كتبت ناتالي اقليموس في صحيفة “الجمهورية”:
15 سنة من عمره أمضاها عمر يتعاطى المخدرات، يُسجن سنوات ويخرج أياماً. خلف القضبان امتهن بيع الهواتف مقابل تزوُّده بالمخدرات، أما خارجها فتخصَّص بسرقة السيارات بالسطو المسلّح، لحساب أحد كبار تجار المخدرات من عائلة طليس وفق معادلة، «الرانج العادي، 2500 دولار، ألف كاش، وألف و500 بضاعة مخدرات، أما السوبر شارج، فـ 10 آلاف دولار، 5 آلاف كاش، و5 آلاف دولار بضاعة». وفي رصيد عمر 140 سيارة مسروقة.
من سجن روميه إلى حلبا، طرابلس، زحلة… لم يترك عمر سجناً يعتب عليه، فيروي لـ«الجمهورية»: «بدأتُ أتعاطى وأنا في الـ19 من عمري، حتى الـ30 لا أعرف إلّا السجن. في المرة الأولى سُجنت 6 سنوات، بعدها خرجت 7 اشهر، وعجزت عن الاندماج في المجتمع، عدت ودخلت السجن 5 سنوات، تعاطيت في الداخل أكثر ممّا كنتُ خارج السجن، نظراً لسهولة إدخال الممنوعات عبر سكك أمنية خاصة ومعارف شخصية».
«بالغلط»، يعتبر عمر أنه دخل عالم التعاطي والترويج، فهو ابن بلدة منيارة، إلتحق بفرقة موسيقية لإحدى المؤسسات الأمنية، ونظراً إلى بُعد المسافة اختار ومجموعة من رفاقه العيش معاً، «استأجرنا شاليه، والشاليه جرّت رفاق السوء، وكِلنا علقنا بالمخدرات». سرعان ما انفضح أمرُ عمر فتم تسريحُه ورفاقَه.
36 تاجراً 20 مهرّباً
تتزايد ظاهرة ترويج المخدرات وتعاطيها، وتتسع معها مخيّلة التجّار الذين لا يوفّرون وسيلةً لتهريب ممنوعاتهم، عبر إخفائها داخل المفروشات، في الملابس الداخلية، في سقوف السيارات، في البطاطا، داخل جلود المواشي، في التحف والصمديات… إذ يتلطى هؤلاء في أوكارهم ومربعاتهم الأمنية ويعتمدون على تجنيد مروّجين شباب لهم بالمفرّق والجملة على شكل عصابات. في هذا الإطار، يكشف مصدر أمني لـ«الجمهورية» خطورة «اتّساع ظاهرة التعاطي والترويج في الأشهر الخمسة من العام الجاري»، متوقفاً عند بعض الأرقام غير المطمئِنة: «في أوّل 100 يوم من العام الجاري تمّ توقيف 200 مروّج ما يُعادل المروّجين يومياً، وحتى 31 أيار تمّ توقيف 329 مروّجاً، 36 تاجراً، 20 مهرّباً، 12 مصنّعاً، 19 ناقلاً».
طمعاً بالمخدرات المجانية
ويذهب المصدر الأمني أبعد من ذلك، محذّراً من ظاهرة مرافقة للإدمان، ولا تقلّ خطورة عنها، وهي اتساع دائرة المروّجين نتيجة تحوّل المدمن إلى مروّج، فيقول: «وسط ارتفاع البطالة، نتيجة قلّة فرص العمل، بسبب الأوضاع الاقتصادية المترهّلة وطمعاً بكسب المال السريع، معظم المدمنين يتحولون إلى مروِّجين محترفين على طريقة «عصفورين بحجر واحد»، من جهة يضمنون حصتهم من المخدرات على نحوٍ مجاني ومن جهة أخرى يُحافظون على ربحهم الخاص». ويؤكّد المصدر «أنّ معظم مَن يتم توقيفهم في تعاطي المخدرات وترويجها من أصحاب السوابق، وبحقهم مذكرات توقيف»، لذا يحذّر من «أنّ أخطر ما في المخدرات أنها تحوّل ضحاياها إلى مجرمين محترفين».
