كتبت صحيفة “العرب” اللندنية:
تُقدّم التحقيقات مع الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي والرئيس السابق للاتحاد الأوروبي لكرة القدم ميشيل بلاتيني في إطار تحقيق فرنسي حول شبهات فساد تحوم حول منح قطر حق استضافة كأس العالم 2022، حجّة قوية لعدد من وسائل الإعلام الفرنسية وحقوقيين وسياسيين ومن عموم الفرنسيين الذين كانوا منذ سنوات ينتقدون الاستثمارات القطرية المبالغ فيها في فرنسا والأموال المتدفقة بشكل يثير الشكوك والشبهات.
أزالت هذه التحقيقات الغبار عن ملفات قديمة، يعود بعضها إلى سنة 2005، وأحداث ما عرف بـ”انتفاضة الضواحي المهمشة”، وهي موجة من العنف شهدتها الأحياء الفرنسية المهمشة، بعد مقتل شابين فرنسيين من أصول مهاجرة تحولت المظاهرات إلى صرخة ضد التهميش والتمييز.
في الظاهر لا علاقة للدوحة بهذه التفاصيل الداخلية، لكن تحقيقات أعقبت تلك الأحداث، وتطورات شهدتها فرنسا، والعالم، بمرور السنوات كشفت أن هناك خيطا رفيعا رابطا بين تلك الأحداث والأموال القطرية ودعم الدوحة لساركوزي الذي كان في ذلك الوقت وزيرا للداخلية، ثم بعد وصوله إلى قصر الإليزيه في سنة 2007.
ظلت هذه العلاقة محور شد وجذب، ومحل متابعة دقيقة من الإعلام الفرنسي على غرار صحيفة ليبيراسيون وفرانس 24 ولونوفل ابرسفاتورو، ومنصات الإعلام الاستقصائي، مثل موقع ميديا بارت، الذي نشر تقارير عدة حول كيف أصبحت فرنسا هدفا لجشع المستثمرين القطريين سواء في عهد ساكروزي أو حتى في عهد خلفه فرانسوا هولاند، وإن كانت العلاقة مع ساركوزي أكثر متانة وارتبطت بفضائح فساد.
الدور القطري جاء مباشرة بعد تلك الأحداث، حيث سارعت الدوحة إلى عرض مبادرة الاستثمار في مشاريع اقتصادية واجتماعية في الضواحي الفرنسية المحرومة أين يقطن عدد كبير من الشبان المسلمين. وأقرت الحكومة الفرنسية موافقتها على مشروع أثار جدلا واسعا، وقوبل بانتقادات اليمين واليسار.
فتحت هذه الخطوة أبواب فرنسا أمام قطر التي اشترت فريق باريس سان جرمان لكرة القدم (فريق ساركوزي المفضل) ومجموعة من الفنادق الفخمة في البلاد، وأغرت الحكومة الفرنسية بمشاريع استثمارية ضخمة، خاصة في خضم الأزمة المالية العالمية 2007-2008 التي نتجت عنها تأثيرات خطيرة في أوروبا.
وفي سنة 2012، كتبت الصحافية راشيل هولمان في تغطية لفرانس 24، أن القضية تتعلق بالثروات القطرية والمجتمعات الفرنسية المحرومة والسياسة وصورة البلاد، مشيرة إلى أنه القرار ليس بريئا أو خيريا كما يبدو في ظاهره، بل هو حصان طروادة الذي يخفي الإسلاموية، على حد تعبير زعيمة حزب “الجبهة الوطنية” اليميني المتطرف، مارين لوبان.
وفي نيسان 2010، اشترى صندوق “الديار القطرية” حصة في الشركة الفرنسية العملاقة فيوليا إنفايرومنت بما يمنحها حق التصويت في مجلس الإدارة. ويتعقب المحققون مبلغ 182 مليون يورو يشتبه في أنه استخدم لرشوة المسؤولين الفرنسيين، كما يبحثون في علاقة محتملة بين الاستثمار في فيوليا مقابل دعم فرنسا لقطر في سباق استضافة كأس العالم 2022.
في قلب الجدل الدائر حول أهداف هذه الاستثمارات، انتشرت شكوك فرنسية حول نوايا قطر الاستثمار في المناطق الفقيرة التي تضم عددا كبيرا من مسلمي فرنسا. وأكد كريم سادر، وهو خبير فرنسي في شؤون الشرق الأوسط لقناة فرانس 24، أنه لا توجد هناك أي خدمة دون مقابل. وتابع “نميل إلى ربط تمويل الضواحي بأهداف قطر الدينية، نظرا إلى دور البلاد في تمويل ثورات الربيع العربي والإخوان المسلمين”.
