كتب خيرالله خيرالله في صحيفة “العرب” اللندنية:
في الذكرى الـ14 لاغتيال سمير قصير، الكاتب والصحافي الذي واجه بقلمه وفكره نظام الوصاية السوري، وأحد صانعي “ثورة الاستقلال” في لبنان، لا يزال في بيروت مكان لممارسة الشجاعة والدفاع عن الإنسان العربي عموما والسوري تحديدا.
ما زالت بيروت تتحدّى الدرك الذي بلغته المنطقة العربية حيث لا مكان سوى لإلغاء الآخر. فالذين لم يكن في استطاعتهم مواجهة سمير قصير ولغة المنطق التي استخدمها، وكانت في الوقت ذاته لغة تحدّ، لجأوا إلى القتل. لجأوا إلى تفجيره بعد ركوب سيارته يوم الثاني من حزيران – يونيو 2005.
كان أوّل شهيد بعد اغتيال رفيق الحريري ورفاقه في الرابع عشر من شباط من تلك السنة. كانت مناسبة إحياء ذكرى سمير قصير، اللبناني- الفلسطيني- السوري، وقبل كلّ شيء عاشق بيروت، مناسبة كي تقول زوجته جيزيل خوري في وجود ممثلين عن السلطة اللبنانية كلّ الكلام الذي يجب أن يقال في المناسبة. قالت إنّه “إذا كانت هذه حال أوروبا، حيث العنصرية في تصاعد، فماذا يحصل في مجتمعاتِنا، حيث حال هستيريّة تعمّ المنطقة، مِن تشجيع على الإعدامات باسم الوطنيّة، وخطابات غرائزيّة تدعو إلى قتل الآخر جسديّا بإنهاء حياته، أو معنويّا بزجّه في السجون وتخوينه؟ هل رأيتم الأطفال أمام الكاميرات في سوريا، ينشدون الأغاني لقتل أبناء المذهب الآخر؟ هل سمعتم في لبنان مقدّمات نشرات الأخبار وخطابات السياسيّين التي تحمّل اللاجئين عبء الوضع الاقتصاديّ وعجز الموازنة؟ هل تتابعون جيوش ‘السوشيال ميديا’ في كلّ البلاد العربية بنشرها للكراهية؟ هل علمتم بصمت الصحافيّين عن جرائم بحقّ زملائهم؟ عندما قتل سمير قصير سنة 2005، قلت لأحد الصحافيّين: انتظر كي يجفّ دمه على الإسفلت قبل أن تتخاذل”.
لم تيأس جيزيل خوري. ذهبت جائزة أفضل مقال سياسي إلى شاب سوري. وذهبت جائزة أفضل تحقيق صحافي لشاب سوري آخر. وذهبت جائزة أفضل فيلم قصير إلى امرأة مغربية تكسب قوتها من قيادة باص في الدار البيضاء.
لا يزال في لبنان من هو متضامن مع ثورة الشعب السوري التي توقّعها سمير قصير قبل غيره، هو الذي آمن باكرا بأن “ربيع دمشق” آت لا محالة.
كانت ذكرى سمير قصير التي يساعد الاتحاد الأوروبي بإحيائها في بيروت مناسبة كي يقال الكلام الذي لا مفرّ من قوله عن تدهور وضع حقوق الإنسان في لبنان. قالت جيزيل خوري “اليوم، بعد أربعة عشر عاما، هناك شباب من بلادنا متوسّط أعمارهم 25 سنة، يبقى سمير قصير ملهمهم ليقودهم بكتاباته نحو الحرّية، هو الذي قال: ليس في لبنان صحافة حرّة بل هنالك صحافيّون أحرار”.
يذكّرني هؤلاء الشباب الذين يتبارون اليوم حول جائزتِه، بمقابلة أجريتها منذ سنوات مع مخرِج سينمائي لبنانيّ عاد إلى قريتِه بعد غربة خمس وعشرين سنة، وصور في فيلمه الذي منِع في لبنان قاتل والده ووالدته وخمسة من إخوانه وأخواته. سألته يومها: كيف استطعت أن تقف أمامه من دون الشعور بأنّك تريد قتله. فأجابني: “أنا فعلا قتلْته بِعدسة الكاميرا. هؤلاء الشباب هم هذه الكاميرا، أو الشّعلة السائرة نحو الحرّية والديمقراطية ودولة القانون”.
