بدأ الأسبوع السياسي المنصرم بما يمكن وصفه “بانتفاضة الحريري” التي طمأن، إثرها ان لا أحد بإمكانه ان يسطو على صلاحيات رئيس مجلس الوزراء التي نص عليها الدستور، المنبثق عن اتفاق الطائف.. وانتهى الأسبوع نفسه، «بعراضة فاقعة» لرئيس التيّار الوطني الحر جبران باسيل من قلعة «حزب القوات اللبنانية» في الشمال الماروني، بشري – إهدن وقراهما، حيث أطلق «في العراضة البلدية» المرخصة من محافظ الشمال القاضي نهرا، جملة من المواقف، وصفها الزعيم الدرزي الاشتراكي وليد جنبلاط، بأنها تنم، بما تضمنته من مواقف لباسيل في مؤتمر البلديات، عن «الاحقاد الدفينة والشتائم للحزب الحاكم» بحق النازحين السوريين، مسلماً ببداهة فلسفتهم المفترض انها قائمة على «الحقد والعنصرية»، ناكئاً الجراح مع الحريري مجدداً عندما سأل عن «موقف الشريك في التسوية وفي الحكم».. تاركاً للصورة المرفقة ان تعبر عن فلسفة الحزب الحاكم، بملك يرتدي قبعة عسكرية، بين مرافقين، يرتديان بذلتين على طريقة نابليون، وعلى ذراع أحدهما شارة توحي «بالرمزية النازية».
ولا بدّ قبل الغوص في بحر الأحداث اللبنانية المتلاطمة بين وثوقية الحريري من ان زمام الأمور لم يفلت من يده، «ونوستالجيا» جنبلاط التي تجمع في الخلفية فكرة الرفض لنظرية «الحزب الحاكم» أو الحزب القائد أو الحزب الواحد التي تذكر بنظم العسكريتاريا العربية، (لا سيما العسكريتاريا العبثية على ما ازعم)، والتحسر على الظروف التي اوقعت لبنان «بالتسوية الرئاسية» المشؤومة وفقاً للسوداوية الجنبلاطية، كمخرج من الفراغ الرئاسي القاتل، وتداعياته والنرجسية الفردية، الانانوية لباسيل (Egoisme) الذي يخال نفسه قادراً على «إحداث العجائب» في بلد الغرائب والمصائب، من كلمتين أو أكثر، حول مآل إضراب أساتذة الجامعة اللبنانية، الذي توقف مؤقتاً بحصيلة كلامية، لا أفق عملياً لها، على طريقة «أكلنا جوزاً فارغاً»، وعلينا ان نعلن الشبع وإلاّ..
المسألة هنا، تعدّت «الجوز الفارغ» أو «ع الوعد يا كمون»، إذ انه بعد سلسلة الرتب والرواتب، تحوّلت الجامعة إلى «ضرة للدولة»، أو السلطة الحاكمة، بعض من التودّد الفوقي، و«تربيح الجميلة» إلى نظرة كراهية مبطنة، وبدأت المشاريع تنضج أو تستوي: لا تجاوب مع أي مطلب لهذه «الانتلجنسيا» حتى لو كانت «اداتها النقابية» من عظام رقبة «اهل السلطة». غدر الزمن بأهل الجامعة، بدأ الانقضاض على «المكاسب»، مثل صندوق التعاضد، السنة الذهبية، التدرج، التقديمات الاجتماعية، المساواة مع القضاة… إلخ..
المسألة بدت واضحة، بين «المطالب السيادية» لمؤتمر «سيدر» و«المطالب الحيوية والتشغيلية» للجامعة واساتذتها، اختارت السلطة الحاكمة، بأحزابها وتياراتها، مؤتمر باريس: الانقضاض على دولة الرعاية، إخضاع الاقتصاد لرقابة ومتطلبات الأوضاع المالية والاقتصادية الدولية، السيادة للصندوق والبنك الدولي..
الأخطر ان السلطة تمكنت من إخضاع الحركة النقابية لمنطق «التوافقات الفوقية» المتعلقة بمصالح الاستمرار بالحكم والتماهي مع المستلزمات السيادية للمؤسسات المالية والحقوقية والسياسية صاحبة الكلمة الفصل في القرارات والخيارات..
ومع ان حدث «وقف الاضراب» جاء في موضعه الصحيح، وسط عواصف غير محسوبة داخلياً، والحاجة لإنهاء مرحلة من الاضطراب في إدارة الملف على المستوى النقابي، إذ ليس من المستحسن ضرب مصالح الطلاب في لحظة حاسمة من تحصيلهم الجامعي، والمضي «بإضراب مفتوح» غير واضح الأفق، وضمن آليات من التحرّك، اتسمت بالبرودة، واللاتأثير، والتربص، والانقسام، والعجز «الضاهر» والمستتر (بالإذن من النقابي الصادق والمحترم د. يوسف ضاهر)، فإن بروز السلطة بمظهر القادر على «التحكم» ربما الآلي أو العضوي بسائر مفاصل المجتمع، رفع من منسوب الآفاق المسدودة، وترك الباب مفتوحاً على مصراعيه، بحثاً عن طرائق، تجعل السلطة الباحثة عن مخارج لأزماتها، بدءاً من الموازنة، والتوظيف العشوائي، إلى الأزمة الأم: تقاسم السلطة وتنظيم الانتساب إلى «النادي العربي» أو الإقليمي، أو حتى الدولي، وسط علمية آخذة بالاستقطاب والتلاعب على مسرح النظام الدولي العالمي، وانظمة وقواعد اللعب المسموح بها، وغير المسموح بها..
