IMLebanon

تفكیك “شیفرة” مشروع الإنقضاض على الدستور بالوقائع!

كتب أحمد الأيوبي في صحيفة “اللواء”:

إستكمل رئیس بلدیة الحدث جورج عون نظریة التفوّق الجیني التي فاخر بها رئیس التیار الوطني الحر جبران باسیل بإعلان وقح عبر وسائل الإعلام بإعلانه أنه یرفض فعلاً شراء المسلمین أو تأجيرهم في نطاق البلدیة التي يرأسها، بمباركة سیاسیة من الرئیس میشال عون وأمین عام «حزب الله» حسن نصرالله، في مخالفة فاضحة للدستور وتعمیق وتكثیف للحالة الطائفیة التي تحرّض المسیحیین على المسلمین وتناقض العیش المشترك.

هذا الإعلان یدفعنا إلى التساؤل:

هل ما نشاهده من إصطدام عنیف بركائز الدستور وبأعمدة إتفاق الطائف ناتجٌ عن تدافع الأحداث وتضارب المصالح الآنیة ومساعي السیطرة وبسط النفوذ.. أم أنه جزء من منهجية ومشروع يهدف إلى تقویض إتفاق الطائف بالتدریج وإقامة الجمهوریة «المسیحیة القویة» الخالصة التي یجري الإشارة إليها الآن تحت مسمى الرئاسة القویة؟.

هذا السؤال یكاد یحمل الإجابة التلقائیة الیوم بعد رصد سلسلة مواقف وممارسات جرى فرضها وتكريسها منذ عودة الرئیس میشال عون ومن خلال صهره رئیس التیار الوطني الحر وزیر الخارجیة جبران باسیل.

هاجس إستعادة الصلاحیات 

جاء العماد عون رئیساً بموجب الدستور الذي حاربه،ولكنه للوصول إلى السلطة، تعامل مع الواقع وتم انتخابه رئیساً، بعد أن حمل شعار إستعادة صلاحیات رئاسة الجمهوریة، الذي یعني حتماً تقویض صلاحیات مجلس الوزراء ورئیسه، وتفريغها من مضمونها.

كان التیار العوني شریكاً في إدخال البدع على الدستور من الثلث المعطل إلى الوزیر الملك ولیس انتهاءً بتعطیل الدولة مقابل توزیر جبران باسیل وتأمین إنتخاب العماد عون رئیساً للجمهورية.

منذ إعتلاء عون كرسي الرئاسة إبتدعت قیاداتُ التیار الوطني الحر الحصة الرئاسیة في مجلس الوزراء، رغم انه شخصیاً كان قد أنكر أشدّ الإنكار حصول الرئیس السابق میشال سلیمان على تمثیل وزاري. ومع نجاحه في تثبیت السیطرة على وزارات الطاقة والمیاه والعدل والخارجیة وغيرها، تمكن التیار العوني من تكریس حصر القرارات الحكومیة بالجلسات المنعقدة في قصر بعبدا مع التدخل في وضع جدول الأعمال وتحدید كثیر من مسارات العمل الحكومي.

كان هذا الواقع موضع شكوى متصاعدة ومتواصلة في الحكومة التي تشكلت قبل الإنتخابات النیابیة..

وبعد إنقضاء ذلك الإستحقاق، على أساس القانون النسبي الهجین، الذي أدى إلى خسارة الرئیس سعد الحریري للجزء المسیحي من كتلته ولعدد من المقاعد السنیة، ظن الجمیع أن الحریري سیوقف هذا التمادي ویستعید ما خسره من صلاحیات بحكم الأمر الواقع، لكن الكثیر من الإستحقاقات عبرت من دون حصول ذلك حتى الآن.

مواقف معلنة ولیس هناك من یقرأ

لم یُخفِ أعضاء الأسرة الرئاسیة ولا المسؤولون في قیادة التیار الوطني حقیقة مشروعهم، لكن المشكلة كانت لدى الطرف الآخر الذي كان ولا یزال يتجاهل خطورة ما یتم اعلانه ثم تطبيقه من سیاسات تمسّ عمق العمل الوطني.

في 12 أیلول 2017 وفي سیاق تغطیة قضیة مدیرة التعاونیات في وزارة الزراعة غلوریا أبو زید والخلاف الدائر بشأنها، أورد عدد من الصحف إشارة مرت بشكل عابر دون أن تثیر الكثیر من الإنتباه، «وهي، أن هناك قراراً توافقیاً بین الرئیسین میشال عون وسعد الحریري بعدم إجراء أیة تعیینات في الجلسات التي تُعقد في السراي الحكومي».

