كتب جوزف طوق في صحيفة “الجمهورية”:
بربّكم يا لبنانيين.. بربّكم هل انتبهتم الى أننا منذ انتهاء الحرب اللبنانية ليس لدينا شيء نتحدّث عنه سوى مشاكل السياسيين ومناكفاتهم الصبيانية المقيتة. بربّكم، هل انتبهتم الى أننا لا نتخاطب سوى في مواسم قطاف الأصوات الإنتخابية وتعبئتها في صناديق الإقتراع.
بربّكم، هل تتذكّرون أننا درسنا في كتب المدرسة حجمَ اعتماد الإقتصاد اللبناني على القطاع الزراعي. ومع هذا، لا نحن ولا أحدَ من المنصِّبين أنفسهم مسؤولين، يستعيرون منبراً للحديث عن مواسم قطاف الخضرة والفواكه، ولا من يحاسب التجّار، الذين يصادرون عرق جبين المزارعين ويقدّمون لهم صناديقَ قعرها مفخوتة من كثرة النصب والاحتيال.
خلّونا نحكي بطائفية.. خلال الحرب العالمية الأولى كان المحتلّ العثماني يفرض حصاراً خانقاً على قرى جبل لبنان، وسبَّب مجاعة مفروضة بقوّة الدين والسلاح، أدّت إلى وفاة أكثر من ثلث سكّان هذه المنطقة. وكأن اللبنانيين في وقتها لم يكن يكفيهم بطش جمال باشا السفّاح، وكأنّ القدر استكثر عليهم شوية بقلة وجرجير وحشائش بريّة تنمو على ضفاف السواقي، فجاء الجراد في العام 1915 ولم يترك لهم سوى باب جيرانهم يطرقونه من أجل رغيف خبز.
ويقول المسنّون الموارنة في مناطق الشمال، إنّهم لم يجدوا سوى جيرانهم السنّة في طرابلس وعكّار والمنية والكورة ليسدّوا جوعهم، من كرمهم وحسّهم الانساني الوطني.
يمكن نحن نسيَنا دروس التاريخ، لكن أهل أقضية بشرّي وتنورين وإهدن وعكار والضنيّة، لا يحتاجون إلى تذكُّر كتب التاريخ ليعرفوا طعم القسوة ويشمّوا رائحة المجاعة.. وكأن الطبيعة لم تنتبه إلى الوضع الاقتصادي المروّع المفروض من «صبيان الدولة» على مئات آلاف اللبنانيين. وكأن الطبيعة استكثرت على هؤلاء الساكنين في أعالي الجبال شوية تفاح وكرز ومشمش وبندورة وكوسى وخيار.. ففي 13 دقيقة فقط، وفي عزّ الصيف ومواسم الخير، وبعد ظهر السبت 8 حزيران، هطلت زخّات من البَرَد قضت حرفياً وبشكل تام على الموسم الزراعي، وتركت العائلات التي تعبّي صناديق الاقتراع تبحث عن ربٍّ يعبّي لها الصناديق، التي تدفع من ثمنها ديونها وكمبيالاتها وأقساط مدارسها وجامعاتها وأكلها وشربها.
تزور قرى بشري وتنورين وإهدن والضنيّة، فتجد الرجال مجتمعين في الساحات وعيونهم مغرورقة بالدموع، وتحسّ كما لو أنّ أحذيتهم ملطّخة بدماء خيراتهم المغتالة من غضب الطبيعة ووقاحة البَرَد. يترحّمون على أرزاقهم، كمن يترحّمون على ضناهم، ولا شيء يعزّيهم. من سيعوّض عليهم؟ من سيدفع ديونهم ويملأ أطباق موائدهم؟ من سيعلّم أولادهم ويطبّب زوجاتهم؟ من سيشتري لهم جوارب صوفٍ ويدفّي منازلهم في الثلج؟
هل يتأملون خيراً بالمؤسسات، التي افتتحتها الفاعليات السياسية في مناطقهم؟ أو ببرامج التنمية والتطوير المموّلة من الدول الأوروبية؟ أو يعتمدون على المعامل والمصانع والمشاريع الاستثمارية، التي يتقاتل النوّاب المنتخبون على إنشائها، ويتدافعون على مدى 4 سنوات لتمويلها من أجل نيل رضى المعتّرين؟
خلّونا نحكي بطائفية.. حتى ان العثمانيين لم يتمكّنوا من قطع جسور التواصل بشكل تام بين المسلمين والمسيحيين في لبنان، بعد أكثر من 400 سنة من الاحتلال.. وأمّا زمرة المتحكّمين برقابنا اليوم، وبعد أقلّ من 30 سنة من السياسة الميليشيوية الغبية، تمكّنوا من تحويلنا جميعاً إلى إرهابيين في أعين بعض، وأجلسونا كالقناصّة خلف متاريس الكرافاتات لنغتال كل من يدوس بيدرنا، وحوّلونا جميعاً إلى غرباء نجلس خلف أبواب طائفيتهم ولا أحد يتجرّأ أن يطرقها.
ويقول أهالي الشمال لأهل البقاع، نحن خسرنا مواسمنا، وأنتم عندما يشتدّ الحرّ ولا تجدون ماءً تروون به مزروعاتكم، من سيعوّض عليكم؟ ويقولون لأهل طرابلس والبترون وصيدا وبيروت، عندما تطفو النفايات وتكثر البكتيريا وتهاجر الأسماك وتجدون شباككم فارغة، من سيعوّض عليكم أيضاً؟ يقولون لهم: «جميعنا مهدّدون بالمجاعة لأن سياسيينا لا يشبعون».
نقول لسياسيينا، إهتمّوا بالزراعة فيزرعون الطائفية.. إهتمّوا بالصناعة فيصنعون المشاكل.. إهتمّوا بالتجارة فيتاجرون بدمائنا.. إهتمّوا بالاقتصاد، فيأكلون مالنا وخيراتنا، ويلحسون آخر قطرة من عرق جبيننا، حتى بتنا نترحّم على العثمانيين، ونصلّي للجراد والبَرَد، لأنهم أقلّ جشعاً وأقلّ ضرراً وأكثر رحمة من سياسيينا.