كتب نقولا ناصيف في “الاخبار”:
ليس مجلس الوزراء مَن تنتظره التعيينات الإدارية، بل آلية اتفاق الرئيس سعد الحريري والوزير جبران باسيل. ما لم يتمكنا من انتزاع الحصة العظمى ووضعهما معيار منح الآخرين حصصهم، لن تبصر النور. ذلك هو البند الآخر المخفي من “البيزنس” في تسوية 2016.
يروي السفير السابق والمدير العام السابق للأمن العام العميد أنطوان دحداح الآتي: إبان حكومة الرئيس تقي الدين الصلح عام 1974، عزم الرئيس سليمان فرنجية على إجراء ورشة مناقلات في الإدارة، تشمل المديرين العامين والموظفين الكبار وملء الشغور في بعض المراكز. من وفرة الوزارات والإدارات والمجالس والمصالح والمؤسسات العامة التي تطاولها التشكيلات، سأل عن سبل تنفيذها. كانت الأولى في عهده. بعدما حصل على لوائح وجداول بموظفي الفئة الأولى، الى المراكز الشاغرة، صعد دحداح الى الطبقة الثانية من قصر بعبدا، حيث الجناح الشخصي للرئيس، واتخذ من قاعة كبيرة مكاناً للورشة تلك. في وسط القاعة طاولة بليارد يتسلى فرنجية بلعبتها. بمساعدة معاونه، أعدّا بطاقات صغيرة مربعة من الكرتون، ملونة، كل منها حمل اسم مدير عام، ووزعها على خريطة للإدارة اللبنانية وزارات ومجالس ومؤسسات قُسِّمت خانات على الطاولة الخضراء. وُضِعت كل بطاقة في الخانة التي تشغل وظيفتها أو تشكو من شغورها. لبضعة أيام يحضر الرئيس، السابعة مساء، الى القاعة التي احتفظ المدير العام للأمن العام بمفتاحها ومنع دخولها. يقف أمام الطاولة، يتفرّس في خريطة الإدارة. يُقلّب البطاقات الملونة بين وظيفة وأخرى. يتوقّف. يفكر ملياً ويمج سيجارته على مهل. يستدير من حولها، ثم يبدل بطاقات أسماء المديرين العامين بين الخانات، من منصب الى سواه.
في اليوم الخامس، دخل رابع الى الغرفة، هو رئيس الحكومة تقي الدين الصلح. شرح له فرنجية ما يحدث، وراحا يتحدثان في المواصفات وإبدال الخانات والأسماء بعضها ببعض على الطاولة. يختلفان على اسم، ويتفقان على آخر حتى أنجزا المناقلات كلها. على الأثر، استدعى الرئيس المدير العام لرئاسة الجمهورية كارلوس خوري، وطلب منه إعدادها في جداول تبعاً لما استقرت عليه الخريطة على طاولة البليارد. بعد أيام، أقرّها مجلس الوزراء.
لم يكتفِ الرئيس بتقليب الأسماء بين الخانات. قلّب كذلك ــــ بلا معايير مسبقة ــــ طائفة الوظيفة كي لا تُخصَّص إحداها بها دون سواها، وأدخل تناوب الطوائف على وظائف الفئة الأولى.
على نحو كهذا، اختار آخر رئيس للجمهورية قبل الحرب بناء الإدارة. قبله، كان الرئيس فؤاد شهاب يختار الموظفين الكبار بناءً على نبذاتهم فقط، من غير أن يعرف قبلاً أياً منهم. لكن إنجازه الفعلي، غير المسبوق، المناصفة في وظائف الفئة الأولى.
بعد الحرب، في مرحلة ما بعد اتفاق الطائف، ثمة وجهة نظر جديدة مختلفة تماماً. وصول قادة الحرب الى السلطة أحال الدولة تدريجاً على صورتهم. الشريك الفعلي لهم هو سوريا. في حكومة الرئيس عمر كرامي (1990 – 1992) وُضعت أول معايير لإعادة تصنيف المناصب الإدارية الرئيسية في الإدارة، وتوزيعها على الطوائف على نحو ينصفها في سياق قاعدة المشاركة. مع أولى حكومات الرئيس رفيق الحريري (1992 – 1995)، طُرح للمرة الأولى تقاسم الحصص على نحو لم يُتح مع كرامي. بالكاد أطيحت حقبة الرئيس ميشال عون، ولم تكن استقرت لسوريا سيطرتها على السلطة الإجرائية، ولا صار الى انتخابات نيابية تقبض بها على غالبية البرلمان.
