كتبت راجانا حمية في صحيفة “الاخبار”:
الدولة التي اختارت منذ عقود التخلّي عن وظائفها الرعائية وجيّرت هذه المسؤوليات إلى جمعيات خاصّة، تتخلّى اليوم عن هذه الجمعيّات أيضاً. في محاولتها لإيجاد علاج للأزمة الاقتصادية الداهمة، لم تجد الحكومة اللبنانية سبيلاً إلّا بفرض التقشّف لخفض العجز في ميزانيّتها. ورغم وجود مكامن عدّة لتخفيف هذا العجز إلّا أنها اختارت المسّ بأكثر الفئات ضعفاً وتهميشاً ووقف التحويلات إلى الجمعيّات الخاصّة التي تعنى بالأيتام والمسنِّين وذوي الاحتياجات الخاصّة، علماً بأن الإنفاق العام على الجمعيّات، وهمية وغير وهمية، لا يشكّل سوى 1.44% من مجمل الإنفاق العام، بالمقارنة مع 37% من الإنفاق العام يذهب لدفع فوائد الدَّيْن العام، و37% كنسبة من هذا الإنفاق ناتجة عن إيرادات عامّة ضائعة نتيجة التهربّ الضريبي.
قبل أيام، أخرجت جمعية «سيزوبيل» (التي تعنى برعاية ذوي الإحتياجات الخاصة) غضبها دفعة واحدة. بلا مقدّمات تمهيدية، أعلنت المؤسّسة في بيانٍ رسمي أنها ستقفل أبوابها في وجه من تقوم برعايتهم في 28 من الشهر الجاري. وعزت ذلك إلى عدم قدرتها على تحمّل تكاليف هذه الرعاية في ظلّ «اعتكاف» الدولة عن تسديد مستحقّاتها العالقة منذ الربع الثالث من العام الماضي.
صحيح أن الصرخة التي أطلقتها الجمعيّة كانت تتعلّق بمستحقّاتها. لكن ما فعلته «سيزوبيل»، في بيانها الأخير، أنها أعادت التذكير بمشكلة – معضلة أساسها تخلّي الدولة منذ نشأتها عن واجباتها الرعائية تجاه مواطنيها، وتجيير هذه المسؤوليات إلى الجمعيّات الخاصّة الموزّعة طائفياً وسياسياً على قاعدة «كلّ مين يدير باله من جماعته» بما يضمن تماسك النظام القائم، لتعود وتتلكأ عن هذا الالتزام نتيجة الاقتصادية التي تمرّ بها وتتأخّر في تنفيذ التزاماتها تجاه الجمعيّات (يبلغ عددها 102) التي ترتبط معها بعقود شراكة. وهي عقود دونها مستحقّات للجمعيات متراكمة عن آخر فصلين من العام الماضي، تقدّر بنحو 22 مليون دولار. تضاف إليها 44.7 مليون دولار عن العام الجاري لم توقّع إلى الآن، خلافاً للقانون الذي ينصّ على ضرورة توقيع العقود نهاية تشرين الثاني 2018.
عندما قررت حكومة التقشّف التخفيف من العجز لجأت إلى «الحلقات الأضعف»، يقول موسى شرف الدين، رئيس الإتحاد الوطني للإعاقة العقلية. الجمعيات الاجتماعية التي لا تبغي الربح «راحت بين الإجرين» في النقاش الذي اندلع حول صرف مساعدات لجمعيات وهمية وأخرى تملكها زوجات نافذين في الدولة. هكذا «ذهب الصالح بعزى الطالح»، رغم تأكيد وزير الشؤون الاجتماعية ريشارد قيومجيان أن «الجمعيات التي تبرم عقوداً مع وزارة الشؤون الاجتماعية تبلغ ميزانيتها 100 مليون دولار، وهي تختلف في عقودها عن جمعيات أخرى».
في الواقع، تبيّن الحسابات المالية للدولة اللبنانية، أن قيمة التحويلات من الخزينة العامّة إلى الجمعيات الخاصّة بلغ نحو 194.7 مليون دولار في عام 2017، ما يشكّل 1.44% من مجمل الانفاق العام. وهو أقل بنحو 25 مرّة ممّا تنفقه الدولة على فوائد الدين العام (4.9 مليار دولار في العام نفسه)، وأقل بالنسبة نفسها من مجمل الإيرادات الضائعة التي فاتت الخزينة العامّة نتيجة التهرّب الضريبي والذي يقدّر بنحو 5 مليارات دولار. بمعنى آخر، تبيّن هذه الإحصاءات بوضوح سياسة «الدولة» وما تحاول إرساءه في موازناتها، وهو المحافظة على مزاريب الهدر الأساسية وتأكيد التزاماتها تجاه الدّائنين والتفريط بكل المجتمع على الرغم مما لذلك من تداعيات اجتماعية واقتصادية خطيرة.
