Site icon IMLebanon

جمهوريتا بعبدا والحازمية: “نزاع حدودي” مفتوح

 كتبت راجانا حمية في “الاخبار”:

قبل أن تصبح كل منهما كياناً «مستقلاً»، كانت الحازمية حياً من أحياء بلدة بعبدا. بقيت الحال كذلك حتى العام 1970، عندما «انشقّت» الحازمية وباتت لها بلدية مستقلة. منذذاك، بدأت الخصومة التي استعرت عام 1999، مع قرار وزير الداخلية آنذاك ميشال المر «سلخ» بعض الأراضي من بعبدا وضمها إلى الحازمية. اليوم، بعد 20 عاماً، «استعادت» بعبدا، على الورق، أراضيها «السليبة» بقرارٍ من مجلس شورى الدولة، فيما التنفيذ لا يزال عالقاً بانتظار «القرار السياسي».

«بعبدا كيان واحد إلى الأبد». على لافتاتٍ عملاقة، كُتبت هذه العبارة ونُشرت على طول الشارع الرئيسي في منطقة بعبدا – اللويزة، وعلى مداخلها الرئيسية. لم تكن العبارة لتقول شيئاً للعابرين بقلب بعبدا – إذ لا تحمل الكثير من الإشارات التي قد تقود إلى خلاصةٍ ما. لكن، بالنسبة لأهلها هي «فرحة الحقّ اللي راجع»، على ما يقول رئيس البلدية المحامي أنطوان الياس الحلو. فقد «انتظر أهالي بعبدا عشرين عاماً» قبل أن يصدر قرار مجلس شورى الدولة الحاسم والقاضي باسترداد «بلدية بعبدا – اللويزة المناطق التي سلخت منها عام 1999 وضمّت إلى بلدية الحازمية بموجب قرار صادر عن وزير الداخلية والبلديات الأسبق ميشال المر». وكان سبق هذا القرار قرار آخر لـ«الشورى» عام 2008، نصّ على المضمون نفسه، إلا أنّ «رئيس مجلس الشورى، في حينها، القاضي شكري صادر، علّق تنفيذه»، يقول الحلو.

اليوم، بعد أشهرٍ على القرار الذي صدر في آب الماضي، استحصلت البلدية على نسخة من المجلس صالحة للتنفيذ الفوري، وعلّقتها على اللافتات، في محاولة لـ«تذكير الدولة بحكم القضاء»، داعية الوزارة الوصية – وزارة الداخلية والبلديات – الى التنفيذ وإعادة «النقاط الست» إلى نطاق البلدية، وهي «حارة المجادلة (حيث السيتي سنتر ومستشفى جبل لبنان) ومار تقلا والرحيما والمومنية والحمي وقناطر زبيدي».

لكن هذه الدعوة العاجلة لم تلق صداها في الوزارة التي تحتاج بعض الوقت كي تدرس ملفاً عمره سنوات طويلة. في انتظار ذلك، تبقى «المواجهة الحدودية» مفتوحة بين البلديتين. ففي وقت تتسلّح بلدية بعبدا بحكم القضاء المبرم، مسنودة إلى خريطة صادرة عام 1970 عن وزير الداخلية آنذاك، كمال جنبلاط، حدّد بموجبها نطاق كل من البلديتين، تصرّ بلدية الحازمية على رفض الحكم. وتستند في ذلك إلى الخريطة نفسها، معلّلة الأمر بأن «جنبلاط نفسه شطب توقيعه عن الخريطة بعد حدوث جدل حولها، قائلاً في حينها إنه لم يكن يرمي إلى اقتطاع أي أرض من البلديات الأخرى المجاورة وإنما إبراز نقاط الحدود»، على ما يقول رئيس بلدية الحازمية جان الأسمر.

إذاً، تعود جذور «المواجهة الحدودية» بين الحازمية وبعبدا – اللويزة إلى عهد «داخلية» كمال جنبلاط، تحديداً إلى العام 1963 عندما أصدر الأخير قراراً قضى بفصل الحازمية عن بلدية بعبدا، بعدما كانت تاريخياً تشكّل أحد أحيائها. عام 1970، ألحق قراره بخريطة حددت نطاق كل بلدية، وأثارت في ذلك الوقت جدلاً بين البلديات المحيطة التي اعتبرت أنها «مجحفة وقضمت مساحات من بلديات أخرى وضمتها إلى بعبدا»، على ما يقول أحد رؤساء البلديات في اتحاد بلديات ساحل المتن الجنوبي. وفي هذا الإطار، يقول الأسمر إن «جنبلاط ألغى توقيعه على الخريطة بعد الإعتراضات وأودعها التفتيش المركزي».