في الخلفية، على مستوى السلطة، تستأنف الحكومة عملها كرأس للسلطة الاجرائية، فعلياً، من دون ان تتمكن من مقاربة المسائل الحيوية، كالتعيينات في المراكز الشاغرة، والتي يبدو ملؤها يحتاج إلى توافقات، دونها صعوبات فعلية، ليس على المستوى العام، بل على المستويات الخاصة بكل طائفة، أو مكوّن، كما يردّد باسيل «مالئ الدنيا وشاغل الناس»!
هنا، تبدو المسألة متاحة، لمقاربة جديدة، للفعل السياسي في لبنان. يتصرف السيّد باسيل، ولا ادري جملة المكونات الذهنية لعقله السياسي (بالمعنى الايديولوجي) من زاوية العقل الأميركي، الذي ينظر إلى السياسة بأنها تمثل رؤية الفاعل والمحرك لتحول نظام مجتمع ما: سياسة تفعل فعلها في النّاس.. ومن زاوية ان السياسة هي عملية (Process). والمقصود هنا، سلسلة لا تتوقف من الأعمال القصدية التي تستهدف تحقيق غاية محددة، فالسياسة هي أشبه بترميم المنازل، أو إنتاج البضائع الجاهزة للاستثمار..
لاحظ مثلاً، ارتباط حركة باسيل على الأرض، مع رمزية الكمال، المواقف التي تطلق، التتابعية والترابط بين سلسلة من الأحداث..
يذهب إلى الجنوب، ومن هناك يعلن استعادة القرار، أي إعادة المسيحيين، أو اخراجهم من عباءة حركة «أمل» ورئيسها، رئيس مجلس النواب، والشريك القوي في السلطة (والذي تكثر الشكاوى عليه، وحوله في بيئة الحليف الاستراتيجي)، ويحدث سجال، فعل وردة فعل.. كلام.. فاتصالات فتهدئة..
ولكن إحداث الضجة، هو الأساس، هو الفعل الموازي لاطلاق المواقف.
يذهب الرجل إلى الجبل، فتتوتر الأجواء مع الحزب التقدمي الاشتراكي، الذي عينه على «الحزب الحاكم»، أي حزب باسيل، والشريك في المصالحة التاريخية مع البطريرك الماروني الراحل الكاردينال صفير، أي «القوات اللبنانية».. هنا يلتبس الموقف، أية صيغة للتعايش المسيحي – الدرزي، أو الماروني – الدرزي، في جبل المتصرفية، أي «لبنان الصغير» نواة لبنان الكبير؟!
في الشمال الماروني، الطريق إلى البرلمان، قانون النسبية، الدخول إلى عقر دار «التنوع المسيحي»، زغرتا من خلال «تشليح فرنجية مقعداً»، الكورة من خلال الشراكة مع «القوات» و«الحزب السوري القومي الاجتماعي»، البترون من خلال اقصاء بطرس حرب، بشري – الزاوية، من خلال الامتداد الحزبي والبلدي..
يطرح باسيل في خطاباته، من البقاع إلى الشمال مفردات، ذات دلالات رمزية، لاحداث الخصومة، من باب التعاون، في إنتاج لا يتوقف لتجربة سياسية، تعيد دور «الموارنة» في السلطة المركزية عبر بوابات، لا تتوقف: من الميثاقية إلى الشراكة، ومن الإصلاح إلى التغيير، ومن الضعف إلى القوة، ومن اللجوء الفلسطيني الى النزوح السوري، ومن الاحتلال إلى التحالف.. انها حزمة من تجربة يراد لها ان تنقل لبنان من ضفة إلى ضفة، على وقائع اعلام الصورة، وسياسة الحدث، ورمزية اللغة وانتظار النتائج.. دأب الرجل على استخدام ما يمكن تسميته بـ«خطاب التيمات السياسية» أي خطاب المواضيع بلغة المفردات، ووضع المعيار المقبول أو المرفوض: فالخيار بين العمل للبناني أو السوري، والخيار بين عودة النازح أو بقائه، أو استعادة الهوية أو عدم استعادتها… إلخ.
قد لا يكون جنبلاط جانب الصواب عندما تحدث عن لغة عنصرية، أو حتى عرقية، فالمسألة ذات علاقة بسيكولوجيا الاتصال أو ربط التفاعلات السياسية بالتفاعلات الاجتماعية.
فمن ربط المجموعة المسيحية بشخص السياسي الآتي من عالميّ الريف والهندسة، إلى محاولات ربط المجموعات الأخرى بالمجموعة المارونية.. تمضي تجربة النظام السياسي تبحث عن تبدلات وتغيرات.. بانتظار تبدلات المنطقة وانظمة الطاقة وتكريس وظائف الدول أو إحداث أنظمة جديدة لها؟!