كتب فؤاد إبراهيم في صحيفة “الاخبار”:
لا جديد في الأزمة الخليجية. فالهاوية التي وصلت إليها، محمولةً على كمّيات هائلة من خطابات الكراهية، تبدّد جهود الوسطاء القريبين والبعيدين. وعلى طريقة بعض الساسة في جمهوريةٍ ما في كوكبنا، يبدو الخيار المفضّل هو اللجوء إلى «سياسة إغلاق الهاتف»، لتأخذ الأزمة أمداءها القصوى. ما يلفت الانتباه، أن شروط إنضاج التسوية لم تتوافر، ولا أحد يعمل عليها، وكأن التواطؤ الجمعي منعقد على إبقاء الأزمة، فقد أصاب الخدر مشاعر أطرافها، حتى باتوا يأنسون لبقائها، وربما يعتاشون عليها.
لم يكن ينقص الأزمة الخليجية إلا تصريح من وزير الخارجية القطري، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، حول تحفّظ دولته على بيانَي القمّتين الخليجية والعربية الأخيرتين؛ لكونهما صدرتا من دون «استشارة أحد»، معطوفاً على انسحاب رئيس الوزراء القطري، عبد الله بن ناصر آل ثاني، من القمّة الإسلامية، وتعليقات وزيرَي خارجية البحرين والسعودية، لنعرف أن غيمة «التفاؤل» التي ظلّلت مشاركة وفد قطري رفيع المستوى في القمم الثلاث في مكّة كانت عابرة، وأن الأعماق التي وصلت إليها الأزمة لا تُحلّ بمجرد مشاركة بروتوكولية.
على أي حال، لم تتلقّ قطر دعوة مبكرة لحضور القمم الثلاث، فقد وصلت الدعوة السعودية قبل أيام من انعقاد القمّة الخليجية، وكانت بوساطة كويتية، حتى إن مدير مكتب الإعلام في الخارجية القطرية، أحمد بن سعيد الرميحي، نقل عن وزير الدولة للشؤون الخارجية، سلطان بن سعد المريخي، قوله إن «قطر لا تزال معزولة من جيرانها الخليجيين، ولم تتلقّ دعوة لحضور المؤتمرين»، أي القمّتين الخليجية والعربية في مكّة. وفي 29 أيار/ مايو الماضي، أي قبل يوم من موعد القمّة، أعلنت الخارجية القطرية مشاركة قطر في قمم مكّة الثلاث، وبرّرت ذلك بأنها «تغلّب مرة أخرى المصلحة العليا للمنطقة على الخلافات البينية». وقد شاهد العالم الخاتمة البائسة لأحد الاختبارات الحاسمة في الأزمة الخليجية؛ حيث، ولأول مرة منذ اندلاعها، تشارك شخصية بمستوى رئيس وزراء في قمم مصمّمة لأجندة دولة خصم.
لقد أعاد فشل تجربة اللقاء الأخير في مكّة بين «الأشقّاء الألدّاء» الجدل حول القطبية الثنائية التي تشكّلت من وحي أزمة لم يشأ صانعوها إغلاق بؤرها، أو التسامي بأنفسهم فوق تداعياتها. فكان واضحاً منذ بداية الأزمة أن صنّاعها أحرقوا مراكب العودة، وأرادوها شاملة تخترق السياسي إلى الأيديولوجي (تهمة احتضان «الإخوان المسلمين»)، والقبلي (تحريض قبائل يام على قبيلة تميم الحاكمة في قطر)، والاقتصادي (الحصار الشامل البري والبحري والجوي)، والإعلامي (الحملات الدعائية المتواصلة ضدّ أركان الحكم في قطر)، وصولاً إلى العسكري (الإعداد لاجتياح عسكري أو انقلاب على نظام الحكم). بكلمة، لقد حدث ما يشبه قطع جذور لأسس العلاقة التقليدية بين قطر وجيرانها، وبات الجميع أمام خيارات اقتلاعية، أي بلوغ نقطة التعايش المستحيل، وهذا ما جعل الجهود الخليجية والدولية عقيمة.