ومع أحداث الربيع العربي، بدأت الشكوك تتحول إلى اتهامات مباشرة، خاصة بعد أن دعمت الدوحة جماعات إسلامية، بما في ذلك جماعة الإخوان المسلمين وفصائل التيارات الإسلامية في تونس وليبيا ومصر وسوريا. ودقّ هذا جرس الإنذار في المجتمع الفرنسي.
كما عبّر أعضاء اليسار السياسي في البلاد عن عدم ارتياحهم للاستثمارات القطرية. وشكّك نيكولا ديموراند، الذي كان مدير صحيفة ليبيراسيون الفرنسية ذات الميول اليسارية حينها، في دوافع البلاد لاستثمار نسبة مهمة من الأموال في الضواحي في مقال افتتاحي نشرته صحيفته.
وكتب “حتى لو كانت الدبلوماسية القطرية عاملا أساسيا في العالم الحديث على المستوى المالي والإعلامي والرياضي والترفيهي، ليست البلاد مؤسسة خيرية. لذلك، تستحق أهداف قطر في الضواحي الفرنسية دراسة جدّية”. وظلت ليبيراسيون تتابع هذا الملف على مدى سنوات، حيث كتبت في تقرير يعود تاريخه إلى سنة 2015: تحت حكم ساركوزي، أصبحت فرنسا هدفا لجشع المستثمرين القطريين من خلال شراء عدد من الأصول والحصول على إعفاءات ضريبية.
وقالت الصحيفة إن أمير قطر السابق “الشيخ حمد كان أول مسؤول أجنبي يستضيفه ساركوزي في قصر الإليزيه في 30 مايو 2007 على مأدبة، كجزء من صفقة تبلغ 16 مليار دولار (14 مليار يورو) لشراء 80 طائرة إيرباص من طراز إيه 350”.
وتزامن هذا التقرير مع دراسة أعدها معهد جيت ستون الأميركي قالت إن قطر تسعى “لابتلاع الاقتصاد الفرنسي” من خلال شراء عدد من الأصول للسيطرة على مفاصل الدولة. وواصلت ليبيراسيون متابعتها للقضية التي أعادت تسليط الضوء عليها مؤخرا عبر تحقيق حول اجتماع عُقد بين الرئيس الأسبق ساركوزي والرئيس السابق للاتحاد الأوروبي لكرة القدم (اليويفا) ميشيل بلاتيني، قبل 10 أيام على اختيار قطر لتنظيم مونديال 2022.
يتردّد أن الرئيس الفرنسي الأسبق نظم مأدبة غداء على شرف ولي العهد القطري في ذلك الوقت الشيخ تميم بن حمد وعدد من المسؤولين القطريين وناصر الخليفي، رجل الأعمال القطري ورئيس نادي باريس سان جيرمان. جمعت المأدبة، في قصر الإليزيه، الوفد القطري وميشيل بلاتيني الذي كان في اللجنة التنفيذية للاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا)، ويميل إلى دعم ملف أميركا لاستضافة كأس العالم 2022، لينتهي اللقاء بتغيير رأيه نحو دعم قطر.
وفي تغطية لهذه القضية نشرت ليبيراسيون في عدد الأربعاء 1 حزيران 2019، عددا خاصّا تصدر صفحته الأولى عنوان عريض: “الدوحة غارقة في الفساد الرياضي”، وعناوين أخرى بارزة هي: بطولة كأس العالم لكرة القدم 2022: القبض على الرئيس السابق للاتحاد الأوروبي لكرة القدم ميشيل بلاتيني؛ وبطولة العالم لألعاب القوى 2019: ما كشفناه وراء كواليس السباق على احتضان المسابقة، وناصر الخليفي: رجل الرياضة القطري القوي الذي يطبق سياسة رجال الأعمال.
وتابعت الصحيفة الفرنسية هذه القضية في صفحاتها الأربع الأولى كما خصصت افتتاحيتها لذات الموضوع. وكتب غريغوري شنيدر: المال أصبح عنصرا أساسيا في عالم الرياضة وربما أراد ساركوزي تضخيم القوة المالية لكرة القدم الفرنسية. أما بالنسبة للقطريين، فإنه بعد عقود من تنظيم المسابقات الدولية من الدرجة الثانية لكرة القدم (مثل بطولة الشباب) لإرضاء الفيفا، فقد أرادت الدوحة الانتقال إلى المستوى التالي.
