كتب نقولا ناصيف في “الاخبار”:
يعتزم الرؤساء السابقون للحكومة طلب موعد لمقابلة الرئيس سعد الحريري، استكمالاً لبيانهم الأخير (3 حزيران) تأييدهم اياه في ما كان ادلى به في مكة، كما بإزاء صلاحياته الدستورية وموقعه السياسي.
طُرح اقتراح تدخّل اكثر فاعلية للرؤساء فؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي وتمام سلام لدى رئيس الحكومة سعد الحريري، في الساعات القليلة الماضية، بعدما بدا لهم ان الاحوال ساءت اكثر مما يُعتقد، وبات من الواجب مصارحته من باب المضي في دعمه. لهؤلاء الثلاثة موقف سلبي من التسوية الرئاسية عام 2016. جمعتهم في اوقات حكوماتهم علاقات غير ودية مع رئيس الجمهورية ميشال عون، حينما كان لا يزال رئيساً للكتلة النيابية المسيحية الاكبر، ونجح من خلال وزرائه في ممارسة اوسع قدر من الضغوط عليهم. مع ذلك، سلّموا بالتسوية تلك التي تسبّبت في انشاء ما يمكن وصفه بـ«مؤسسة» رؤساء الحكومات السابقين: الاحتياط السنّي الذي يحتاج اليه الحريري في كل مرة تُستهدف صلاحياته الدستورية، او موقعه. الا انهم حاذروا الاضطلاع بدور مماثل، حينما اجتاز محنة احتجازه في الرياض عام 2017. قبل عهد عون لم يكن لتجمّع كهذا وجود ابان الازمات التي جبهتها حكوماتهم. بل كانوا متفرّقين.
الى الآن، يكتفي الرؤساء السابقون بدور ظهير يفتقر اليه الحريري جراء التزامه الصمت في اكثر من حدث: في مواجهة الحملات عليه داخل مجلس الوزراء وخارجه، كما بازاء انتفاخ احجام اخرى توحي بأنها حلت محله، على الاقل على نحو ما يوصف به وزير الخارجية جبران باسيل. بإزاء ردّ الفعل العنيف للامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله من قمم مكة وما أدلى به الحريري هناك، كما بحياد رئيس الجمهورية عمّا يتعرّض اليه شريكه في الحكم وحليفه في التسوية بلا ايضاحات محددة، ما أتاح التكهن بموافقته الضمنية على تصرّفات باسيل ومواقف نصر اللهي
بدورها دار الافتاء تحوّلت ظهيراً ثانياً للحريري. للمرة الثانية، بعد 4 آذار عندما اطلق تحذيراً من السراي عدّ فيه السنيورة «خطاً احمر»، أتت رسالة المفتي عبد اللطيف دريان صباح الفطر (4 حزيران) اشبه بدق ناقوس لمَن عدّهم يستهدفون الطائفة السنّية. ما قاله أقرب الى «خط أحمر» ثان دفاعاً عن الحريري، بعدما كان موقف 4 آذار دفاعاً عن الحريري والسنيورة معاً، الوارثين الفعليين لتركة السياستين المالية والاقتصادية للرئيس الراحل رفيق الحريري.
بيد ان الاهمية التي عنتها رسالة الفطر انها استعادت مناسبة مماثلة في العيد ذاته، حينما اطلق سلفه المفتي الراحل الشيخ حسن خالد من الملعب البلدي في الطريق الجديدة، عام 1983، في السنة الاولى من ولاية الرئيس امين الجميّل وفي ذروة قوة العهد، رسالة غضب احتجاجاً على ما اعتبره استهداف الطائفة السنّية وقواها السياسية، المجرّدة حينذاك من السلاح، فيما احتفظت القوات اللبنانية به. كانت المرحلة تلك تالية للاجتياح الاسرائيلي وتبعاته، فبدا السنّة اللبنانيون، الداعمون الاولون للمقاومة الفلسطينية، يدفعون ثمن التطورات الجديدة. تدريجاً بدأ التذمر السنّي، ثم الدرزي ثم الشيعي، قبل ان تسقط السلطة المركزية للجميّل في بيروت. صعد على كتفَي دار الفتوى حينذاك، لمن لا يزال يتذكر، الشيخ عبد الحفيظ قاسم من مساجد الطريق الجديدة يهاجم عهد الجميّل، وعُدّ بدوره صعود موجة تطرّف سنّية غير مألوفة تدعو الى مقاومة السلطة وحمل السلاح حتى، فلوحق الرجل. مع ذلك، لم تتمكن الانتفاضة السنّية الصغيرة من الملعب البلدي، ان تستكمل دورها، فحلت محلها انتفاضة درزية (حرب الجبل 1983) وانتفاضة شيعية (1984).