لقد أصبحت نبرة الفراق أعلى من أي أصوات عقلانية، ما لبثت هي الأخرى أن خفتت. فالخطاب الافتراقي يوجّه اللاشعور الجمعي على ضفّتَي الأزمة، وبات الرسمي والأهلي يتقاسمان مهمّة ترسيخ خطاب القطيعة المتبادلة. في هذا السياق، نستطيع إمرار معلومة ذات طابع حقوقي؛ فهناك عشرات من المعتقلين من كتّاب وأدباء وشعراء في السجون السعودية بتهمة زيارة قطر أو التواصل معها أو العمل مع إحدى مؤسساتها. باختصار، شيطنة قطر وتوصيمها بدَوَا جزءاً من حرب «الرباعي» (السعودية والإمارات ومصر والبحرين) المفتوحة.
بعد استكمال عامين على الحصار، لا بدّ أن يكون القطري قد اجترح طرقاً جديدة للفكاك من عزلته القهرية، ولم يعد أسير رهانات الشقيقة الكبرى وتوابعها. هو يفعل ذلك بتوجيه غريزي لإنقاذ شعبه من الجوع والاختناق المعيشي، ويفعله أيضاً بحكم العلاقات التي نسجها في المسرحين الإقليمي والدولي في أعقاب أزمة الخليج الثانية (1990 – 1991). لقد تعلّم القطري، وفي مرحلة مبكرة، وبفعل سوابق مماثلة كان فيها التهديد بالحصار والحظر الجوي والتجويع، بل وقلب نظام الحكم، حاضراً في الذاكرة القطرية منذ ما بعد حادثة الخفوس في أيلول 1992، ومحاولة الانقلاب العسكري الفاشلة بتخطيط وتمويل سعوديَّين ومشاركة إماراتية وبحرينية ومصرية وأجنبية في شباط 1996.
هناك عشرات المعتقلين في السعودية بتهمة زيارة قطر أو العمل مع إحدى مؤسساتها
في المقابل، بدا عصيّاً على مهندسي الأزمة في «الرباعي» فهم أبعادها وتداعياتها، علماً بأن حلولاً غير تقليدية مطلوبة لحلّ أزمة باتت هي الأخرى غير تقليدية، وأن تعنّت «المحمّدين» (محمد بن سلمان ومحمد بن زايد) يجعل من أيّ حلّ مستحيلاً ما لم يستند الى دفتر الشروط المستحيلة. في 22 حزيران/ يونيو 2017، أعلن «الرباعي» شروط/ مطالب المصالحة الـ 13 الواردة جزئياً في وثيقة الرياض في نيسان/ أبريل 2014، والتي أضيفت إليها لاحقاً مطالب أخرى من قبيل: تخفيض مستوى العلاقة مع إيران، وإغلاق القاعدة العسكرية التركية وقناة «الجزيرة» الفضائية، واعتقال وتسليم مطلوبين موجودين حالياً على الأراضي القطرية، ودفع تعويضات إلى البلدان المذكورة. إن لم تكن تلك شروطاً تعجيزية، فما هي إذاً؟! في الحقيقة، الأمر لا يدور هنا حول مصالحة، بل قطيعة مبرّرة. وهو ما أفصح عنه بجلاء وزير الدولة للشؤون الخارجية في الإمارات، أنور قرقاش، في تغريدة له على «تويتر» في 14 تموز/ يوليو 2017: «متجهون إلى قطيعة ستطول… الحقيقة أننا بعيدون كل البعد عن الحل السياسي المرتبط بتغيير قطر لتوجّهها، وفي ظلّ ذلك لن يتغيّر شيء، وعلينا البحث عن نسق مختلف من العلاقات». شرح ذلك: ما دون ذلك هو الاستسلام التام، وهو ما عبّر عنه القطري بالمساس بالسيادة. القطري، بدوره، وضع شروطاً ثلاثة لأي تصفية لآثار الأزمة، وهي: الاعتذار للشعب القطري، رفع الحصار عن دولة قطر، الجلوس إلى طاولة الحوار.
