كتب نبيل هيثم في صحيفة “الجمهورية”:
ما من شك انّ اللعبة السياسية في لبنان باتت تتسم بالملل. واعتاد اللبنانيون على تأرجحها بين هبّة ساخنة تارة، وهبّة باردة تارة أخرى. ومشاهد متقلّبة ومتتالية على مسرح البلد، حول اكثر من عنوان اقتصادي اجتماعي او تفصيل سياسي أو أمني، ورشقات كلامية متبادلة بين المنابر والمنصات السياسية، تتجاوز الخطوط الحمر المرسومة بين الفرقاء اللبنانيين، كما حصل في الاشتباكات الاخيرة التي وزعت شظاياها في اتجاهات مختلفة، وبعضها اصاب التسوية السياسية – الرئاسية في الصميم، وأدخل حكومة هذه التسوية في دائرة الاحتمالات الصعبة.
لم تعد جدران الصالونات السياسية تتسع للكلام الذي يُقال داخلها، حول تداعيات الاشتباكات الاخيرة ووقوف طرفي التسوية خلف متراسين متصادمين، وما خرج من بواطن النفوس من مفردات بدت وكأنها تعبّر عن رغبات دفينة في إحداث انقلاب في الصورة السياسية القائمة، وفرض صورة جديدة عنوانها: الأمر لي!
التقى طرفا التسوية السياسية بعد انقطاع، والصورة التي التُقطت للرئيسين ميشال عون وسعد الحريري، أظهرتهما مبتسمين، وخرج الحريري مرتاحاً كما اوحى، مما وصف اللقاء بالممتاز مع عون. لكن ثمة سؤالاً يفرض نفسه هنا: هل نزع اللقاء فتيل الاشتباك؟ وهل بدّد ذيول ما حصل في الأيام الاخيرة؟ وهل حقن لقاء الرئيسين التسوية القائمة بينهما بمقويات تجعلها قادرة على الصمود، امام أي رياح ساخنة قد تهبّ عليها من هنا أو هناك؟
قد يكون اللقاء محطة تبريدية واحتوائية موقتة لما حصل، اسكتت مرابض التراشق السياسي والاعلامي، لكن من السذاجة افتراض انّها نزعت فتيل الخلاف بين منطقين، أخرجا المكنون إلى العلن وعبّرا عنه بحدّة غير مسبوقة بينهما، ما يعني بقاء هذا الفتيل قابلاً للاشتعال في أي لحظة. وخصوصاً انّ الغليان السياسي لا يزال مستمراً، والذي تفاعل مع استحضار خطاب سياسي من قبيل «السنّية السياسية» التي ولدت على جثة «المارونية السياسية»، ومع الردّ في المقابل بحديث عمّا سُمّي «غضب أهل السنّة»، ومن ثم صعود الخطاب السياسي إلى كلام عن «حقوق المسيحيين المسلوبة» في جانب، وعن «صلاحيات رئيس الحكومة المطاح بها» في جانب آخر، علماً انّ الغليان على خط التسوية، يتوازى مع أزمة اقتصادية اكثر غلياناً لا توفّر نارها مسيحياً او مسلماً وكل من ينتمي الى سائر الطوائف المكونة النسيج المجتمعي اللبناني، ويتوازى أيضاً مع العواصف الإقليمية التي يُخشى في لحظة معينة ان تضع لبنان في عينها.
أخطر ما في يُقال في صالونات السياسة، إنّ ثمة تشابهاً مخيفاً بين هذه المرحلة التي يمرّ بها لبنان اليوم، وبين المراحل السابقة التي عاشها في الزمن الخلافي الماضي الحاد بين اللبنانيين، والذي دفع لبنان بنتيجته حروباً واثماناً باهظة. وكذلك الأمر بالنسبة الى الواقع الاقليمي. إذ أنّ وجه الشبه كبير جداً بين الأمس واليوم.
أمّا اوجه الشبه هذه، فتتبدّى كالآتي:
– اولاً، في الشق الاقتصادي- الاجتماعي، يأس شعبي وانعدام ثقة كامل بالدولة، يعبّر عنه البعض بسلسلة تحرّكات احتجاجية بعضها عبثي في ظل انهيار الحركة النقابية، وبعضها الآخر ذو أجندات سياسية، فضلاً عن سياسات اقتصادية منسجمة مع وصفات المؤسسات المالية المعولمة، وتراعي حصراً الجهات المُقرضة كمجموعة «سيدر»، على سبيل المثال، مضافاً إليها جرعات فساد على الطريقة اللبنانية.
– ثانياً، في الشق السياسي، إنهيار كامل للقيم العامة، مع تدني الخطاب العام الى ما دون الحد الأدنى للأسس البدائية في الحياة السياسية حتى في اكثر دول العالم تخّلفاً.