بحصول ذلك نهاية عام 1992، راحت تدريجاً تتنامى نغمة «الترويكا» التي ستستمر في السنوات الثلاث التالية. أول عهد حكومة الحريري في التعيينات، رغبة رئيسها في تقاسم وظائف الإدارة والقضاء بينه وبين الرئيس الياس الهراوي، وثالثهما دمشق، صاحبة المصالح الرئيسية بغية إمساك كل بنى النظام اللبناني. اذذاك ــــ على طريق «الترويكا» ــــ شاعت عبارة للرئيس نبيه برّي: «من حضر السوق باع واشترى». ما قاله إنه لن يطلب لنفسه ما لم يطلب الآخرون. إذا طلبوا، فحصته كاملة. بذلك ذهبت حصص الوظائف الرئيسية الى الرؤساء الثلاثة ووليد جنبلاط، وكانوا محور معادلة الحكم التي لم يكن قد دخل إليها حزب الله بعد. أضف حصص حلفاء دمشق الآخرين، المتفرقين على أحزاب وشخصيات. راحت تسهر على توزيع حصص الكل، داخل الطوائف حتى، مع ترجيح كفة. لكن لا استئثار لأحد بحصة طائفته. كان من السهولة بمكان إمرار سلال التعيينات تلك في غياب الأحزاب والتيارات المسيحية المعارضة التي اختارت المقاطعة. مذذاك، إلى الآن، أضحت الإدارة على صورة أركان الحكم. لكن خصوصاً على صورة الأحزاب التي لم تكن قد نزعت عنها قبعة الميليشيات وثيابها.
لم تكن مرحلة ما بعد اتفاق الدوحة عام 2008 أحسن حالاً. أضحى أفرقاء المعادلة ستة: الرؤساء الثلاثة وجنبلاط، انضم إليهم شركاء جدد هم حزب الله والتيار الوطني الحر والقوات اللبنانية. شأن حكومات الوحدة الوطنية، الصورة الوحيدة لنشوء سلطة إجرائية من دونها لا حكومة أبداً، يشارك فيها الأفرقاء الستة إياهم، كذلك تلاحقت دفعات التعيينات الإدارية، يسمّيهم هؤلاء من أحزابهم أو الموالين لهم فقط. عندما يتعذّر التقاسم والتفاهم يظل المنصب شاغراً.
لعلّ الوصف الصائب في ما درجت عليه الإدارة منذ اتفاق الطائف، مروراً باتفاق الدوحة، مع السوريين ومن دونهم، حتى الوصول الى تسوية 2016، هو عِبرة حوار قصير دار بين العميد دحداح والرئيس فرنجية عام 1974. ذهب إليه شاكياً تدخّل نجله النائب والوزير طوني فرنجية في شؤون الأمن العام. قال له: أنا أقسّم بين الناس بزيح أفقي كي أميّز. من فوق مَن لديهم مقدرة، ومن تحت مَن يفتقرون إليها. بينما طوني يُقسّم الناس بزيح عمودي يضع إلى اليمين مَن يقول إنهم معنا، وإلى اليسار مَن هم ضدنا.
ما يحكى، اليوم، عن التعيينات الإدارية المرتقبة لحكومة الرئيس سعد الحريري، أسوأ بكثير من الزيح العمودي: لا يكتفي عرّابا الحكم، رئيس الحكومة والوزير الأول جبران باسيل، باعتماد ذلك الزيح. بل ــــ وفق ما يشاع ويتردد على الأقل ــــ لا يُعيّن إلا مَن يكون عندهما فحسب. وهما وحدهما يحسبان حساب الباقين.