كتب محمد وهبة في “الاخبار”:
يعمل وزير المال علي حسن خليل، وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، على طرفي نقيض. الأول يزعم أن هناك عملية ستُجرى بالتعاون والتنسيق مع مصرف لبنان والمصارف لإصدار سندات خزينة بقيمة 11 ألف مليار ليرة بفائدة 1%، ما يُلغي الحاجة لإدراج إنفاق إضافي في الموازنة بقيمة ألف مليار ليرة، والثاني ينفي أن يكون الأمر مطروحاً. أيهما يكذب على اللبنانيين؟
برز تناقض واضح بين ما يقوله وزير المال علي حسن خليل، وكلام حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، بشأن إصدار سندات خزينة بقيمة 11 ألف مليار ليرة بفائدة 1%. الوزير أعلن أنّ هذا الأمر سيكون بالتعاون والتنسيق مع مصرف لبنان والمصارف، فيما سلامة يؤكد أن الأمر غير مطروح. هذا التناقض يثير إشكالية أساسية، في ضوء انعكاسات هذا الأمر على مشروع موازنة 2019، إذ إن أرقام نسبة العجز إلى الناتج المحلي الإجمالي سترتفع من 7.5% إلى 8.5% كحدّ أدنى. كذلك، يعني كلام سلامة أنه لن تكون هناك مساهمة للمصارف في تقليص العجز، رغم أن 60% من أرباحها ناتجة من الدين العام، أما الأخطر، فأن تصبح الاكتتابات بقيمة 11 ألف مليار ليرة على عاتق ميزانية مصرف لبنان وحده، وأن تكون بالليرة اللبنانية وليس بالدولار.
تناقض أم احتيال؟
تضمن مشروع موازنة 2019 مبلغ 98 مليار ليرة لخدمة الدين في السنة الجارية بدلاً من 1100 مليار ليرة. هذا الفرق الشاسع في تراجع خدمة الدين، برّره وزير المال علي حسن خليل، في مجلس الوزراء وخارجه، بالإشارة إلى أن الوزارة ستصدر سندات بقيمة 11 ألف مليار ليرة بفائدة 1% لاستبدال سندات قائمة فائدتها أعلى، ما يخفض كلفة خدمة الدين بنحو ألف مليار ليرة. وفي 18 أيار الماضي، قال خليل لـ«رويترز»، إن هذه العملية ستجري بالتنسيق مع مصرف لبنان والمصارف بمجرد إقرار الموازنة.
في المقابل، برز كلام مناقض لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، في اللقاء الشهري مع المصارف. فبحسب محضر اللقاء رقم 233 المنعقد في 31 أيار 2019، وردّاً على سؤال وجّهه أحد أعضاء مجلس إدارة الجمعية «حول ما يُتداوَل به لجهة إصدار سندات خزينة بقيمة 11 ألف مليار ليرة يكتتب بها بفائدة مخفوضة»، فقال سلامة «إن هذا الموضوع غير مطروح وإنه صرّح بذلك عدّة مرّات في وسائل الإعلام أخيراً، إذ لا سيولة لدى المصارف تكتتب بها، ولا قدرة لها على أن تتحمّل الاكتتاب بفوائد خارج آليات السوق».
الكذب ملح «الدولة»
يستنتج من هذا التناقض أن هناك من «يكذب» على اللبنانيين. ثمة شقان لهذا الأمر: الشق الأول متعلق بانعكاسات هذا الأمر على مشروع الموازنة. فإذا تبيّن أن كلام خليل غير دقيق (علماً بأن رئيس الحكومة، سعد الحريري، أكّد أيضاً في مجلس الوزراء وجود اتفاق مع مصرف لبنان والمصارف بشأن الـ11 ألف مليار ليرة)، كيف ستصبح أرقام الموازنة إذا لم تكتتب المصارف بهذه السندات؟ مشروع الموازنة المعروض اليوم على مجلس النواب، يتضمن عجزاً نسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي 7.5%، وقد توصّل مجلس الوزراء إلى هذا الأمر بعد سلّة واسعة من الإجراءات التقشفية والضريبية التي أدّت إلى زيادة الإيرادات وخفض النفقات. ومن أبرز بنود خفض النفقات، خدمة الدين العام. ففي تقرير وزير المال أمام مجلس الوزراء، يشير إلى أنه جرى تضمين مشروع الموازنة اعتمادات لتسديد فوائد سندات الخزينة بقيمة 8312 مليار ليرة بعدما كان 8214 مليار ليرة في موازنة 2018، أي بزيادة 98 مليار ليرة فقط.
خليل: هذه العملية ستجري بالتنسيق مع مصرف لبنان والمصارف
لذا، فإنه إذا تبيّن عدم صحّة الكلام عن الاكتتابات بفائدة مخفضة، فإن كلفة خدمة الدَّين العام ستزداد بقيمة 1000 مليار ليرة بالحدّ الأدنى، ما يعني أنّ النفقات المتوقعة سترتفع من 23315 مليار ليرة إلى 24315 مليار ليرة، وبالتالي سترتفع نسبة العجز إلى الناتج المحلي الإجمالي من 7.5% (كما وردت في مشروع الموازنة) إلى 8.5% بالحدّ الأدنى… ما سيؤدي عملياً إلى فشل الهدف الذي حدّدته الحكومة لنفسها، وتصبح مضطرة إلى أن تبحث عن المزيد من الإيرادات أو من الإجراءات التقشفية الإضافية لتعويض هذا المبلغ.
