كتبت رلى موفّق في صحيفة “اللواء”:
تبدُّل الأولويات في المنطقة يفرض على الفلسطينيِّين مراجعة «براغماتية» بـ «عقل بارد»
في ظاهر الأمور، لا يمكن سوى القول إن «ورشة البحرين» التي قدّمت الشق الاقتصادي لرؤية الرئيس الأميركي دونالد ترامب تحت عنوان «مشروع من السلام إلى الازدهار» أخفقت في أن تُشكّل رافعة لخطة سلام تنهي الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي, وتالياً الصراع العربي – الإسرائيلي. الرفض الفلسطيني المسلح بموقف بعض الدول العربية للخطة الأميركية بدأ قبل أن تتبلور معالمها. وسبب من أسباب الرفض استند إلى بعض ما تسرّب أثناء إعداد المشروع، لكن السبب الآخر والأكثر تأثيراً يكمن في غياب الثقة، لا سيما لدى الفلسطينيين، بأن واشنطن يمكنها أن تلعب دوراً نزيهاً في حل هذا النزاع التاريخي، فيما هي الراعي والداعم الأول والأكبر لإسرائيل.
وزاد الطين بلة، إقدام الرئيس الحالي على خطوة لم يتجرّأ رئيس أميركي من قبله على القيام بها وهي نقل السفارة الأميركية إلى القدس في تكريس لاعتراف بلاده بأن القدس عاصمة لإسرائيل، فضلاً عن تضييقه الخناق، منذ وصوله إلى «البيت الأبيض» على الفلسطينيين عبر وقف مساهمة بلاده في «الأونروا» والتي هي المساهمة الأكبر، في إطار الضغط على القيادة الفلسطينية من بوابة مضاعفة الأزمات الحياتية والاقتصادية والاجتماعية للشعب الفلسطيني إلى حد إفقاره وتجويعه.
ومن الطبيعي أن يكون هناك حذر كبير حيال الطروحات الأميركية حين يتعلق الأمر بالصراع مع إسرائيل. لكن النظر بعقل بارد إلى مسار القضية الفلسطينية وما آلت إليه منذ تاريخ النكبة إلى اليوم، وما شهده العالم، ولا سيما المنطقة، من تغييرات سياسية كبرى تطرح سؤالاً وجيهاً: ألم يحن الوقت للتعامل بكثير من «البراغماتية» مع هذه القضية الشائكة التي أظهرت تجارب العقود الماضية أن ما كان سيحصل عليه الفلسطينيون في أول اقتراح رسمي للتقسيم عام 1937، كان أفضل حالاً مما صدر لاحقاً في قرار تقسيم فلسطين عام 1947، وأن ما نص عليه قرار التقسيم ما عاد ممكناً الحصول عليه بعد حرب 1967، وأن حل الدولتين وفق القرار 242 بعد النكبة ما عاد قائماً على الأسس ذاتها، وأن السلطة الفلسطينية التي أُنشئت في الضفة الغربية وغزة بعد أوسلو في 1994 تآكلت سيطرتها بفعل الصراع الفلسطيني – الفلسطيني، وأن التمسك بما أقرته المبادرة العربية في قمة بيروت 2002 قد يكون بات مستحيلاً مع الانقسام العربي – العربي وحالة التشظي والحروب التي تعيشها المنطقة، ولا سيما بعدما أضحى الخطر الإيراني في مشروعه التوسعي واستهدافه أمن دول الخليج واختراقه العديد من الدول العربية أولوية تتقدّم على القضية الفلسطينية التي كانت حتى الأمس القريب القضية الأولى في الوجدان العربي والإسلامي؟
إسرائيل، العدو التاريخي، ماضية في مخططاتها. تنكث بالاتفاقات كلما لاحت لها الفرصة، ولا يمكن إئتمان جانبها. وهذا لا لبس فيه. ولكن ماذا عن الفلسطينيين المتصارعين مع بعضهم البعض، والذين أضعفوا قضيتهم؟ وماذا عن الدول العربية التي انشغلت هي الأخرى في صراعات في ما بينها والتي زار بعضها «الربيع العربي» لتجد نفسها أمام مواجهة مشروع «الإسلام السياسي»، ولتُفرض على بعضها الآخر حرب مصيرية وجودية جراء التهديد الإيراني.
أمام الصورة القاتمة والأفق المسدود، وغياب أي توازن في القوى بعيداً عن مزايدات لـ«محور الممانعة» وراعيها القادر على محو إسرائيل في 7 دقائق، وبعيداً عن توظيف تضحيات الشعب الفلسطيني في بازار المصالح الإيرانية وزيادة أوراق المساومة في يدها، قد يكون من المفيد للأطراف المعنية، ولا سيما للفلسطينيين أنفسهم الذين قاطعوا «ورشة المنامة»، التوقف عند الخطة الأميركية في شقها الاقتصادي وترشيحها، والانطلاق منها في معركة الحفاظ على ما تبقى من القضية الفلسطينية.
من الأهمية بمكان اعتبار أن كل ما تضمنه الشق الاقتصادي يبقى ناقصاً ما دام الشق السياسي من الخطة لم يُعلن بعد. وتبقى مرتكزات الخطة السياسية هي الفيصل في رفض أو قبول ما هو مطروح. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه يتمحور حول ماذا إذا كان هناك من بدائل؟ وما هي هذه البدائل؟ وهل رفض المشاركة في المنامة ينطلق من الرغبة في تحسين أوراق التفاوض مستقبلاً؟ نقطة الضعف في «ورشة البحرين» غياب الفلسطينيين لأنهم المعنيون، والدول التي حضرت، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية بموقعها السياسي والديني أكدت على لسان وزير الدولة للشؤون الخارجية عادل الجبير أن «الشعب الفلسطيني هو صاحب القرار الأخير في هذا الأمر لأنها قضيته، وأي شيء يقبل به الفلسطينيون سيقبله أي أحد آخر».
