كتب أحمد الايوبي في صحيفة “اللواء”:
في وقت تزداد فيه الحماوة الإقليمية وتتصاعد أجواء التوتر في المنطقة، باشرت قيادة المملكة العربية السعودية حراكاً دبلوماسياً متكاملاً، فإستقبلت قائد الجيش العماد جوزاف عون فاتحة الباب لإعادة النقاش حول سبل دعم المؤسسة العسكرية بعدما تعرضت لإنتكاسة كبيرة في وقتٍ سابق عندما سطا «حزب الله» على زمام القرار وحوّل لبنان إلى منصة للتطاول على المملكة، فدخلت الهبة السعودية نفق النسيان.
في هذه الأجواء، «إقتحم» وفد مجلس الشورى السعودي برئاسة صالح بن منيع الخليوي المشهد السياسي محدِثاً الكثير من التفاعل وباعثاً الرسائل على المستويين الرسمي والشعبي، فكانت لقاءاته مع رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة سعد الحريري بمثابة تأكيد بأن السعودية تتعاطى مع الدولة اللبنانية من خلال مؤسساتها الدستورية، رغم وجود خلافٍ سياسي واضح مع الرئيس عون وفريقه السياسي.
كانت محطة وفد مجلس الشورى السعودي في مجلس النواب اللبناني محطة هامة ومفصلية، وكان الدور البارز لرئيس لجنة الصداقة اللبنانية السعودية الرئيس تمام سلام في تظهير الأفق الواعد لهذا التواصل السياسي التشريعي.
كذلك حرص وفد الشورى السعودي على الإحتفاء بسماحة مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان، فكان اللقاء في دار الفتوى محطة أساسية في تأكيد محورية المرجعية الدينية وتكريم صاحب الدار، الحارس للوحدة والرافع لراية الإعتدال والشراكة والعيش المشترك.
وجاء لقاء الوفد السعودي مع رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان، وشيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن، ليؤكد على نبذ الطروحات المذهبية.
كما جاءت زيارة الوفد الى بكركي ولقاء البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي، لتشدد على رفض الفتن الطائفية وضرورة الحفاظ على السلم الأهلي في لبنان وعدم السماح بإستخدام التحريض لضرب وحدة لبنان والعرب.
بالتوازي مع اللقاءات الرسمية، حرص الوفد على لقاء رؤساء الحكومات السابقين، وكأنه يبدي تأييده لما عبروا عنه في بيانهم الأخير من رفضٍ للتطاول على صلاحيات رئاسة الحكومة وضرورة التصدي لهذه الممارسات التي تهدّد الدستور وإتفاق الطائف وتعيد اللبنانيين إلى زمن المواجهة الطائفية.
ورؤساء الحكومات السابقون باتوا يشكلون حرّاس الطائف والوحدة، ولذلك يكتسب لقاء الوفد السعودي بهم أهمية خاصة مع إستمرار العدوان على موقع وصلاحيات رئاسة الحكومة وعدم إمكانية السكوت والتغاضي عن التدهور الحاصل في هذا المجال.
دعم طرابلس الصامدة في وجه الإختراق الإيراني
الرسالة الأوضح جاءت من خلال تخصيص مدينة طرابلس بزيارةٍ موسعة بأبعادٍ إقتصادية وتنموية وسياسية، شملت زيارة غرفة التجارة والصناعة والزراعة وجولة على القلعة التاريخية، ولقاء مطوّل مع الرئيس نجيب ميقاتي، تلاها تأدية صلاة العصر في المسجد المنصوري الكبير وكانت محطة دينية وجدانية مميزة، إكتشف فيها الضيوف السعوديون روح طرابلس التاريخية وعبقها وأصالتها، ولا شكّ أن هذه الجولة ستبقى في وجدان رئيس وأعضاء الوفد، وستسهم في حسن التواصل والمتابعة في الفترة المقبلة.
ولعله كان لافتاً إجتماع نواب طرابلس في دارة الرئيس ميقاتي الذي تناول ممارسات الوزير جبران باسيل من دون أن يسميه ورفضها وتولى التأكيد على حسن العلاقات اللبنانية السعودية، بينما كان رئيس الشورى السعودي صالح الخليوي يؤكد أن المملكة حريصة على أفضل العلاقات مع لبنان حيث أكد أن توجهات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، في تنمية لبنان ودعمه سياسياً وإقتصادياً وإجتماعياً.
وفي السياسة أيضاً، لا بدّ من قراءة المشهد الطرابلسي عشية زيارة الوفد السعودي.
فطرابلس حافظت على هويتها العربية ورفضت ولفظت الإختراقات الإيرانية على مدى العقود الماضية، ودفعت الثمن غالياً لهذا الموقف، جولاتِ عنفٍ وتفجيراتِ مساجد، وبقيت صامدة في وجه موجات الإستهداف، سواء بواسطة «حزب الله» أو مباشرة من خلال تدخل الحرس الثوري الإيراني مؤخراً لتشكيل مجموعات مسلحة كامنة، تهدّد أمن طرابلس ونسيجها الوطني.
