كبرنا يا أبي، وأدركنا أنّنا لم نكبرعبثاً، فلا ينمو جسد إلا ليتعب جسد، ولا تتربّى أجيال إلا لتفنى أجيال. كبرنا واكتشفنا أن قسوتك حبّ، وثورتك حماية، وغضبك عناية.
كبرنا يا أبي وتعلّمنا أن نتحدّث إليك من دون وساطةٍ من أمّي، وأن نتكلّم بجرأة وثقة ونقوم بواجباتنا ونطالب بحقوقنا من دون أن نستقبل أحداً بالورود ونصفّق له.
كبرنا، وعرفنا أنّ “ابو كيس” الخرافيّ موجود، يترصّد لنا أمام باب البيت، وباب العمل، وكلّ الأبواب، يعتقد أنّه يخيفنا لأنّه يسرق أموالنا ويضعها في الكيس، و “ينهش” أحلامنا، ولكنّه بالفعل، لم يعرف أنّنا لا نخاف الّا الله.
كبرنا يا أبي وتعلمنا منك الثبات على المبدأ، وهو ما تجلى في مواقفك. وتعلّمنا منك أنّ ألدّ الأعداء هو من كنّا نتحدّث إليه بالأمس بكلّ راحة وطمأنينة، وتعلّمنا أنّ الصداقة لا تنشأ من الولائم.
علّمتنا يا أبي أن ننظر دائماً الى الأمام لأنّ الحُفر فوق الأرض كثيرة، والفِخاخ أكثر، والتعثّر يجب أن يكون درساً للوقوف مجدّداً، وأن الحجارة لا تبتعد إن كانت في طريقنا، بل علينا نحن الإنعطاف عنها.
كبرنا وعرفنا يا أبي، وأن الوجع لا بدّ منه لنعرف قيمة الصحة، وكيف أن الدواء مرّ، لكنّ الأمرّ منه سعره، لهذا علينا أن نجتهد ونعمل بجديّة حتّى لا نمدّ يد العوز لأحد.
كبرنا يا أبي، ولم تعد قطعة الحلوى تحلّ الهموم، ولم تعد مشاكلنا تنتهي بإغماض الجفون، وعرفنا أنّ هناك طعنات قد تأتي من القدر، وأخرى تأتي من البشر.
كبرنا وتعلمنا منك أنّ الوقت أثمن من كنوز الدنيا، وأنّه كالسيف إن لم نقطعه يقطعنا.
كبرنا وتعلمنا أنّ ألم الموت، يفوق صفعة الأب، وكلمة “لا” وعلامة صفر، كبرنا وعرفنا أنّ الابتسامة ليست دائماً علامة للفرح، واللون الأسود ليس دائما حزيناً.
كبرنا يا أبي ولم نعد نخاف منك، بل نخاف عليك، كبرنا واكتشفنا أننا لم نكبر وحدنا فقط بل كبر والدانا معنا…
كبرت يا بابا، وأنا أؤمن ان الله ينير دربي، فأصنع لنفسي جواً يسعدني، واعتزل من يزعجني، وأمرّ مرور الكرام على كل موقف يعكر مزاجي. اطمئنّ عليّ… كل عام وانت بخير.