ما حدث في الايام الاخيرة، بالتزامن، لا يكاد يفصل تلك الفصول عن فصول ما يجري الآن: في 24 ساعة تصعيد سياسي سنّي عبّر عنه الرؤساء الثلاثة السابقون، العمل الارهابي في طرابلس، رسالة المفتي دريان. ثم أتت عبارة وزير الخارجية عن «السنّية السياسية» كي تغالي في الاستفزاز، وطابق بينها وبين الارهاب.
ليست العبارة ابنة ما يجري في الوقت الحاضر، بل لم يسبق ان عرفها لبنان القديم المطبوع بـ«مارونية سياسية»، ضمّت زعماء موارنة مقدار ما ضمّت حلفاءهم في الحكم والسلطة من زعماء سنّة وشيعة ودروزاً كي تعبّر عن طبقة ومرحلة بالذات. على أن «السنّية السياسية» الحديثة درجت بالفعل مع الحريري الأب إبان حقبة تحالفه مع دمشق طوال عقد ونصف عقد من الزمن. بسبب وجوده في رئاسة الحكومة وشبكة هائلة من العلاقات العربية والدولية وثروة ضخمة، أمكنه استيعاب دور الرئيس الياس الهراوي، وابتلع مجلسي الوزراء والنواب، وأضحى الاكثر نفوذاً في الادارة، ما وسم «سنّية سياسية» بصورته هو على انها تخلف «مارونية سياسية» دمرتها الحرب، ثم تخلفه هو منذ ما بعد اتفاق الدوحة عام 2008 «شيعية سياسية» ولا تزال. خلافاً لمارونية سياسية مثلتها طبقة سياسية برمتها، فإن السنّية السياسية والشيعية السياسية اقترنتا بمرجعية واحدة.
في وقت قياسي، خلال وجوده في الحكم، تحوّل الحريري الاب الى المرجعية السنّية الوحيدة. في ظله انحسر دور دار الافتاء كي يقتصر على تأييده غير المشروط، وتضاءل حضور الزعماء السنّة الآخرين: الرئيس عمر كرامي في الشمال، بينما قصر الرئيس سليم الحص على دوره البرلماني قبل ان يقرر الاعتزال غداة هزيمة انتخابات 2000.
ربما لأن الحريري الاب كان في حجم كذاك، بما في ذلك في مرحلة 1998 – 2005 في عهد الرئيس اميل لحود، حينما ارسى معادلة عصية على الفهم، هي بقاؤه حليفاً قوياً لدمشق ثم صديقاً موثوقاً به لحزب الله وفي الوقت نفسه خصماً شرساً لرئيس الجمهورية… لأنه كان كذلك، انهارت «السنّية السياسية» تماماً باغتياله.
رغم خلافة الحريري الابن أباه، لم يتمكن سوى في ثلاث سنوات، ما بين عامي 2005 و2008، من الظهور في مظهر المرجعية السنّية الوحيدة الاحادية. بعد ذلك تهاوى كل هذا الرصيد: اول رئيس حكومة بعد اتفاق الطائف يُسقطه معارضوه عام 2010، اول زعيم سنّي ورئيس سابق للحكومة بعد اتفاق الطائف يسقط في استشارات نيابية ملزمة عام 2011، ثم اول زعيم سياسي ورئيس الكتلة النيابية الاكبر يحتجب عن البلاد سنتين جراء خروجه من الحكم. الاهم ايضاً – ربما الاكثر اهمية – انه لم يعد الى السلطة بعد ست سنوات من الإبعاد لولا ترشيحه للرئاسة ذاك الذي اسقط حكومته الاولى من فيلا الرابية. وهو في ظله يستمر في منصبه. لا تفوت الجردة ان الحريري، بعدما احاله اغتيال والده زعيماً وارثاً «السنّية السياسية» وقائداً للموالاة، فَقَدَ ثلث نواب كتلته في اول انتخابات نيابية لا تجري باسم الاغتيال ولا المحكمة الدولية ولا اتهام سوريا بالجريمة ولا سلاح حزب الله. ثمة مَن يقول إن استمراره في رئاسة الحكومة وحده يحول دون عودته الى ان يكون مواطناً سعودياً عادياً، مع كل ما يترتب على صفة المواطنية هذه من واجبات وحقوق.
من اجل ذلك كله، يريد الرؤساء السابقون، وهم يتمسكون به وبموقعه ودوره وصلاحياته، مصارحته.