أوردت بعد ذلك الأرقام التي تدلّ على التراجع الخطير في مجال الحريات في لبنان، قالت “نحن موافقون، أنّ الوضع في لبنان هو الأفضل في المنطقة، لكنّنا، وثّقْنا ثمانين انتهاكا في لبنان، منها اثنتا عشرة حالة توقيف واعتقال لدى مختلف الأجهزة الأمنية؛ ثمانية عشر صحافيا وناشطا استدعوا إلى التحقيق بسبب ما نشروه. هناك دعاوى قضائية لا تحرّك إلّا ضدّ الذين لا يحظون بالغطاء الحزبيّ والطائفيّ طالت ما لا يقلّ عن عشرين صحافيّا. ثمانية أعمال فنّية من مسرحيّات وأفلام منِعت، أو اقتطع منها مقصّ الرقابة. ستة اعتداءات جسدية على صحافيّين ومصوّرين. وللمرة الأولى منذ سنوات، أربعة أحكام سجن بحقّ صحافيّين. كلّ هذا عام 2018 وحده”.
يظلّ لبنان مختلفا. يحاول تعريف العالم الذي يحيط به على معنى الحرّية التي كان سمير قصير رمزا من رموزها. لذلك لم يكن من حديث بين الذين حضروا الذكرى الـ14 لغياب سمير سوى الحملة على الحريات التي يتعرّض لها لبنان والخوف على عملية تسييس القضاء، خصوصا بعد الحكم الذي صدر بإبطال التعقبات لسوزان الحاج وهي ضابط برتبة مقدّم في قوى الأمن الداخلي لعبت دورا في ملاحقة المسرحي زياد عيتاني في قضية تتعلّق بالتعامل مع إسرائيل.
عَكَس ذلك الحكم الصادر عن المحكمة العسكرية الخوف على كل ما عمل سمير قصير من أجل الانتهاء منه والذي دفع من حياته ثمنا له. ولكن، على الرغم من أجواء القمع ومصادرة الحريات في لبنان، يظلّ سمير قصير مصدر أمل. إنّه مصدر أمل للبنان وسوريا وفلسطين. فمرّة أخرى أظهرت المؤسسة التي تحمل اسمه (SKEYES)، ومعناها عيون سمير قصير، شجاعة منقطعة النظير في مقاومة الأنظمة المستبدّة من جهة وتصحيح وضوح الرؤية السياسية التي بدأت تغيب لدى كثيرين في لبنان من جهة أخرى.
في عزّ سطوة النظام الأمني السوري – اللبناني، الذي يوجد حاليا من يسعى إلى استعادتها، بقي سمير قصير يمثّل الأمل والشجاعة والوضوح في آن. الأكيد أن كثيرين من بين الذين عملوا من أجل بقاء ذكراه حيّة ما زال مستعدّا للمحافظة على هذا الأمل وعلى الشجاعة والوضوح في وقت تمرّ المنطقة كلّها في مخاض حقيقي ليس أفضل ما يعبّر عنه أكثر من إزالة “حزب الله” الحدود بين لبنان وسوريا ومشاركة إيران عبر ميليشياتها المذهبية في الحرب على الشعب السوري.
من وجهة نظر سمير قصير، لا يزال الشعب السوري يقاوم. ليس صدفة أن جائزتين من أصل ثلاث جوائز ذهبتا إلى شابين سوريين كتبا بدقّة وأجرى أحدهما تحقيقا في العمق يتناول القمع الذي يمارسه النظام السوري.
رأى سمير قصير المستقبل منذ ما قبل 2005 حين احتفل على طريقته بخروج العسكر السوري من لبنان مباشرة بعد اغتيال رفيق الحريري. وقف في وجه هذا الوجود قبل غيره. لاحقته الأجهزة الأمنية قبل غيره. ليست ذكراه في السنة 2019 سوى قراءة لما هو آت على الرغم من كلّ الممارسات الشاذة التي يشهدها لبنان والتي لا تذكّر سوى بالسنوات التي سبقت اغتيال رفيق الحريري وأجواء الرعب التي حاول بثها الذين اغتالوه في المرحلة التي امتدت بين 2005 و2019، وهي مرحلة كان سمير قصير من ضحاياها.
ما هو آت، وخلافا لكلّ ما يعتقد، هو اليوم الذي سيمثل فيه النظام السوري بكلّ رموزه أمام محكمة دولية. لم تكن الذكرى الـ14 لغياب سمير قصير سوى وقفة شجاعة ومساهمة متواضعة في تأكيد أن “ربيع بيروت” لا ينفصل عن “ربيع دمشق”. إنّه تلازم في المسارين على طريق الحرّية، تلازم يكشف كم كان سمير قصير على حقّ وكم كان بعيد النظر…