مع ذلك، لم يتغيّر شيء في الحدود وبقيت الأمور على حالها حتى عام 1999، عندما أصدر وزير الداخلية ميشال المر قراراً بإعادة تحديد نطاق بلديتي الحازمية وبعبدا – اللويزة. و«ضمّ مساحات إضافية عن خارطة العام 1970 إلى بلدية الحازمية، من دون موافقة المجلس البلدي»، يقول الحلو.

يومها، صدر ذلك القرار بعد قرارٍ آخر من الوزير نفسه قضى بـ«تأجيل الانتخابات البلدية في بعبدا لمدة عام لإهداء بلدية الحازمية حدوداً يعرف مسبقاً أنها ليست مجانية»، يقول بعض مجايلي تلك المرحلة. وهو ما أقام الدنيا ولم يقعدها في حينها، خصوصاً أن القرار نسف روح المادة 51 من قانون البلديات (المرسوم الإشتراعي 118) التي تنص على وجوب موافقة المجلس البلدي على «تغيير حدود البلدة (…) وفي حال عدم موافقة المجلس البلدي وإصرار السلطة المختصة على اتخاذ تدبير مخالف، يعرض الموضوع على مجلس الوزراء عن طريق الوزير المختص لبته بالصورة النهائية». هذا ما لم يفعله المر. وفي الوقت الذي تمتنع فيه بلدية الحازمية عن أي تصريح، يتحدث على الطرف الآخر ممن عايشوا قرار المر عما جرى تلك الفترة، مشيرين إلى أن المر «عمل مشروع خارطة وفرجانا ياها، قال رح نعطي هيدا القسم للحازمية (حارة المجادلة حيث السيتي سنتر ومستشفى جبل لبنان) وكان يومها ملوّن محل المستشفى بإيدو». هكذا، «كانت أشبه بجائزة ترضية لبلدية الحازمية ولآل غاريوس، مالكي مستشفى جبل لبنان وصهر العائلة أنطوان غاريوس الذي يملك علاقات متينة مع رئيس بلدية الحازمية». يستذكر البعض هذه الحادثة، ومعها حكاية منطقة الزعرور التي «ضمّها» المر أيضاً بقرارٍ من «الداخلية» إلى منطقته بتغرين ليعيدها مجلس شورى الدولة إلى كنف بلدة المتين. ويربط هؤلاء تلك الحكايا بشخصية المر التي «يسيطر عليها طموح الأخير نحو السلطة مسنود بعلاقاته الشخصية».

منذ ذلك القرار الشهير، بدأت المواجهة بين الجارتين تسلك مجراها القضائي، عندما تقدمت بلدية بعبدا بمراجعة أمام مجلس شورى الدولة للطعن في قرار الوزير. انتظرت تسع سنواتٍ، قبل أن يأتي قرار «الشورى» بقبول الطعن والمطالبة بـ«إعادة العمل وفق القرار رقم 677 الصادر عام 1970 عن الوزير كمال جنبلاط، والذي حدد بموجبه نطاق بلديتي بعبدا والحازمية». غير أن الحكم لم ينفّذ، وبقي حبراً على ورق.

عام 2013، خرق حكم «الشورى» بقرار لوزير الداخلية والبلديات مروان شربل أكّد أن «النقاط الست جزء من أراضي بلدية الحازمية»، ليعود مجلس شورى الدولة وبحسم الجدل بالحكم الصادر، بالتأكيد على مضمون قراره السابق. على أساس ذلك، استحصل مجلس بلدية بعبدا على نسخة من الحكم صالحة للتنفيذ فوراً وباشر تعليق اللافتات في المناطق التي يفترض أنها تعود إليه. غير أن الأمور لم تسر كما «تمنتها» بلدية بعبدا. كانت اللافتات أول مواجهة «بالدم» بين البلديتين، في تشرين الأول 2016، عندما تعرّض عناصر شرطة بلدية الحازمية لعمال تابعين لبلدية بعبدا – اللويزة أثناء تعليق يافطة تكليف المواطنين بدفع الرسوم البلدية في منطقة السيتي سنتر، ما أدى الى سقوط عدد من الجرحى. دفع ذلك بوزير الداخلية السابق، نهاد المشنوق، إلى إبقاء الحال على ما هي عليه، وإحالة الملف إلى مجلس الوزراء. غير أن بلدية بعبدا لم تستطع «بلع» قرار المشنوق، فطعنت به أمام مجلس شورى الدولة، واستحصلت على «قبول الشورى بالطعن».

