كتب نديم قطيش في صحيفة الشرق الأوسط:
تجاوزت الأزمة السياسية في لبنان قدرتها على الاستجابة للحلول المؤقتة. كان يفترض بالتسوية السياسية التي أتت بالجنرال ميشال عون رئيساً للجمهورية، وبالرئيس سعد الحريري رئيساً للحكومة، وقضت حينها بإزاحة الملفات الخلافية الكبرى ذات التشعبات الإقليمية، والتركيز بدلاً منها على قضايا إنمائية خدماتية… كان يفترض بها أن تحمل شيئاً من الإنجاز لحاجات الناس.
غير أنه وبعد مضي نحو سنتين على التسوية، وإعادة الانتظام إلى مؤسسات الدولة، عبر سلسلة إجراءات؛ آخرها الانتخابات النيابية، لا تزال الكيدية السياسية هي الحاكمة، ولا تزال الرغبة جامحة في تحويل كل ملفات الشأن العام إلى ملفات اشتباك سياسي، بواجهة اسمها «المرشح الرئاسي» الوزير جبران باسيل، وبرعاية دقيقة من «حزب الله». ولا يزال مشروع الاستثمار الاقتصادي المأمول منه إنقاذ لبنان من السقوط الاقتصادي، يراوح مكانه، وسط مؤشرات وتقارير دولية متزايدة تعبّر عن اشمئزازها من سلوك بعض القوى السياسية الرئيسية وعدم جديتها.
الأكيد أن الأزمة دخلت منعطفاً جديداً بعد موقف لبنان في قمم مكة المكرمة، وعدم تحفظه على السقوف العالية التي وردت في البيانات الختامية إزاء إيران وسياساتها في المنطقة. في هذا السياق برز موقف الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله الذي أدان موقف وفد الحكومة اللبنانية في قمة مكة المكرمة العربية، مشدداً على أنه «غير مقبول، ومرفوض، ومدان، ولا يعبر عن موقف لبنان، بل يعبر عن موقف الأشخاص المشاركين (في القمة) والأحزاب التي يمثلونها».
لا يُدرج مثل هذا الكلام في سياق السجال السياسي اللبناني المعتاد، لأنه ينطوي على لغة انقلابية على الدستور، وقواعد النظام السياسي، لأنه يطال موقع رئيس الحكومة ووظيفته ومعناه. فمن يعبر عن موقف لبنان ما لم يكن رئيس حكومته مكتمل الشرعية الدستورية والسياسية والشعبية؟
كشف نصر الله النقاب بتصريحه عمّا كان موكلاً لباسيل أن يقوم به، وهو القضم المتنامي لموقع رئيس الحكومة، والمحاولات الحثيثة لفرض أعراف سياسية بالممارسة والبلطجة، تعيد تعريف دور رئاسة الحكومة، وموقعها داخل النظام السياسي.
إبان السجالات المتصلة بمشروع الموازنة، وتمادي القوى السياسية باستعراض الأفكار بشأنها، قال رئيس الجمهورية ميشال عون غامزاً من قناة رئيس الحكومة: «من ليس لديه الخبرة لإنهائها بسرعة فليتفضّل إلى بعبدا»؛ أي إلى مقر رئاسة الجمهورية!! كان سبق ذلك توزيع رئاسة الجمهورية خبراً صيغ خلافاً لمنطوق الدستور اللبناني، يقول إن مجلس الوزراء اجتمع في بعبدا برئاسة رئيس الجمهورية وحضور رئيس الحكومة، والصحيح أن النظام يقضي بترؤس رئيس الحكومة مجلس الوزراء، على أن يخلي مكانه لرئيس الجمهورية إن حضر.
إنها عينات فقط من محاولات التطاول على توازنات الشراكة السياسية في النظام اللبناني وتثبيت قواعد جديدة للحكم، بالممارسة والسلوك، وتطويع «اتفاق الطائف» بقوة الأمر الواقع.
توازى ذلك مع عودة نغمة «دعشنة» المسلمين السنّة اللبنانيين، ووسمهم عامة بالإرهاب، ووسم مناطقهم بأنها مجرد بيئات حاضنة له، بعد حادثة إرهابية شهدتها مدينة طرابلس. كل التلميحات التي حفلت بها التصاريح السياسية مذّاك تطعن زوراً وبهتاناً في كفاءة قوى الأمن الداخلي، الموكلة قيادتها إلى ضابطين من السنّة، كما تطعن في نزاهتها وتؤشر إلى تواطئها أو تساهلها مع الإرهاب، خلافاً لكل الوقائع التي تفيد بأن هذا الجهاز هو الذي أوقف إرهابي طرابلس قبل أن يطلق سراحه لاحقاً من قبل المحكمة العسكرية!!
كل هذه التراكمات تبرهن على أن التسوية السياسية تمر بمرحلة عصيبة، وتحتاج إلى إعادة اعتبار لقواعدها وأهدافها، وهو ما لا أراه متاحاً في المدى المنظور إلا على سبيل ترقيع الثوب.
فالحياة الوطنية اللبنانية مصابة بفائض قوة شيعية، غير قابل للصرف في النظام السياسي وتعديل قواعده بالنص، وفائض ضعف سنّي غير قابل للشطب من المعادلة الوطنية. أما هذا الضعف الأخير فلا يقاس إلا منظوراً إليه من زاوية الأزمة العميقة التي تضرب سنّة المشرق العربي، في العراق وسوريا ولبنان، ويشعر السنّة فعلاً أنهم أقلية سياسية؛ إما نازحة، وإما مهجّرة، وإما مستتبعة، وإما محكومة بمنطق غلبة السلاح.
يرى الوزير باسيل بأمّ العين هذا الاختلال في العلاقة بين السنّة والشيعة في لبنان ويحسبه مساحة له ليمارس فيها كل هواياته الشعبوية، وأن يحضّر لمعركة رئاسة الجمهورية من موقع مرتاح، لا سيما تجاه خصومه المسيحيين. أما «حزب الله» فلن يتبرع بأكثر من مدّ نسب محسوبة من الأكسجين للواقع السياسي القائم، على قاعدة تمنع الإنجاز الكبير الذي ينقل لبنان من مرحلة إلى أخرى، وتمنع الانهيار الكبير الذي يدفع بالبلاد نحو المجهول.
إذّاك؛ لا حل إلا بالعودة إلى السياسة… لا حل إلا بالعودة إلى إعادة تكوين المشروع الوطني اللبناني العربي على قواعد الدستور و«الطائف» والسلم الأهلي والوطني. فلا تجوز مغادرة السياسة في مواجهة قوى مسيّسة حتى العظم، والاتكال فقط على حسن النيات بأن يُعلي هذا الطرف أو ذاك، مصالح الناس فوق مصالحه السياسية.
لا يعني هذا الكلام العزوف عن منطق التسوية. فالتسوية هي أُمّ الاستمرارية بكل أشكالها في مجتمع تعددي كالمجتمع اللبناني. لكن التسوية القائمة على قواعد سياسية واضحة، لا مكان فيها لحسن النيات.