– ثالثاً، إستعادة فظة لخطاب عنصري عفا عليه الزمن يستحضر حيناً «الجينات» اللبنانية – الفينيقية، وحيناً آخر توجّهات لإعلان الحرب ضد «الغرباء» بخطاب متطرّف، يقابله استنفار عصبيات الطوائف الأخرى، لاسيما في الشارع السنّي، بكل توظيفاته المولّدة لأزمات أمنية وسياسية.
– رابعاً، طموحات رئاسية شرهة، تدفع إلى التعامل مع «الخصم» السياسي – الذي يُفترض أنّه «شريك» وفق التسوية السياسية – بمنطق حروب الإلغاء، وهو ما يُتهم بممارسته عملياً وزير الخارجية جبران باسيل الطامح رئاسياً، ويقابل ذلك، تمترس يمارسه رئيس الحكومة سعد الحريري ضمن الطائفة السنّية سواء لصدّ هجمات الشريك – الخصم ، أو لاحتواء موجات التمرّد السياسي داخل الطائفة نفسها!
– خامساً، مشاريع إقليمية عنوانها العريض «صفقة القرن» على النحو الذي يعيد التذكير بمشاريع السبعينيات الإقليمية ابتداءً من مبادرة روجرز، مروراً باتفاقية سيناء، وصولاً إلى كامب ديفيد، وغير ذلك.
كل ما سبق، يقول المرجع المذكور، يجعل الحديث عن «التسوية السياسية» مجرّد تفصيل، فلبنان لا نقول انّه يبدو على شفا الانفجار، بل هو في عين عاصفة خطيرة، تُلمس من خلال الاحتقان العام في الداخل وإقليمياً.
ولكن، هل من عنصر حماية؟
في تقدير مرجع سياسي «صديق للتسوية»، انّه قد يبدو للبعض انّ إنقاذ «التسوية السياسية» هو المدخل الأساس لمنع السيناريوهات الأكثر تطرّفاً، التي تحوم أشباحها السياسية، والاقتصادية، والأمنية، والعسكرية، في سماء لبنان الملبّدة بغيوم العواصف الإقليمية، لا سيما أنّ ثمة اعترافاً صريحاً وواضحاً من قِبل شركاء الحكم بأنّ لا مجال لإهدار مزيد من الفرص، بعد كل تلك التي ضاعت خلال السنوات الماضية، باعتبار أنّ الاستقرار الاقتصادي، وعلى هشاشته، يبقى العنصر المانع لأيّ انفجار.
لكن المرجع يعود ويلفت الانتباه، إلى أنّ كثيرين باتوا يعتقدون أنّ هذه التسوية ستسقط عاجلاً على خلفية التراشقات الحالية، أم آجلاً لا سيما أنّ معركة رئاسة الجمهورية قد بدأت باكراً مع دخول «العهد العوني» عامه الثالث، خصوصاً أنّ التسوية في الأساس لم تُبنَ على صخر وإنما على رمال متحرّكة في الداخل ورياح عاتية من الخارج، في وقت يبدو المشهد العام في الشرق الأوسط، والمشهد العالمي عموماً، في حالة تحوّل مفصلي، ومرشحاً لتطوّرات دراماتيكية لن تُحمد عقباها إذا ما اتخذت أبعاداً متطرّفة، وهو ما تشهد عليه طبيعة العلاقات الأميركية – الروسية، والتوترات العابرة لضفتي الخليج العربي، والحرب المفتوحة التي تشنها الولايات المتحدة الاميركية على المحور الممتد من إيران وصولاً إلى «حزب الله» وباقي الفصائل الحليفة لهذا المحور. لذلك، حتى الآن يبدو أنّ لا حلّ إلّا بتمسّك آني بالتسوية الحالية، لكنّ الأمر لن يكون كافياً ان لم يقترن ذلك بإجراءات إصلاحية أكثر جذرية تحميها وتطيل عمرها وتتجاوز تقاطعات المصالح الآنية المتّبعة حالياً.
يبقى، في خلاصة كلام المرجع عينه، انّ ثمة إجماعاً ظاهراً – كلامياً على الأقل – بأن الطائف ما زال هو الحل وركيزته، لكن العبرة تبقى في تطبيقه، خصوصاً إذا ما اخذنا في الحسبان، أنّ السنوات الثلاثين التي تلت إقراره، أفرغت مضامينه الإصلاحية للنظام السياسي اللبناني من معناها، من خلال التشوّهات والاستنسابية في تطبيقه، اضافة الى التفسيرات المتناقضة حول الرئاسات والصلاحيات.