لم يعد في إمكان أحد أن يشك في أن المواطن اللبناني تطبّع مع فكرة كونه “كبش المحرقة” الوحيد للخطايا السياسية والشعبية التي ترتكبها السلطة السياسية في حق شعبها على مختلف المستويات، مفجرة بذلك قنابل خطيرة ليست إلا دليلا مرعبا إلى قصور سياسي فاضح، وغياب الرؤى والتخطيط والاستراتيجيات، لمصلحة الخطوات القائمة أولا على الترقيع الذي ركنت إليه السلطات “الحاكمة” التي لا ترى ضيرا في الغرق في السجالات السياسية العقيمة. ولا شك أيضا في أن المواطن بات متيقنا من أنه ليس أولوية لدى من ائتمنهم يوما على حياته ولقمة عيشه و… صحته بوصفهم مسؤولين… وإن كانوا ما انفكوا يثبتون إفتقادهم إلى حس المسؤولية هذا. إلا أنهم، وفي كل مرة يرتكبون الأخطاء المميتة فعلا، يبدّي حسن النية، مفضلا منحهم فرصة جديدة… لعلّ وعسى.
وليس أفضل من ملف النفايات قضية تطبق عليها هذه المقاربة. ذلك أن الحكومة السلامية التي انفجرت في وجهها هذه القنبلة البيئية، مغرقة البلد في وحولها وقمامتها، عجزت عن اجتراح الحلول المناسبة لأن بعض مكوناتها فضل تعطيل عجلة البلاد وتصفية الحسابات السياسية والشعبوية مع الخصوم، بدلا من الركون إلى الحلول العلمية، فكان الطمر العشوائي غير الصحي في مطمر برج حمود، بالرغم من الاعتصام الميداني الذي نفذه حزب الكتائب، عله يفرمل هذا التوجه لكنه لم يحقق الغاية. جرى كل هذا فيما كان المطمر المتني، كما ذاك المعروف بـ “مطمر الكوستا برافا” يمتلئان تدريجا بالنفايات على أنواعها وأشكالها وأخطارها وسمومها فيما الحكومة الحريرية الثانية سجلت هي الأخرى فشلا في هذا المجال أذكاه الفراغ الحكومي الطويل، الذي لا تفسره إلا، المناكفات السياسية المعهودة التي لا يجد أحد من الطبقة الحاكمة ضيرا في الغرق فيها على حساب الشعب، وإن كان هذا يعني ترك اللبنانيين وحيدين في مواجهة أمراض السرطان، والتي تأخر نواب الأمة في إقرار الاعتمادات المالية الكفيلة بتأمين علاجها لآلاف المصابين، بفعل تصفية الحسابات السياسية والحكومية والرئاسية القريبة والبعيدة المدى.
على أي حال، فإن الرئيس سعد الحريري قفز فوق كل هذه الألغام وألّف حكومة انتظرها المواطن عند المفترق الصحي من دون أن يغرق في القنص المبكر على وزير البيئة فادي جريصاتي. وإذا كانت الموضوعية تقتضي الاعتراف للأخير بأنه يجهد لترميم صورة وزارة البيئة في أذهان الناس المنكوبين، وكرس قضية النفايات أولوية لديه، فإن هذا لا ينفي أن المواطن لا يزال ينتظر حلولا جذرية تقيه شرور مواجهة لا قدرة له عليها في بلد الأرز “الموبوء”. ففيما كانت الحكومة غارقة حتى الثمالة في نقاشات موازنة ترضي الدول المانحة من المشاركين في مؤتمر سيدر، غاب عن بال أركانها أننا كمواطنين، يجب أن نتمتع بالأولوية وأن تكرس السلطات التي انتخبناها في أحد أيام أيار المشمسة، وقتها وليلها ونهارها لأجلنا ولصون حقنا في حياة كريمة، وإن كنا في بلد ما انفك يصفعنا بضربات مؤلمة لا تعرفها الدول الحضارية التي نحلم يوما أن نكون في مصافها سياسيا واقتصاديا وإنسانيا. غير أن كل هذا لم يحصل. غرق مجلس الوزراء في المجاهل المالية وغرقت المناطق المأهولة بالروائح الكريهة المتأتية من مطمر برج حمود الذي ما عاد يتسع لكميات هائلة من القمامة. صورة تعني أن الدولة لا تجد أي ضرر في قذف المواطن مجددا إلى حلبة مواجهة غير متكافئة سيخوضها (أو تخوضها الاجيال المقبلة) مع السرطان، فيما هي تقر الموازنات التقشفية… غير أن الأهم يكمن في أن السلطة الاجرائية التي تضم الغالبية الساحقة من المكونات لم تبادر إلى أخذ “الاجراءات الكفيلة” بحل مشكلة الجولة الجديدة من أزمة النفايات، بل على العكس. ففي بلد التقشف، وحيث يعتبر مجرد إقرار موازنة عامة إنجازا يمنن الناس به كما لو أنه مكرمة حكومية، صرفت الدولة- التي تبحث عن ايرادات جديدة ولا توفر جيوب الناس الخاوية أصلا مصدرا لأموالها المهدورة- مبالغ طائلة لتكليف خبير بيئي دولي اكتشاف مكامن أزمة النفايات، متوقعة أنه سيكتشف البارود. ربما أتت الخلاصة صاعقة: الروائح الكريهة سببها… النفايات”. خلاصة تستحق التمعن فيها فعلا والانكباب على دراستها، علما أن أي مبتدئ في مجال العلوم الطبيعية يمكن أن يصل إليها… وبالمجان.
قد يكون ذنب المواطن الوحيد انه ولد في بلد لا يعرف القادة فيه أن الحكم استشراف، بل يفضلون ترقيع الحلول التي يجدونها بعد أن يكون المحظور المرعب قد وقع، وبعد فوات الأوان. لكن في انتظار تغيير هذه المقاربة، نوجه إلى القيمين على ملف النفايات الرسالة الآتية: انطلقت الجولة الجديدة من أزمة النفايات من مطمر برج حمود. وبما أنكم وصلتم أخيرا إلى الخلاصة (المعروفة) التي لطالما نبهكم إليها المعارضون كما الخبراء، ارحمونا وأطلقوا مسار حلول دائمة بدلا من تركنا وحيدين نواجه المرض والسرطان والموت!