دراسة شاملة حول الوضع الاقتصادي، عقد مؤتمرا صحافيا بدأه بانتقاد السياسة المالية للدولة اللبنانية، فبدا وكأنه يغرّد خارج سرب المسؤولين الحاليين والسابقين، منتقدا أداء حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي يعترف القاصي والداني بدوره الإيجابي في المحافظة على الاستقرار النقدي والمالي وسعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار وباقي العملات الأجنبية.
يقول بطيش: “لقد اعتبر حاكم مصرف لبنان أن العجز المالي هو مصدر كل العلل، ودعا إلى تقليص حجم القطاع العام، كشرط وحيد لضبط هذا العجز، مشيرا إلى أن حجم القطاع العام كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي ارتفع من 17 في المئة قبل الحرب إلى 35 في المئة اليوم. لذا طالبت بأن يقدم لنا حاكم مصرف لبنان دراسة تبيّن الواقع. وأعتقد أنه التبس عليه بين مساهمة القطاع العام في الناتج المحلي الإجمالي، وبين نسبة الإنفاق العام إلى هذا الناتج. وهما أمران مختلفان، إذ إن مدفوعات الفائدة وحدها استأثرت بأكثر من ثلث الإنفاق العام بين عامي 1993 و2018 وبالتالي، لا يعبّر الإنفاق العام عن مساهمة القطاع العام أو حصته في الاقتصاد. ولكن، على الرغم من هذه الملاحظة الأساسية، التي تتعلق بفهمنا للقطاع العام، ودوره وحجمه والحاجة إليه، فإننا لا نختلف على أن نسبة العجز المالي مرتفعة قياسا إلى حجم الاقتصاد اللبناني، ولا بد من إجراءات سريعة لتخفيض هذه النسبة والحد من تنامي العجز والمديونية”.
وبالنسبة لكثيرين، فإن انتقاد بطيش لسلامة يصب في خانة السياسة التي ينتهجها “التيار الوطني الحر” ورئيسه الذي يحاول بكافة الأشكال وضع يده على جميع مفاصل الدولة اللبنانية تحضيرا لمعركة الرئاسة المقبلة، والتي يعتقد معظم الفرقاء السياسيين أنها الهدف الأول لباسيل.
اعتبر بطيش أن الهدف من المادة 117 من قانون النقد والتسليف “نشر ميزانية مصرف لبنان” هو مراقبة عمليات مصرف لبنان واعتماد الشفافية في الإفصاح عنها. و”لكننا إلى الآن لم نطلع على تقرير شامل، يوضح العمليات التي يقوم بها مصرف لبنان، تحت عنوان الهندسة المالية. ما هي هذه العمليات؟ ولماذا تجري؟ وكم تبلغ كلفتها؟ وهل نجحت في تحقيق أهدافها؟ وما هو أثرها على الاقتصاد والمالية العامة؟ إن سياسة رفع أسعار الفائدة والهندسات المالية هي من الأسباب البارزة لرفع كلفة تمويل الدولة والاقتصاد، وبالتالي لا يمكن تصور إصلاح جدي للمالية العامة، لا يتضمن إصلاحا موازيا للسياسة النقدية، وكذلك إصلاحا لسياسات الدعم والحوافز، لجعلها أكثر استجابة للنهوض بالإنتاج والخدمات ذات القيمة المضافة العالية”.
أين كانت هذه الفلسفة المالية والاقتصادية أثناء جلسات مناقشة الميزانية؟ سؤال تداول به عدد كبير من المسؤولين الاقتصاديين والماليين إلى جانب بعض القوى السياسية التي كانت استحسنت بداية عمل بطيش الوزاري، ولمَ لم يدل بدلوه ليدافع على الأقل عن وجهة نظره، فهو مسؤول بشكل رئيسي عن رسم الخطط الاقتصادية والإصلاحية التي وردت في مقررات مؤتمر “سيدر” لدعم لبنان ونهوضه؟
صاحب الاستقالة المبكرة
من المقترحات التي قدمها بطيش، والتي اعتبرها “عاجلة” لإنقاذ الوضع الاقتصادي، “مكافحة التهرب الضريبي وتحسين الجباية، إحداث صدمة إيجابية من خلال تحسين إدارة الدين العام ترمي إلى تخفيض كلفته، إعادة النظر في القروض المدعومة وفي آلياتها المعتمدة، التركيز على زيادة الإنتاج والتصدير والتخفيف من الاستيراد”.
وهو يقترح ثلاثة مشاريع قوانين، هي “مشروع قانون لإصلاح النظام الضريبي، لجعله أكثر كفاءة وعدالة. مشروع قانون يعيد النظر في هيكلية الدولة، بعد دراسة الحاجات، فيتم إلغاء المؤسسات والمجالس والصناديق والهيئات التي لا حاجة إليها. مشروع قانون حديث، ينظم الإعفاءات والحوافز والرعاية المطلوبة للقطاعات الإنتاجية، ويساهم في تنمية المناطق، وزيادة الإنتاج والتصدير. ويتشدد في تغريم كل ضرر يطال البيئة أو تعد على الأملاك العامة والموارد الطبيعية والتاريخية”.
لكن وزير الاقتصاد لم يشأ أن يخفي “فرحته” بإقرار مجلس الوزراء الميزانية ورفعها إلى المجلس النيابي لدرسها وإصدارها بقانون، فهو استعان بموقع “تويتر” ليعلن أنه تقدّم بمقترحات “تؤسس لمناقشة موازنة العام 2020 وأبرزها مسح شامل لأملاك الدولة، إصلاح النظام الضريبي وإنشاء نظام نقل عام”.
وبمناسبة احتفال لبنان بعيد “التحرير” الذي يصادف في 25 أيار من كل عام، غرّد بطيش قائلا “تكتمل فرحة اللبنانيين بإنجاز تحرير أرضهم عند تحرير اقتصادهم من الريع وتحويله اقتصادا منتجا حيويا ومؤنسنا”.
ربما كانت أفكار بطيش الاقتصادية هي في مجملها تلك التي وردت في الورقة الاقتصادية التي قدّمها باسيل، لكن أن يصادر رئيسه هذه الأفكار ويجيّرها لنفسه، حالة تفسّر ما حكي عن أن باسيل أجبر الوزراء الجدد الذين تولوا مسؤولياتهم باسم “التيار” على توقيع استقالاتهم من الحكومة ووضعها بتصرفه قبل إعلان تشكيل الحكومة، فيكون بذلك متحكما بمصيرهم ومسارهم الحكومي وربما الشخصي.