الخيارات: بين سيئ وأسوأ
الشق الثاني متصل بمصير هذه «الهندسة» بكل نتائجها. إذا كان سلامة يسعى لإعفاء المصارف من وجوب تحمّلها لجزء من عملية التصحيح المالي الطوعي عبر إعفائها من الاكتتاب بمبلغ الـ11 ألف مليار ليرة بفائدة 1% تحت عنوان الحفاظ على ربحيتها التي تسهم في خلق الثقة التي تستقطب التدفقات الرأسمالية من الخارج بالدولار، فهذا يعني، عملياً، أن مشروع الموازنة أمام خيارين: زيادة العجز عما توصّل إليه مجلس الوزراء، أو تحمّل مصرف لبنان أعباء التصحيح وحده. وبالتالي، إنّ هذا الأمر سينعكس سلباً على ميزانية مصرف لبنان المنفوخة أصلاً، التي تبلغ 124 مليار دولار، أي ما يوازي 2.2 الناتج المحلي الإجمالي البالغ 55.9 مليار دولار في 2018.
الخيار الثاني، أي تحمّل مصرف لبنان أعباء هذا التصحيح، ينطوي على الكثير من المخاطر. فمن جهة، يمكن مصرف لبنان أن يخلق المزيد من النقد ويكتتب فيه بالسندات المخفضة الفوائد، لكن هذا الأمر سيزيد المشكلة النقدية سوءاً، إذ إن كل ليرة لبنانية يخلقها مصرف لبنان ويضخّها في السوق تنعكس طلباً على الدولار، وهو أصلاً يسعى إلى تقليص قيمة الرساميل السوقية للحدّ من الطلب على الدولار كما فعل عندما خفّف من دعم القروض السكنية. وفي هذه الحالة أيضاً، سيُنقَل جزء من الدين إلى مصرف لبنان بهدف إجراء تجميل محاسبي لأرقام الموازنة التي تجري على أساس الدين الحكومي ولا تتضمن كافة الديون على الدولة اللبنانية، إذ يقول سلامة في اللقاء الشهري إن «الدين العام الصافي هو 48 مليار دولار، وليس 85 مليار دولار». بقوله هذا، يستثني سلامة ديون القطاع العام بكاملها ويروّج لمسألة خطيرة مغرية، مفادها أن الدين العام هو الدين السوقي فقط، علماً بأن الدولة تدفع الفوائد لكل حملة السندات، بما فيهم مصرف لبنان وباقي القطاع العام من صندوق الضمان الاجتماعي ومؤسسة ضمان الودائع وغيرها.
خسائر إضافية لـ«المركزي»
النقاش في هذا الخيار ليس محصوراً بذلك، بل ثمة جزء منه يتعلق بعملة الدين الذي يجب خفض كلفته، إذ لن تكون هناك جدوى نقدية واقتصادية حقيقية من استثناء سندات الدولار من عملية التصحيح الطوعي، لأن مشكلة الاقتصاد اللبناني هي مشكلة عجز ميزان المدفوعات الناتج من النقص في تدفقات الدولارات من الخارج… أي خيار لا يدخل ضمنه استبدال سندات بالدولار فائدتها مرتفعة بسندات جديدة فائدتها منخفضة سيبقي النزف في الدولارات التي يحملها مصرف لبنان دفاعاً عن تثبيت سعر صرف الليرة، قائماً.
في الواقع، قد يكون هناك مسارات إضافية لهذا التناقض، أي أن يلجأ مصرف لبنان إلى الاكتتاب بالسندات المخفضة الفائدة ثم يبيعها للمصارف عبر هندسات مالية تعوّض لهم انخفاض الفائدة، وبالتالي تسجيل خسائر إضافية في ميزانية مصرف لبنان، أو شطب ديون الدولة من خلال إعادة تقييم فروقات الذهب أو من خلال تسجيلها خسائر في ميزانيته. هذا الخيار يشي بأن الكتلة الحاكمة ستواصل القيام بما قامت به منذ مطلع التسعينيات إلى اليوم، ما دامت هناك قدرات محاسبية بهذا المستوى.
موديز: ضغط إضافي على ربحية المصارف
لطالما كان الهدف لدى مصرف لبنان الحفاظ على مستوى ربحية المصارف. المصارف ربحت في السنة الماضية أكثر من 2.6 مليار دولار، وهي ليست على استعداد للتضحية بربع هذا المبلغ من أجل المساهمة في إنقاذ الوضع المالي للبنان، رغم أنها راكمت الكثير من الأرباح والرساميل على حساب المال العام على مدى أكثر من عقدين ونصف. وبحسب تقرير صادر عن «موديز»، فإن مشاركة المصارف في العملية التي كشف تفاصيلها وزير المال علي حسن خليل، والاكتتاب بسندات خزينة بقيمة 11 ألف مليار ليرة بفائدة 1%، سيؤدي إلى «ضغوط على ربحية المصارف التي تتعرض أصلاً لضغط من الضعف الاقتصادي الذي أدّى إلى ارتفاع أكلافها (ارتفاع الفوائد) والضرائب الإضافية التي أقرّت في 2017 (المقصود بها زيادة ضريبة الفوائد من 5% إلى 7%)».