كتب نقولا ناصيف في “الاخبار”:
في كل مرة دخل وزير جديد للدفاع إلى اليرزة، ثمة نصيحة تنتظره من مخضرم عايش المؤسسة العسكرية عقوداً: يكفي ان تلتقط صورة جوّية لمبنى وزير الدفاع واخرى لمبنى قيادة الجيش، كي تنتبه الى حجم الفارق بين صاحب القرار السياسي وصاحب القرار العسكري في هذا الحرم.
العبارة كافية كي تقول ان اهل البيت ادرى بشؤونه من الداخلين اليه. الاهم فيها انها تضع حداً فاصلاً بين ما هو سياسي وما هو عسكري.
لم يكن كلام قائد الجيش العماد جوزف عون، السبت من متحف فؤاد شهاب، الا استعادة لذلك. دق ناقوس الخطر عندما كشف عن وطأة الخلاف بينه وبين حكومة الرئيس سعد الحريري اذ تدعوه الى تقاسم كلفة الدين والعجز في خزينة الدولة اللبنانية مع اللبنانيين والقطاع العام، تسبّبت فيهما الطبقة السياسية الواحدة طوال ثلاثة عقود من وجودها في السلطة ومدّ يدها الى المال العام، هي نفسها المقيمة اليوم في مجلس الوزراء. ابرز انموذج لهذا الاشتباك، السجال الذي احاط بالتدبير 3 في مشروع قانون موازنة 2019. مع انه أُخرج منه في الجلسة الـ20 لمجلس الوزراء، بيد ان المشكلة مع الجيش لا تزال في اولها. كذلك احتجاج قائد الجيش لا يزال في اوله.
ضمر مشروع الموازنة وضع الجيش بنداً اول في مسلسل الاقتطاعات، لم يكن الكثير الذي قيل عن التدبير 3 آخره، ما احيا في ذاكرة ضباط كبار وجهة نظر فاتح بها الرئيس الراحل رفيق الحريري، في اولى حكوماته عام 1992، القائد السابق للجيش العماد اميل لحود. لمّح امامه الى ان التعويل في المرحلة المقبلة هو على قوى الامن الداخلي اكثر منه على الجيش، والحاجة ستكون – مع اقتراب ربيع التسوية والسلام في المنطقة تبعاً لرهانه حينذاك – في الداخل الى الشرطة لا الى الجيش. اضف ان الموازنة الكبيرة التي أُعطيت الى الجيش في مرحلة بناء شرعية ما بعد اتفاق الطائف، قادت الحريري الاب الى القول للحود ان الجيش يقبض اكثر مما يُستفاد منه.
كان هذا المفهوم اول عهد المرحلة تلك في اكثر من صدام بين الجيش والحريري الاب ووزير الدولة للشؤون المالية فؤاد السنيورة، وزير المال الظل، سواء بمحاولة خفض موازنة وزارة الدفاع، او الاشتباك الذي حصل بعد سنتين في مبنى وزارة المال، مروراً بأول سلسلة رتب ورواتب للعسكريين وضعها السنيورة فصل فيها – خلافاً لسلسلة موظفي الادارة – اساس الراتب عن الملحقات به التي اضحت هدف الاقتطاعات. بيد ان لحود ربح المعركة تلك. ليس خافياً حجم الاضطراب حينذاك بين المؤسسة العسكرية والحكومات المتعاقبة للحريري. في جزء منها سعي الرئيس السابق للحكومة الى التدخّل في شؤونها، في مطلع صعوده في الحكم، على غرار مؤسسات اخرى في دولة ذلك الزمان.
مع ان الدافع المعلن اليوم للخلاف بين السلطة السياسية والجيش اقتصادي في ظاهره، بدعوة الحريري الابن وحكومته الجيش الى المشاركة في تسديد فواتير الفساد والاهدار السياسيين، غير ان في الامر ما يحمل الجيش على الاعتقاد بأن ثمة شيئاً ما في السياسة يستهدفه: عندما تُخفّض موازنة التغذية 8 مليارات ليرة بلا موافقته، ويُطلب منه تقنين شراء الذخائر وقطع الغيار ودورات ضباطه.
بعدما عُيّن اعضاؤه الجدد، ذهب المجلس العسكري برئاسة العماد عون الى مقابلة رئيس الحكومة، فسمع منه تأكيداً قاطعاً ان لا مسّ بتعويضات العسكريين العاملين والمتقاعدين ورواتبهم. قال الحريري مطمئناً ان امامه ابواباً كثيرة لخفض عجز الخرينة قبل التفكير في الوصول الى الجيش. لكن في الجلسة الاولى لمجلس الوزراء اضحت رواتب القطاع العام، بشقيه العسكري والمدني، في رأس اولويات الخيارات قبل أن يُرغمه الشارع على التراجع.