تحت عنوان تحقيقات الفساد في الرياضة: قطر تتصدر لائحة المتهمين، كتب رينو لوكادر، أنه سنة 2016، أمر مكتب المدعي العام المالي الوطني بفتح تحقيق يسلط الضوء على كواليس السباقات على احتضان الأحداث الرياضية الكبرى. وذكرت قطر أكثر من مرة خلال البحث الذي ما زال جاريا.
وصباح الثلثاء 18 حزيران 2019 أوقف مكتب مكافحة الفساد، التابع للشرطة القضائية في نانتير، بلاتيني في إطار التحقيق في التصويت الذي منح قطر حق استضافة المونديال. ومثّل هذا الاعتقال خبرا مقلقا للقطريين الذين لا يستطيعون التعبير عن شعورهم، وفق لوكادر.
وأضاف لوكادر أنه عند التحقيق معهم، روى كل المنتمين البارزين إلى الهيئات الرياضية الدولية نفس القصة عن طريقة تعيين البلدان التي ستحتضن الأحداث الكبرى أو بيع حقوق البث التي تصاحبها. ووجدت قطر، التي ستستضيف بطولة العالم لألعاب القوى هذا العام وكأس العالم لكرة القدم في 2022، نفسها موضوع تحقيقين تم فتحهما للاشتباه في فساد في عالم الرياضة.
وفي سنة 2015، دفعت حقوق البث النظام القضائي الأميركي إلى النظر في الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا). ووجهت اتهامات أميركية إلى مسؤولين بالفيفا، تتعلق بقبول الرشاوى وغسيل أموال بالإضافة إلى جرائم فساد أخرى. وتعرض الاتحاد الدولي لكرة القدم لانتقادات شديدة بعد إعلانه تأسيس فريق عمل لتقديم مقترحات لإصلاح المنظمة.
ووفق ليبيراسيون، فقد شمل الاستجواب مساعدة نيكولا ساركوزي السابقة في الإليزيه صوفي ديون (مستشارته الرياضية)، وكلود غيان (الأمين العام)، للتدقيق في تفاصيل موضوع منح قطر حق استضافة كأس العالم 2022 بعد ضغوط فرنسية. ولم تفتقر هذه القائمة سوى لساركوزي نفسه وذلك لكونه يتمتع بحصانة رئاسية دستورية تنص على أنه “غير مسؤول قضائيا عن الأعمال المنجزة لأداء مهامه”.
تندرج هذه التطورات كجزء من تحقيق امتد على السنوات الثلاث الماضية، ويمكن أن تكون مفيدة في استكمال الملفات القضائية الأخرى التي يركز عليها قاضي التحقيق رونو فان رومبيك في إطار إعادة النظر في إسناد المسابقات الرياضية الدولية الكبرى، قبل بضعة أسابيع من تقاعده من الهيئة القضائية.
منذ فترة طويلة، كانت المنافسات الرياضية مستهدفة من قبل جماعة ضغط تضم عددا من الفاسدين. وكانت الألعاب الأولمبية في ريو دي جانيرو 2016 وطوكيو 2020 من المنافسات التي نظر فيها المحققون. لكن الضوء لم يسلط على الألعاب الأولمبية في باريس 2040، وبطولة العالم لألعاب القوى في لندن 2017، وفي الدوحة 2019 ويوجين 2021 بعد. وأشار مكتب المدعي العام المالي الوطني في وقت سابق إلى عمليات “فساد وغسيل أموال منظمة” و”نظام حقيقي لبيع الأصوات للمدن المرشحة”.
ويقول لوكادر “نعرف رغبة القطريين في تنظيم المنافسات الرياضية الدولية، الذين بعد أن فشلوا في استضافة الألعاب الأولمبية لعامي 2016 و2020، نالوا حق تنظيم كأس العالم 2022، وحصلت قطر على حق استضافة بطولة العالم لكرة اليد في عام 2015 ومن ثم بطولة العالم لألعاب القوى المقررة في نهاية 2019. وللمرة الأولى في التاريخ، ستحتضن بطولة عالمية في فصل الشتاء”.
وفي شهر أيار من السنة الماضية، طرح المحققون الفرنسيون سؤالا على سيباستيان كو، البطل الأولمبي السابق للمسافات المتوسطة، ورئيس الاتحاد العالمي لألعاب القوى الذي خلفه السنغالي لامين دياك، والذي اعترف بدوره بالتصويت لصالح قطر: “هل تعتقد أن تنظيم سباق ماراثون في حرارة تصل إلى 60 درجة مئوية وتعريض صحة الرياضيين للخطر أمر معقول؟”.