ولدى التدقیق في هذه الإشارة والتعمّق فيها، إتضح أن هناك «عُرفاً» یُلزِم رئیس الحكومة بعدم طرح أي تعیین على جدول الأعمال وحصر قرارات التعیین بما یتم إعتماده من القصر الجمهوري.

ثم ما لبث الرئیس عون أن صرّح لـ «الجمهورية» أن «الحاجة لـ«الثلث المعطل» انتفت لأن مجرد غیابي عن مجلس الوزراء یكفي حتى یصبح انعقاده متعذراً»؟!

وهذا أخطر ما قاله لأنه مخالف للدستور، إذ أن المادة 53 تنص على حق رئیس الجمهورية في حضور مجلس الوزراء متى یشاء وترؤسه له من دون أن یشارك في التصویت. ما یعني أن مجلس الوزراء لا یحتاج لحضور رئیس الجمهورية للإنعقاد.

وقد توّج الرئیس عون هذا التوجه في الجلسة الأولى لحكومة الرئیس سعد الحریري (الحالیة) من خلال خطوتین.

– الأولى: توجيه الدعوات لإنعقاد مجلس الوزراء من القصر الجمهوري ولیس من السراي الحكومي، وتلك سابقة خطرة لم تحصل منذ تطبیق الطائف یدرك مخزاها المبتدئ في السیاسة.

– الخطوة الثانیة: الإمتناع عن تطبیق القاعدة القاضیة بتوزیع نسخة عن وثیقة الوفاق الوطني والدستور في الجلسة الأولى للحكومة بعد تشكيلها، وهذا مؤشر إضافي على الرفض الشكلي والضمني للدستور وللطائف، حیث لم یبذل فریق الرئیس أية جهد في تبدید هذا الإنطباع.

ملامح النظام الرئاسي

بتاریخ 16 حزیران 2018 أعلن النائب العوني جورج عطاالله أن «التیار یرید آلیة (لتدخل) رئاسة الجمهوریة في أي ملف».

بعبارة أخرى یقول إنه یرید تحویل النظام إلى حكم رئاسيّ بالأمر الواقع من خارج الدستور، مما یثیر الفوضى الدستوریة ویفرض هیمنة من مؤسسة دستوریة على أخرى، وهذا ما عبّر عنه بالضبط وزیر الدفاع والنائب العوني الیاس بوصعب یوم الأحد 9 حزیران 2019 عندما تحدّث عن میزانیة الجیش معتبراً أن «الكلام عن كل ما یتعلق بالمؤسسة العسكریة یجب أن یتم مع قائد الجیش، كما مع سائر الاجهزة الأمنیة، على أن یناقش لاحقاً في المجلس الأعلى للدفاع» لأن الحكومة لا تصلح لهذا النقاش حسب رأي وزیر الدفاع.

ولا نحتاج إلى وافر الشرح لیتضح أن بوصعب أراد نقل ملف الجیش ومیزانیته وادراته من مجلس الوزراء، صاحب السلطة والصلاحیة، إلى رئاسة الجمهورية تحت مسمى مجلس الدفاع الأعلى الذي يرأسه حكماً الرئیس عون.

فلسفة التعطیل الطائفي

المستشارة الرئاسیة میراي عون قدّمت فلسفة خاصة بالإنقلاب على الدستور من خلال مقابلة اجرتها بتاریخ 5 تشرین الأول 2018 على شاشة قناة «المنار»، فقالت في معرض تبریر عدم توقیع الرئیس عون على مراسیم تعیین الناجحین في إمتحانات مجلس الخدمة المدنیة (حرفیاً) إن «القانون یسمح لك أن تعدُل (أي أن تقیم العدل) ولكنك في الواقع لا تعدل! وأحیاناً الممارسة تطبقها من دون أن یكون هناك نص دستوري.. هذا له علاقة بالأخلاق والأدبیات.. كذلك فإن البلد قائم على التوازنات، وهناك عنصران إذا تم ضربهما یتم ضرب لبنان، هما: الدیمغرافیا والجغرافیا، ولا أدري إذا كان هذا هو المطلوب على مستوى التوازن».