ويأسف المصدر لتدنّي أعمار المتعاطين سنوياً، فيقول: «غالباً ما تستحوذ فئة الشباب على الحيّز الأكبر من الفئات العمرية لضحايا المخدرات، ولكن لا بد من الإشارة إلى أنّ السنوات الأخيرة تشهد تدنّياً في نسبة أعمار المدمنين، لتطال المراهقين ومن هم أصغر بقليل، فبتنا نُصادف توقيفَ متعاطٍ في الـ 12 من عمره». من هنا يناشد المصدر الأمني الأهالي «مراقبة سلوكيات أولادهم وطباعهم، والتعرّف إلى رفاقهم، والألعاب التي يمارسونها، وغيرها من اليوميات التي تحمل مؤشرات عن يومياتهم وعاداتهم»، مشيراً إلى «أنّ استسهال الحصول على المخدرات واستسهال استخدامها من دون معرفة تداعياتها يُسرّع في تحويل الشباب إلى ضحايا الإدمان والارتهان للتجّار وللمروّجين».
من أيام المدرسة «بتعاطى»
وديع واحد من المراهقين الذين وقعوا باكراً في فخّ المخدرات، إذ لم يكن يحار ابنُ الـ14 ربيعاً أين يتعاطى، فكان يُعِد عدّته في المنزل ويضعها بين كتبه، وعندما يصل إلى صفّه في إحدى المدارس الخاصة في منطقة غزير، يتوجه إلى الحمام بمعدل مرتين في اليوم. بقي وديع على هذا المنوال يتعاطى بالسرّ إلى أن أنهى المرحلة المدرسية وبات في منتصف المرحلة الجامعية، نحو 6 سنوات نجح في إخفاء الأمر عن الإدارة، ووالدته وشقيقاته، مستفيداً من غياب السلطة الأبوية نظراً إلى ان والده يعمل في الخارج ويمدّهم بالمال. ولكن عندما بات يأخذ قسطه الجامعي للفصل نفسه أكثر من مرة ليصرفه على «القمار» والمخدرات، فُضح أمرُه وصارح عائلته بعدما بات مصروفُه اليومي 150 دولاراً.
نتيجة اهتمام الوالدة بشقيقات وديع، بالإضافة إلى مطالبة العائلة الدائمة له بأن يكون متفوِّقاً كجده الذي كان مسؤولاً بارزاً في وزارة التربية، وُلد في نفسه شعور بالإحباط، والفشل الدائم، فحاول البحث عن حضن دافئ. ويروي وديع لـ«الجمهورية» كيف انغمَس في المخدرات تدريجاً: «ابتعدت تدريجاً عن الأجواء العائلية واختلطت مع رفاقٍ يكبروني سنّاً ويهوون السهر وتعاطي الهيرويين، لذا تعرفت على المخدرات من بابها العريض بينما كنت أسهر في شاليه مع رفيقي في فاريا جربتها واستمرّيت أتعاطى 33 سنة».
عبثاً حاولت العائلة إخراجَ ابنها من عالم المخدرات، لا بالترهيب ولا بالإقناع نجحت، فيقول وديع: «أدخلني أبي السجن نحو أسبوعين، بعدما أصبحتُ عدائياً، ولكن عبثاً لم ابتعد عن التعاطي، عندما خرجت بدأت أسرق المال من جيبه، وعندما اكتشف ذلك بدأ يخبّئ المال تحت فراشه حين ينام، ويضع بين رزمة المال أوراقاً نقدية مزوّرة، فكنت أدخل غرفة والدي سرّاً في فمي ضوء وفي يدي قلم «بيك»، ارفع به الفراش من طرفه لأتمكن من سحب المال إلى أن استفاقت أمي ورأتني ليلاً، وباتت تقفل الغرفة، فانتقلت إلى سرقة التحف في الصالون، وبعدها أسرق ما توافر في المطبخ من معلبات وأعيد بيعها».