وقال لوكادر إن إجابة كو كانت ضعيفة بالنسبة إلى رياضي رفيع المستوى، واعترف بوجود مشكلة حقيقية في الإدارة، مضيفا أن الدبلوماسية المالية والفساد الرياضي في قطر أمران مثيران للاهتمام. ويذكر مثال ناصر الخليفي، الذي كان خاضعا للتحقيق في 23 مايو، فهو رئيس نادي باريس سان جيرمان، وقناة “بي إن سبورتس”، وبوردا سبورت للملابس الرياضية، وقطر للاستثمارات الرياضية، والاتحاد القطري للتنس، والذي امتثل في شهر مارس أمام القاضي فان رومبيك قائلا إنه يهتم بأموال قطر أكثر من أمواله. وينظر الآن في أمره بخصوص أوريكس قطر للاستثمارات الرياضية، وهي شركة أسسها مع شقيقه خليل الخليفي.
وفي 2011، وعندما كانت قطر تعمل على الفوز بحق تنظيم مونديال ألعاب القوى لسنة 2017، تعرضت لانتقادات واتّهمت بمحاولة رشوة صناع القرار. وطلب الاتحاد الدولي لألعاب القوى حينها من المدن المرشحة أن تقدم مرافقها الرياضية بالإضافة إلى حججها أو وسائلها التسويقية أو التلفزيونية. ومثّلت بي إن سبورتس العنصر التلفزيوني، وتكفّلت قطر للاستثمارات الرياضية بالتسويق.
وعلى الرغم من تخصص الشركة بأمور الضيافة، كإدارة التذاكر والمطاعم وغيرها من المعاملات الخاصة، فإنها اجتهدت للحصول على حقوق التسويق مقابل 32 مليون دولار، دفعت منها 3.5 قبل نيل حق التنظيم. وتحول المبلغ إلى جيب بابا ماساتا دياك، نجل رئيس الاتحاد العالمي لألعاب القوى في ذلك الوقت، الذي كان مؤثرا في اللجنة الأولمبية الدولية، وفق تحقيق ليبيراسيون.
ويعلق لوكادر على التهم التي تلاحق الخليفي قائلا: سيلعب الخليفي دور الجاهل البريء أمام القضاء الفرنسي، ودائما ما يقول “لا أعرف، لا أستطيع الإجابة، لم أقم بذلك…”، ومحاميه فرانسيس سبينر، هو المسؤول عن ترجمة إجاباته إلى “كل العمليات شفافة. إنها مجرد مغامرة تجارية ورهان على المستقبل”.
ويبقى تساؤل القاضي عن طبيعة التحويل المالي الذي سبق التصويت بفترة قصيرة شرعيا ومنطقيا. وجرى التحويل الأول في 13 أكتوبر 2011 والثاني في 7 نوفمبر من نفس السنة، أي قبل أربعة أيام من تصويت الاتحاد الدولي أين حصلت لندن على شرف الاستضافة، ونالت قطر حق احتضان دورة 2019.
ووجد القضاء الفرنسي نفسه وسط هذا التحقيق، حيث بدأ منح الاستضافات لقطر بشراء ساعات فاخرة في شارع الشانزليزيه. وسرعان ما اكتشفت منظمة مكافحة غسيل الأموال 1.3 مليون يورو، حيث لم يتبق سوى تتبع التدفقات المالية المخفية، أين تولت النيابة الوطنية المالية الأمر ومنحته إلى قاضي التحقيق رينو فان رومبيك.
وتتضمن لائحة المتهمين في هذا التحقيق الناميبي فرانك فريدريكس، بطل العالم في سباق 100 متر، وهو الآن عضو في اللجنة الأولمبية الدولية. وطعن العدّاء السابق الاتهام بحجة أن الجزء الأكبر من التدفقات المالية مر عبر جزر فيرجن البريطانية أو جمهورية سيشيل أو سويسرا أو موناكو أو السنغال. ثم صدر حكم عن محكمة الاستئناف في باريس في مارس الماضي، شدّد على شرعية الملاحقات القضائية التي رفعتها النيابة الوطنية، مبرزا أن التجاوزات “ارتكبت في تراب الجمهورية”، وحتى وإن كان الأمر يبدو مجرد شراء لساعات. وتبدو سويسرا وهي مقر الفيفا واللجنة الأولمبية الدولية، وموناكو وهي مقر الاتحاد الدولي لألعاب القوى، مترددتين في افتكاك القضية. لذلك ستتولى فرنسا القيادة القانونية والرياضية.