الفلسطينيون هم المعنيون أولاً وأخيراً بقبول أو رفض الخطة بشقها الاقتصادي الذي طُرح وبشقها السياسي الذي سيُطرح. غير أن ما يُقلق المتابعين القريبين من المشروع أن تضيع الفرصة المطروحة راهناً، ولا سيما أن الخطة التي قدّمها كبير مستشاري البيت الأبيض، جاريد كوشنر توازي في رؤيتها مشروع مارشال الأميركي الذي اعتمد لإعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.
ويسأل هؤلاء المتابعون: هل أن خطة «السلام من أجل الازدهار» التي استغرق إعدادها نحو سنتين، بكل هذه التفاصيل والدقة، وتقوم على ركائز بناء القدرات الاقتصادية الفلسطينية وتمكين الشعب الفلسطيني وتعزيز الحوكمة الفلسطينية، كما تشمل 179 مشروعاً للبنية الأساسية وقطاع الأعمال، قد وُضعت من أجل «تصفية القضية الفلسطينية» أم من أجل إيجاد المقوّمات التي تسهم في إرساء حل لهذا الصراع الطويل وتؤمّن فرصة حقيقية لحياة كريمة للشعب الفلسطيني؟
المناهضون يذهبون إلى اعتبار أن «ورشة البحرين» قد فشلت، ولكن المؤيدين يرون أنه لا بد من النظر إلى النصف المليء من الكوب. فهناك اليوم مشروع اقتصادي متكامل مطروح يُقدّم ملامح المستقبل للشعب الفلسطيني ودول الجوار المعنية، ويشكل منطلقاً متيناً لطرح المشروع السياسي. وهذه الخطة تحظى بغطاء عربي وستسير بها الدول العربية التي تدعمها إذا مشت بها السلطة الفلسطينية، حيث الباب مفتوح أمامها للانخراط في الخطة، وهو الأمر الذي يتم الرهان عليه، في ظل الاعتقاد أن المساعي ستنشط على غير لإعادة وصل ما انقطع بين السلطة الفلسطينية والإدارة الأميركية بعدما باتت معلنة تفاصيل هذه الخطة الهادفة إلى جذب استثمارات بقيمة 50 ملياراً، تم تخصيص 27 ملياراً و813 مليون دولار منها لتنفيذ مشاريع على مدى عشر سنوات في الأراضي الفلسطينية توفّر مليون فرصة عمل، وتضاعف إجمالي الناتج المحلي.
والخطة الاقتصادية تشمل إلى الفلسطينيين كلاً من مصر والأردن اللتين حضرتا ولبنان الذي غاب. ووفق تفاصيل برنامج ومشاريع الخطة المنشور على موقع البيت الأبيض، فإن 6 مليارات و325 مليون دولار مخصصة للبنان موزعة على خمسة مشاريع على مدى 8 سنوات في إطار تعزيز دور لبنان على مستوى التكامل الاقتصادي الإقليمي.
ففيما المشروع الأول تبلغ قيمته 200 مليون دولار على أربع سنوات لتحفيز المصدرين اللبنانيين على الانخراط في الدورة الاقتصادية الإقليمية للحد بشكل كبير من تكلفة ممارسة الأعمال التجارية في المنطقة، يهدف المشروع الثاني إلى تعزيز الاستقرار الاقتصادي الداخلي من خلال صندوق الشركات الصغيرة والمتوسطة في لبنان وذلك عن طريق توسيع برنامج المؤسسة الأميركية للاستثمار الخاص في الخارج، والذي مهمته دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة في المنطقة، ويرصد له 125 مليون دولار.
وتذهب النسبة الأكبر من المبلغ إلى المشاريع الثلاثة المتبقية التي تركز على شبكة الطرق البرية وسكك الحديد والمرافق البحرية والجوية، إذ يقوم مشروع الطرق على إصلاح وتحسين ممرات الطرق اللبنانية، بما في ذلك وصلات الطرق السريعة المفقودة في المقام الأول على الممرين الرئيسيين (الشمال والجنوب، والشرق والغرب)، والتي هي جزء من شبكة الطرق السريعة الإقليمية، وهو بقيمة 3 مليارات دولار موزعة على 3 مراحل لمدة ست سنوات، فيما يرصد مشروع دعم إنشاء شبكة سكة حديد داخل لبنان مع إمكانية الاتصال بشبكة سكة حديد إقليمية مبلغ ملياري دولار على 3 مراحل لفترة 8 سنوات. ويتناول مشروع المرافق البرية والبحرية دعم البناء والخدمات اللوجستية المرتبطة به لتوسيع مطار بيروت والمطارات الأخرى، وتوسيع الموانئ اللبنانية بما في ذلك بيروت وطرابلس بقيمة مليار دولار موزعة على 3 مراحل لمدة 8 سنوات.
لم يكن لبنان المعني بوجود لاجئين فلسطينيين على أرضه حاضراً لنقاش ما تتضمنه الخطة من أهداف تطاله. آثر المقاطعة بحجة رفضه التوطين على أرضه، الذي يحظره الدستور اللبناني، لكن المقاطعة هي نتيجة موازين القوى الداخلية التي لا تسمح له بالمشاركة.
قد يكون من المبكر الحكم على مدى صوابية القرار اللبناني الرسمي، لكن المهم إذا سار قطار التسوية ألا يكون لبنان غائباً عن الطاولة، فيدفع الثمن مضاعفاً!