مراقباً مسار جلسات مجلس الوزراء، سجّل الجيش بضع ملاحظات:
1- رغم خفض موازنات عدد من الوزارات، الا ان حكومة الحريري حاذرت الاقتراب من المصادر الفعلية للانفاق والاهدار والفساد، المرتبطة مباشرة بمرجعيات سياسية هي المعنية بوضع اليد على المصادر تلك. وهو ما يصح على عدد لا يستهان به من الادارات والمنشآت «السود».
2 – فوجىء الجيش بتسليط الضوء على التدبير 3 كأنه احد مصادر الاهدار، فيما هو احد مصادر الاطمئنان، نظراً الى ان الفارق بين موظف مدني ومتطوع عسكري يكمن في الهامش الحيوي العريض: اخطار المهنة. منذ عام 1990 لا يزال التدبير 3 معمولاً به. ما لا يذكره كثيرون، على اثر اطاحة الجيش السوري العماد ميشال عون، اخترع ميشال المر وزير الدفاع في حكومة الرئيس عمر كرامي التدبير 4 الذي رفع تعويضات العسكريين الى 125% من اساس الراتب.
لم يرمِ التدبير 4 الذي استمر بضعة اشهر، سوى الى اجتذاب العسكريين المسيحيين الخارجين منهكين ومحبطين بعد 13 تشرين الاول 1990، ومحاولة اغرائهم بالولاء للقيادة الجديدة للجيش، وتالياً «شراء» عودتهم الى الجيش ولملمته في مرحلة اعادة بنائه. بعد ذلك استقرت المؤسسة العسكرية على التدبير 3، بتكليف الجيش حفظ الامن. الا ان البلاد عرفت التدبير 3 منذ النصف الاخير من الاربعينات الى النصف الاول من الخمسينات، ابان الصدامات والحملات العسكرية التي قادها الجيش في الهرمل ضد العشائر، وتحديداً آل دندش. آنذاك حمل التدبير 3 عنوان «الدنادشة». على مر ولاية لحود قائداً للجيش، تدنت نسبة التدبير 3 من 70% من اساس الراتب في مطلع التسعينات الى ان اضحت الآن 17%.
3 – رغم تقدير الجيش موقف رئيس الجمهورية في الجلسة الاخيرة لمجلس الوزراء، في 27 ايار، سحب التدبير 3 من السجال، ووضعه في عهدة المجلس الاعلى للدفاع كي يبته، الا ان مصير التدبير سيكون اولاً في قيادة الجيش، من ثم – لأنها المرجع المعني اساساً – تحمل اقتراحها الى المجلس الاعلى للدفاع كي يتبناه في توصية تحال الى مجلس الوزراء يقرّها. ما يبدو قاطعاً وجازماً لدى الجيش ـ وخلافاً لما ترومه السلطة السياسية ـ لا عودة ابداً الى التدبير 1.
المخرج الناضج لدى القيادة تقرّر في حصيلة اجتماع عقد الاثنين المنصرم 27 ايار، في مكتب العماد عون حضره قادة الاسلاك العسكرية الاربعة الاخرى: تدبير 3 للعسكريين على الارض بقطعهم وافواجهم اياً تكن يقعة انتشارهم من الداخل الى الاطراف، وتدبير رقم 2 لعسكريي الادارات والمكاتب ومؤسسات القيادة ووزارة الدفاع. اضف ان تطبيق التدبير 3 يلزم القيادة وضع 75% من العديد في الخدمة، بينما في حال الاستنفار – كما في الانتخابات – ترتفع نسبة الجهوز الى اكثر من 90%. من اجل ذلك فإن اقتراح الاسلاك العسكرية يضع جهوز العديد بنسبة 75% على الاقل. وهو واقع الجيش حالياً على كل الاراضي اللبنانية، اذ ينتشر بنسبة جهوز تصل الى 75%، ما يجعل القيادة عاجزة عن خفض النسبة في ظل المخاوف الامنية والتوترات الاقليمية. ما يقود ايضاً الى رفض ما تطالب بها السلطة السياسية: تدبير 3 على الارض بمخصصات تدبير 1.
4 – لا يزال الجيش يتحفظ عما ورد في مشروع الموازنة لجهة رفض التسريح قبل بلوغ السن القانونية ما لم يقترن بحسم 25% من التعويضات. في الجلسة الاخيرة لمجلس الوزراء سأل رئيس الجمهورية من غير ان يلقى جواباً: اجراء كهذا هل هو دستوري؟ الامر نفسه بالنسبة الى وقف التطويع في الاسلاك طوال ثلاث سنوات، من بينها الجيش بعديد هو الاكبر يبلغ نحو 82 الفاً. في كل سنة يتقاعد منه او يستقيل نحو الف عنصر، ما يجعل الرقم على مر السنوات الثلاث ذا تأثير بازاء المهمات الاستثنائية المنوطة به.