محاولات انتحار
نجح وديع في أن يعمل في إحدى الدول العربية نحو 7 سنوات، وكان يتعمّد المجيء إلى لبنان كل ثلثاء وسبت ليتزوّد بالمخدرات ومن دون علم أهله، بقي 7 سنوات يهرّب الكميات الخاصة به عبر المطار، إلى أن كُشف أمره في الخارج عند عودته في إحدى المرات، وتمّ ترحيلُه إلى لبنان فعاد خاليَ الوفاض مدمناً أكثر من السابق. وما زاد انغماسَه في التعاطي، خسارته لحبيبته على أثر حادث سير على مرأى من عيونه.
3 مرات حاول وديع الانتحار، مرتين تناول جرعة زائدة، 33 مرة بدأ العلاج في المستشفى، ولم يمت، محطات شكّلت علاماتِ استفهام في ذهن وديع وتساؤلاتٍ عن وجود الله الذي لم يخذله يوماً بل نجّاه من الموت، فيقول متأثراً: «كلن كانو حدّي، بس انا ما كنت حدّ حالي». لذا وجد أنّ المطلوب منه هو شيء مغاير عمّا قمتُ به، «قد أكون رسالةً وعبرة لذاتي وللآخرين»، فاتصل منذ أشهر بقرية الإنسان طالباً أن يتعالج، وفتح صفحة جديدة.
“قرية الإنسان”
فيما يتهاوى المروّجون والتجار كأحجار الدومينو، نتيجة ما تقوم به الأجهزة الأمنية من مراقبة حثيثة للرؤوس المدبّرة ولكبارِ التجار، ونتيجة المداهمات المكثفة والحواجز الليلية التي تنفّذها، تنشط جمعية «قرية الإنسان» في مساندة الشباب الذين وقعوا ضحايا المخدرات وأرادوا أن يتعالجوا بإرادتهم. عمر، وديع وغيرهما… ليسوا إلّا شباباً قالوا بلحظة «لا للمخدرات». إلتقتهم «الجمهورية» في «قرية الإنسان» في المعيصرة- كسروان، فتحوا قلبهم لها لتكون تجربتهم عبرةً لكل مَن يتردّد في بدء العلاج.
في هذا الإطار، يوضح ماتيو علاّوي «خادم» في قرية الإنسان وفق ما يُحب أن يعرّف عن نفسه، «انطلقت قرية الإنسان في شباط 2008، وحتى 2019 تعالج ألف مدمن. يمضي الشاب المدمن في «القرية» نحو سنة ونصف، يمرّ في مراحل متعددة يكتشف من خلالها نفسَه «الأنا» بعمق، ويعتاد على تحمّل المسؤولية تباعاً إلى أن يتعالج كلياً ويخرج إلى بيئته، لكن يبقى ضمن متابعة خاصة على مدى سنتين».
أما عن سرّ الدواء، وبرنامج الشفاء في هذا المركز، فيجيب: «يتنوّع البرنامج ولكن في الأساس هو «كريستوترابيه» (christothérapie) يقوم على التداوي بالصلاة، التأمّل والصوم، بالإضافة إلى ورشات عمل، وذلك انطلاقاً من إيماننا بأنّ مَن يضع الله محورَ حياته سيتمكّن من بلوغ برّ الأمان رغم أنه قد يتعب أحياناً». في هذه القرية التي يتعانق فيها المئذنة والصليب، يؤكّد علاّوي أنّ «القرية» تستقبل من الطوائف كافة لاعتبارها «أنّ الإسلام والمسيحية يدعوان إلى المحبة والخدمة، وما يهمّنا في نهاية المطاف هو الإنسان». «قرية الإنسان» كغيرها من الجمعيات وربما أكثرها حاجةً إلى دعم الدولة نظراً للتحديات الاقتصادية التي تواجهها، في ظلّ غياب أيّ مصدر تمويل لها سوى بعض الأنشطة الاجتماعية التي تقوم بها.
ختاماً، المدمن ليس مجرماً يحتاج إلى سجن، إنما ظروف الحياة قست عليه في مرحلةٍ عُمرية، ويحتاج إلى مراكز تأهيل تصغي إليه، تحضنه، تداوي جروحه الخفيّة، تُعالجه، تُرمم ثقته بنفسه، لذا متى ستعي الدولة أهمية دور تلك المراكز وتلحظ لها الدعمَ المادي والمعنوي الكافيَين؟