وإذا كانت الدولة وعدت بالإفراج عن جزء من مستحقات الفصلين الثالث والرابع من العام 2018 «في غضون الأيام المقبلة»، بحسب وزير المال علي حسن خليل، إلا أن مستحقات العام الجاري لا تزال في علم الغيب، وعقودها لم توقع «بانتظار وضع اللمسات الأخيرة على الموازنة»، وفق قيومجيان. لكن، مع ذلك، لا يبدي الوزير الوصي كثيراً من التفاؤل بعدما تعرّضت موازنة وزارته أخيراً لضربتين موجعتين: إذ من المفترض حسم مليوني دولار من برنامج الأسر الأكثر فقراً و4 ملايين دولار من رواتب موظّفي الخدمة المدنية. هذه المبالغ تسحب من ميزانية بالكاد تشكّل 1% من مجمل الموازنة العامة.
ما حصل كان «منتظراً»، يقول أديب نعمة، الباحث في شؤون التنمية. بعدما وصلت الأزمة إلى حالة التشبّع «كان لا بد من أن تنفجر»، مشيراً الى أن هذا التردّي «لن يحلّ بمجرّد تسديد المستحقات». فثمّة مؤشرات تقود إلى القول إن الوضع «يسير نحو الهاوية في بلدٍ مفلس وموازنته ضعيفة، أضف إلى ذلك موازنة وزارة الشؤون نفسها». ولعلّ من أهم تلك المؤشرات السياسة الخاطئة التي تنتهجها الدولة، حيث توكل المهمات إلى جهات رديفة من دون استتباع ذلك بمراجعة وتقييم. المفترض أن تعيد الوزارة تصحيح المسار واتباع مقاربة مختلفة تستند إلى معايير وتعتمد على التقييم والمراجعة لتحديد «من يستحق ومن لا يستحق». وهذا يستوجب رقابة على عمل المؤسسات، وهو ما لا يحدث، إذ أن «الرقابة في الوزارة ضعيفة، إن لم نقل غائبة». كما يفترض تغيير النمط لناحية العقود، على قاعدة ألا تكون عقوداً أبدية تجدّد تلقائياً، إذ أن «الطبيعي أن يجري البحث عن صيغة للعقود لا تتعدى السنوات الثلاث أو الخمس، ريثما تستطيع تلك المؤسسات البحث عن بدائل». لكن، لا شيء من ذلك يحدث. «لا يزال نمط التفكير هو نفسه، وهو الذي أوصلنا الى هنا»، حيث «تُظلم مؤسسات تقدّم فعلاً خدمات ذات جودة وتتقاضى مبالغ ضئيلة مقارنة بمؤسسات أخرى تتقاضى مبالغ كبيرة». وهي، للمصادفة، «بغالبيتها مؤسسات دينية أو ترتبط بأحد أركان السلطة»!
«ميريم» أول المطبّات
في شباط الماضي، بدأت تتكشّف أزمة مؤسسات الرعاية مع إقفال مؤسسة الكفاءات مركز «ميريم» لرعاية ذوي الاحتياجات الخاصة لعدم تقاضيها مستحقاتها من وزارة الشؤون عن 14 شهراً. كان هذا الإقفال الأول الذي يبدو أنه اليوم «صار أحد الخيارات التي تتجه إليها مؤسساتنا»، يقول اسماعيل الزين، المدير العام لمؤسسة الهادي للإعاقة السمعية والبصرية واضطرابات التواصل. يوضح أن الجمعيات «تستعمل اليوم آخر خرطوشة، وهي الضغط على الدولة لتسديد المستحقات وتكثيف اللقاءات مع الكتل النيابية لتلافي خفض ميزانيتنا في الموازنة الحالية». وفي حال الفشل، فآخر الحلول هو «إنو نبطّل نستقبل حدا».
ما يقوله الزين ليس توجهاً فردياً، بل ينسحب على مؤسسات أخرى لجأ بعضها إلى تخفيف أعداد الوجبات أو «حسم» أيام استقبال الأطفال من خمسة إلى أربعة. كل هذا يأتي قبل الإقفال الذي يحدّده مسار الدولة في التعاطي مع مستحقات الجمعيات.
موسى شرف الدين، رئيس الإتحاد الوطني للإعاقة العقلية، يقرّب الصورة من الواقع، مشيراً إلى أن المؤسسات اليوم «تضم 9200 طفل، فيما يوجد على لائحة الإنتظار 8000 لا طاقة لنا على استيعابهم لعدم توافر الإمكانات المادية». لتلك المؤسسات في ذمة الدولة نحو 44.7 مليون دولار سنوياً، وفق حسابات سعر الكلفة للعام 2011. كانت ثمة محاولة في الموازنة الحالية لتعديل سعر الكلفة على أساس مؤشر أسعار 2012، إلا أنه «في اللحظات الأخيرة جرى حسم المبلغ الذي قدّر بـ 4.7 مليون دولار».