بعد شهرٍ واحد، تقدمت بلدية الحازمية أمام الشورى بطلب الرجوع عن القرار، غير أن الأخير أعاد التأكيد على ما حكم به: النقاط الست لبعبدا. مع ذلك، لم تنته المواجهة بين الجارتين. تصر بلدية بعبدا على الحق المشفوع برخص بعض المناطق المسلوخة التي لا تزال تسجّل في بعبدا. وهنا، يتحدّث الحلو على أن «رخصة السيتي سنتر مقطوعة من بعبدا»، ويأسف أن تصبّ أموال الجباية في غير موضعها، لافتاً إلى «أن تحصيلات الجباية من السيتي سنتر وحده تبلغ 4 مليارات ليرة، تضاف إليها أموال الجباية من مستشفى جبل لبنان». وفيما تخسر بعبدا تلك «الجبايات»، تتكبد مصاريف إضافية كونها مركز ثقل حيث يقع في محيطها القصر الجمهوري ووزارة الدفاع والعدلية و14 سفارة أجنبية. بالأرقام، واستناداً إلى الجبايات «المسلوخة»، يتحدّث الحلو عن عائدات الصندوق البلدي المستقل التي تظلم بعبدا، ففي وقت تتقاضى بعبدا ملياراً و900 مليون ليرة لبنانية من عائدات الصندوق، تتقاضى الحازمية مليارين و700 مليون ليرة. وهناك من يقول أنه «لو أن الأمر يحتسب على أساس لمن الجباية؟ لكانت حصة الحازمية 600 مليون ليرة فقط».

إلى الآن. لا حسم. أمر واحد قد يحسم خمسين عاماً من الجدل، هو ما يفترض أن تقوم به وزارة الداخلية. لكن، إلى الآن، «لا بشرى خير» تأتي من هناك. يخاف أهالي بعبدا بعد التجربة التي مروا بها مع ثلاثة وزراء تعاقبوا على رأس الوزارة من تكرارها للمرة الرابعة. هم يعرفون، وجيرانهم أيضاً، أن تنفيذ قرار مجلس شورى الدولة يعوزه «القرار السياسي». علماً أن هذا «القرار» هو نفسه من بذر العداء بين البلدتين الجارتين.

سابقة المتين ــ بتغرين: «البطل» واحد!

تشبه حكاية المواجهة بين بلديتي بعبدا والحازمية تلك التي دارت على مدى اربعين عاماً بين بلدتي المتين وبتغرين المتنيتين لجهة الخلاف على الحدود، ولجهة لعب «بطل» واحد دور البطولة في الحالتين. في الأولى كان ميشال المر هو وزير الداخلية الذي أصدر قراراً (1999) قضى بسلخ أراضٍ من بلدية بعبدا وضمها إلى الحازمية التي كانت قد استحدثت بلديةً لتوّها. وفي الثانية استخدم المر نفسه نفوذه لتمرير قرارٍ (العام 1978) يقضي بضم أراضٍ تابعة لبلدة المتين إلى بلدته بتغرين. سنوات الصراع الأربعون أنهاها في الثامن من شباط من العام الماضي، قرار لمجلس شورى الدولة قضى باسترجاع بلدية المتين عشرة ملايين متر مربع من الأراضي التي تسمّى منطقة الزعرور من بلدية بتغرين، في ما اعتبر يومها أقوى ضربة يتعرض لها المر في تاريخه السياسي بعدما بقي لسنوات طويلةحاكماً بأمره في المتن.

يروي رئيس بلدية المتين زهير بو نادر قصة الملايين العشرة، مقسّماً «الرواية» إلى مراحل. بدأت المرحلة الأولى في العام 1968، عندما تفتحت شهية المر على أراضي منطقة الزعرور التي بدأ بشراء العقارات فيها. لاحقاً، أبرم اتفاقاً مع دير مار مخايل (الذي كان عقارات واسعة في المنطقة) قضى بمبادلة الدير جزءاً من عقاراته مقابل أن يعمل المر على شقّ طريق في المنطقة. مطلع السبعينيات، كان المر قد امتلك مليوني متر مربع من الأراضي، واستحصل على تراخيص من بلدية المتين لإنشاء مشروع سياحي ومركز للتزلج في افتتحه عام 1973. افتتح المر المرحلة الثانية عندما استخدم نفوذه، إبان «ولاية» وزير الداخلية صلاح سلمان عام 1978، لاتخاذ «قرار بإنشاء بلدية في المتين، علماً أن وجود البلدية سابق لهذا القرار، بدليل أن المر نفسه استحصل على تراخيص لمشروعه السياحي من هذه البلدية، اضافة إلى أن هناك مرسوما اشتراعيا صادرا منذ العام 1935 يؤكد حدود البلدية»، يقول أبو نادر. هذا القرار كان فاتحة «لسلخ الأراضي التي ضمت بقرار ومن دون علم المتينيين إلى بلدية بتغرين». بقي القرار ساري المفعول 40 عاماً، قبل أن يدخل إلى القضاء من باب المراجعة التي تقدمت بها بلدية المتين أمام مجلس شورى الدولة عام 2007 مطالبة بإبطال قرار وزير الداخلية الذي قضى بسلخ الأراضي.

بعد 11 عاماً على المراجعة، أصدر مجلس شورى الدولة حكمه الذي أنصف فيه المتينيين وأعيد ضم الزعرور إلى منطقة المتين التي تبلغ مساحتها 100 مليون متر مربع.