طرابلس، تمكنت قبيل زيارة وفد الشورى السعودي من تعطيل إختراقٍ إيراني سياسي – إعلامي، كان يجري التحضير له ولإستثماره على أنه إنجازٌ في لحظة التوتر الإقليمي، تحت ستار ندوة لمن يسمى المستشار الثقافي في السفارة الإيرانية محمد مهدي شريعتمدار تحت عنوان «المشهد الثقافي والفكري في إيران بعد أربعين عاماً على إنتصار ثورتها»، كان هدفها إستعراض القوة الإيرانية في عمق المناطق السنية والوطنية، فتصدى له شرفاء المدينة، في ظل صمتٍ مريبٍ من نوابها، ودعا «التحالف المدني الإسلامي» وجمعية البشائر وعلماء وشخصيات وفعاليات إلى الإعتصام أمام مكان الندوة المقرر، وبلغت الحملة ذروتها عندما أصبح الرفض شاملاً من مجمل أبناء طرابلس، فإضطرت المستشارية الإيرانية لإلغائها تحت صيغة التأجيل.
ولا شكّ أن هذا الموقف الصارم من أهل طرابلس، شكّل إشارة مضيئة لدى القيادة السعودية التي إختارت أن «تهدي» الفيحاء إلتفاتة محبة وتضامن بعد ما شهدته من عمل إرهابيّ مؤخراً، وما تلاه من حملاتٍ سياسية أرادت إعادتها لمرحلة العزل والتهميش.
إقتصادياً: طرابلس الكبرى عاصمة لبنان الإقتصادية
أما إقتصادياً، فقد إحتشدت فعاليات طرابلس والشمال وعكار في غرفة التجارة والصناعة والزراعة ترحيباً بضيوفها أبناء بلد الخير والعطاء. ولا شكّ أن الجهود التي بذلها رئيس الغرفة توفيق دبوسي على مدى السنوات الأخيرة، وخاصة إطلاقه حملة لإعلان طرابلس عاصمة لبنان الإقتصادية، أسهم في جعل طرابلس محطّ أنظار كل المهتمين بالإستثمار والتطوير في لبنان.
فطرابلس الكبرى، كما يسميها توفيق دبوسي، تضمّ كل المرافق اللازمة من مرفأ ومعرض ومصفاة ومنطقة إقتصادية خاصة ومطار (مطار الشهيد رينيه معوض في القليعات)، ومنطقتها الإقتصادية قابلة للتوسع حتى شواطئ عكار لتشكّل حوضاً عملاقاً مؤهلاً لأعمال الصيانة والتجارة والأعمال البحرية.
إستمع الوفد السعودي إلى شرحٍ وافٍ من الرئيس دبوسي، وشاهد مرافق غرفة طرابلس بمختبراتها ذات المواصفاتٍ العالمية وحاضنتها للأعمال وأقسام الجودة والتطوير ودعم الإنتاج، وأدركوا أنهم أمام مؤسّسةٍ تجاوزت الدور الإقتصادي التقليدي نحو دور الريادة التنموية المساهمة في رسم السياسات الإقتصادية، وهذا ما شجّع رئيس وفد الشورى صالح بن منيع الخليوي على إطلاق دعوة مباشرة إلى المسارعة لفتح قنوات التواصل بين غرفة طرابلس والغرف التجارية في المملكة للبدء في البحث عن سبل التعاون ودراسة فرص الإستثمار في «طرابلس الكبرى».
وفي نظرة شاملة، فإن طرابلس التي تضم كل هذه المرافق والفرص، تحوي أيضاً ثاني مدينة مملوكية في الشرق بعد القاهرة، وهي متحف حيّ، يشكل مصدر جذب للسياحة الدينية والثقافية والعائلية، ومع إمتدادها وتواصلها مع مصايف مميزة في الضنية وعكار تصبح الزيارات السياحية للعائلات السعودية مساحة تواصل إنسانية وإقتصادية جامعة.
بين إيران والسعودية: لا مجال للمقارنة عند حضور الوفود السعودية إلى لبنان يستحضر البعض المقارنة مع السلوك الإيراني في البلد.
والواقع أنه لا يمكن المقارنة بين السلوك الإيراني والسياسة السعودية في لبنان.
فالمسؤولون الإيرانيون يزورون المقارّ الرسمية، ولكنهم يحوّلونها إلى منصاتٍ لإطلاق مواقفهم الحربية في الإقليم، ويباشرون لقاءاتهم مع قادة الميليشيات والأحزاب المسلحة وشبه المسلحة، متجاهلين قواعد السلوك الدبلوماسي.
في المقابل، ترى الزيارات السعودية تركز على تثبيت ركائز الدولة والحفاظ على المؤسسات الدستورية، وهي تحرص على إستمرار رعايتها لإتفاق الطائف الموقع على أراضيها، ليس لأنها الدولة الراعية، بل لأنها تنظر إلى لبنان كنموذجٍ للشراكة الإسلامية المسيحية في العالم العربي والعالم.
زيارة وفد مجلس الشورى السعودي كانت خطوة متقدمة ومفاجأة سارة للبنانيين، وكان لرئيس الوفد صالح بن منيع الخليوي خطابه المبشر بالتعاون مع لبنان الدولة والمؤسسات والقطاع الخاص، وهذه زيارة لا يمكن إلا أن تـُضاف إلى سجل سفير المملكة في لبنان وليد البخاري، الذي كانت بصماتـُه الإيجابية ظاهرة في كلّ مفصلٍ من مفاصل جولة وفد بلاد الحرمين في بلاد الأرز.