وعلى وجه الإجمال، الزمن هذه المرة، وفي مرات وأزمات أخرى، كان له دور تدميري لفرص الحلّ؛ فقد كانت قابلية الأزمة للتوالد عالية، إذ جاوزت كل أزمة لاحقة أخرى سابقة أخفّ وطئاً، حتى تحوّلت الأزمة نفسها واقعاً معيشاً، يمكنه الدوام وبصلاحية مفتوحة. لم يفاجئ أحداً فشلُ الوساطة الكويتية المنقولة على الشاشة، حين أخذ أمير الكويت، صباح الأحمد الصباح، بيد ملك السعودية ليمدّها نحو يد ضيفه القطري، ولكن بدت حركة طفولية، إذ تصرّف سلمان بلامبالاة مفتعلة. مهما يكن، فليست المرّة الأولى التي تكون فيها المصافحة اختباراً في الخصومة والمصالحة. فقد لحظ وزير الخارجية البحريني، خالد بن أحمد آل خليفة، أن أمير قطر، تميم بن حمد آل ثاني، مرّ بجانب الملك سلمان في القمّة العربية في تونس أواخر آذار/ مارس الماضي ولم يصافحه. إن ما بات في حكم اليقيني أن الفشل هو الأوفر حظّاً في كل فصول الأزمة، وإن العلاقات غير المتكافئة التي عوّل «الرباعي» عليها في إرغام قطر، بمساحتها الصغيرة وتعداد سكّانها القليل، لم تحدث تغييراً فارقاً في لعبة استعراض القوة. بكلمة، إن الإدارة القطرية لمعركتها مع «الرباعي» كانت على قدر من الكفاءة والفاعلية، أدى إلى تحييد مفاعيلها على الداخل القطري أولاً.
إن تأكيد بيان القمة الخليجية في مكّة في 30 أيار 2019 على «قوة وتماسك ومنعة مجلس التعاون، ووحدة الصف بين أعضائه»، بَدَّده انسحاب الوفد القطري وتحفّظه على بيانَي القمّتين الخليجية والعربية، ولا سيما في ما يتعلق بالقصف التركي للشمال العراقي، وإعلان الخارجية القطرية «تضامن دولة قطر الكامل مع الجمهورية التركية الشقيقة في ما تتخذه من إجراءات وتدابير لحماية حدودها وحفظ أمنها واستقرارها». صوابية الموقف العربي إزاء التجاوز التركي على السيادة العراقية، لا يمكن فهمه خارج سياق صراع الأقطاب والمحاور، ولا سيما بعدما شكّل التركي والقطري قطباً شبه مستقل في مقابل القطب السعودي وحلفائه. يبدو تقاذف الاتهامات بين الدوحة والمنامة بتخريب مجلس التعاون الخليجي كما لو أنه إحدى قصص الكوميديا السوداء. وكان طريفاً ردّ وزير الخارجية البحريني على رئيس الوزراء القطري السابق، حمد بن جاسم، الذي حذر من محاولات هدم مجلس التعاون، فكتب خالد بن أحمد تغريدة في 10 أيار/ مايو الماضي، يردّ تهمة الهدم والتآمر إلى قطر، ويختم: «ورحم الله بلداً ــــ هكذا ــــ عرف قدره فوقف عنده. #قطر».
بدا الاستقطاب الثنائي في الأزمة واضحاً في نزوع «الرباعي» إلى فرض «أجندة» وترتيب أولويات مجلس التعاون والجامعة العربية معاً، وهذا الجوهر الحقيقي لتحفّظ قطر والعراق ودول أخرى. فالوزير البحريني يردّ على الجانب القطري بأن تقوية العلاقات بين الدول الأعضاء في مجلس التعاون ليست أولوية قطرية، وأن مشاركة الدوحة «كانت ضعيفة وغير فاعلة ولا تتناسب بأي حال من الأحوال مع أهمية هذه القمم وخطورة الظرف الذي انعقدت فيه والغايات المنشودة منها». إذاً، فالوزير «يحدب» على قطر لتدنّي مستوى تفاعلها في القمة من جهة، ويقرّعها لكونها تضمر «أجندة مضادّة». الوزير «الخليفي»، المعروف بـ«وزير الريتويت»، بات ممثلاً مُتوَّجاً من «الرباعي» في تطوّرات ملف الأزمة. ففي اللحظة التي تطفو فيها تغريداته على سطح «تويتر» يمكن قراءة مؤشر الأزمة؛ فهو يكتب ما يصل إليه عبر «واتسآب» الهاتف المحمول لأحد «المحمّدين».