وأضافت عون: «المطلوب قلیل من التفهم. صحیح أن ضغطاً كبیراً على الوظائف، ولكن لا یمكن الحكم على العهد من خلال عدم توقیع مراسیم هذه الفئة. المسألة تحتاج شیئاَ من الحسّ بالمسؤولیة. الموضوع سیعالج، ولكن في الحكومة المقبلة». وطبعا تشكلت «الحكومة المقبلة» ولا یزال الناجحون محرومین من حقوقهم بل وجدنا مستشار وزیر الخارجیة في مقابلة على قناة «الجدید» بتاریخ 19-5 – 2019 يكرر المعزوفة نفسها، متجاهلاً أن القانون یفصل بین وظائف الدرجة الأولى التي توجب المناصفة، وبقیة الوظائف التي لا ترتبط بها على الإطلاق، حیث قال: «لا نستطیع أن نعتمد على التوازنات الطائفیة داخل الإدارة وندعو إلى إعتماد الكفاءة، وهناك إشكالیة حقیقیة لا یجب الإختباء منها: تتمثل في أن النظام القائم على التمثیل الطائفي إذا مشینا فیه كما هو الحال، سیُحدث خللاً دیمغرافیاً طائفیاً بالمعنى الوظائفي. لذلك، الحل لیس في أن تعطي الحقوق هنا. الحل یكمن بالجلوس على الطاولة ونضع حلاً مستداماً وطویل الأمد.. لا یجب النظر إلى المسألة من باب الحق في وظیفة محددة بل یجب توسیع الرؤیة، لأن هناك وظائف في الدولة اللبنانیة یصل الخلل فیها إلى درجة سیطرة اللون الواحد عليها.

وإعتبر المستشار «المستنیر» أن القانون لا یقول ان وظائف الفئة الأولى مناصفة، وما عدا ذلك خارج التقسیمات الطائفیة.. زاعماً أن هذا الكلام غیر صحیح، والممارسات التي تمت منذ الطائف وحتى الیوم تثبت في بعض الاماكن، أن الحاجب في الدولة صار یُحسب على المناصفة، وصار هناك خلل كبیر في عدد كبیر من الوظائف.. وأنا بإسم الوزیر باسیل أقول: نحن مستعدون لفتح الحوار الفعلي والحقیقي حول كیف نتخطى البنیة الطائفیة المهترئة في الدولة وأن ننتقل بوضوح وثبات نحو دولة مدنیة فعلیة تقوم على الكفاءة والعدالة الفعلیة والمواطنیة، لأن حل جزء وترك الجزء الأكبر نعمل مشكلة في مكان آخر، ونرجع إلى إحباط وهجرة فئة من اللبنانیین.

وفي ذروة كل هذا نجد أن الوزیر باسیل وضع یده في أكثریة الوزارات، وبات یتدخل فيها فیتسلط في وزارة التربیة ویحرّض البلدیات ويستهدف قیادات الأمن في «الداخلیة»، ویتدخل في الإتصالات، فضلاً عن تفرّده المستفزّ في السیاسة الخارجیة.

وما بین تصریحات میراي عون وجبران باسیل وبقیة فريقه النیابي.. تتكشّف بجلاء ملامح المشروع العوني لضرب الطائف، ولعلّ المواجهة بین «سیدة بعلبك» وباسیل خلال إفتتاح مقر التیار العوني في قضاء بعلبك- الهرمل، یمثّل أدقّ تعبیر عن يأس اللبنانیین بهذه الهرطقات الظالمة التي يفرضها هذا التیار على الجمهورية وأهلها.

أین أهل الطائف؟! 

لیس المقصود من هذا المقال سرد المواقف العونیة فقط، بل الوقوف عند عمقها ، وإلى أيّ مدى وصل مشروع الإنقلاب على الطائف في التمادي بحیث یصبح كلام جبران باسیل عن دفن السنیة السیاسیة وإحیاء المارونیة السیاسیة أقلّ ما یمكن من استخلاصه من هذا التوجه المنهجي المتراكم.

هل یعلم ویدرك أهل الطائف والدستور مدى التقدّم الحاصل لمشروع الإنقلاب المستند إلى ثنائیة «حزب الله» والتیار الوطني الحر، ورأس الحربة جبران باسیل بوزارته وبلديته ومتفرعاته الشعبویة، وسیكون نموذج رئیس بلدیة الحدث هو النموذج المعتمد في القرصنة السیاسیة والتنمویة على الدستور والقانون والعیش المشترك.

لكن ثمة من یقول أخیراً: إن المال السائب یعلم الناس السرقة، والمشهد السیاسي يظهر أن البلدَ مكشوفٌ أمام غزوات باسیل التي لا تتوقف، وأن المواجهة تحتاج أكثر من مؤتمر صحافي في السراي الحكومي الذي یجب أن یستحوذ زمام القرار والمبادرة كما یقول الدستور القاضي بإسترداد الأوراق المحتجزة في قصر بعبدا، لأن الصلاحیات لیست ملكاً لشخص «يجتهد» بالتنازل عنها، بینما هو یملك كل عناصر القوة، ولا ملكاً لمن یستولي عليها بقوة الأمر الواقع، ولا مشاعاً سائباً تتناهشها القوى الطامعة، بل انها ملك مرجعیة دستوریة شریكة في الحكم تتولى رئاسة السلطة التنفیذیة بكل ما للكلمة من معنى وأبعاد.