كتب زياد غصن في صحيفة “الأخبار”:
ليست المشكلة فقط في نزوح نحو تسعة ملايين شخص عن منازلهم ومدنهم، بل في التبعات المترتبة على ذلك النزوح، لا سيما لجهة تفاقم حالة عدم التوازن الديموغرافي القائمة منذ ما قبل الحرب، وتأثيراتها الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة
ليس هناك ما يوحي بعودة قريبة للوضع الديموغرافي إلى ما كان عليه قبل الحرب؛ فحجم الدمار الذي لحق بالوحدات السكنية، والمُقدّر أممياً بنحو 28%، وتأقلم كثير من النازحين مع أماكن نزوحهم اقتصادياً واجتماعياً، إضافة إلى تعثر عودة اللاجئين بفعل الضغوط والحسابات السياسية، كل ذلك يجعل من فرص إعادة التوزع الجغرافي للسكان إلى سابق عهده صعبة المنال. وهو ما يعني أن المشكلة السكانية في سوريا نحو مزيد من التعقيد، في وقت تعيد فيه المدن والتجمعات السكنية تشكيل نفسها على وقع تطورات الحرب.
لم يكن وضع ما قبل الأزمة مثالياً أو حتى مقبولاً بالنسبة إلى حالة التوزع السكاني، لكن كما يقولون شعبياً، فإن «الكحل يبقى أفضل من العمى». ترسم البيانات الرسمية الخاصة بتلك المرحلة صورة واضحة عن ذلك الخلل، إذ إن نحو 44 % من إجمالي عدد السكان يقيمون في ثلاث محافظات لا تتجاوز مساحتها نحو 20% من المساحة الكلية للبلاد، وهذه المحافظات هي دمشق وريف دمشق وحلب، بينما هناك 17% من مجموع السكان يقيمون في ثلاث محافظات تشكل مساحتها نحو 41% وهي الرقة ودير الزور والحسكة، كما أن 9% من مجموع السكان يقيمون في محافظتي طرطوس واللاذقية، واللتين تشكل مساحتهما معاً نحو 2.2% فقط من المساحة الكلية. وهي نسب تمخّضت عنها تأثيرات اقتصادية واجتماعية عديدة؛ فالمحافظات ذات الكثافة السكانية العالية كانت تستنزف الموارد بشكل حاد، مع توسع ملحوظ لأحزمة الفقر، في حين أن موارد المحافظات ذات الكثافة السكانية الأقل استُثمرت بحدود معينة، فضلاً عن الإهمال التنموي الذي لَحِق بها، كما هو حال محافظات المنطقة الشرقية.
وفي كل مرة كانت البلاد تتعرض فيها لمتغيرات اقتصادية أو اجتماعية أو حتى مناخية، فإن الهجرة الداخلية كانت تعيد رسم الخارطة من جديد، بدليل ما حصل مع موجة الجفاف الحاصلة في عام 2006، والتي دفعت بآلاف العائلات من المنطقة الشرقية للنزوح إلى أطراف العاصمة ومناطق ريفها والساحل. وبحسب مدير الإحصاءات السكانية السابق في المكتب المركزي للإحصاء، علي رستم، فإنه «لم تكن هناك سياسة تدخل حكومية واضحة في ما يخصّ الهجرة الداخلية، لجهة توجيهها ووضع ضوابط إدارية وقانونية ناظمة للهجرة في سوريا، سواء للتشجيع أم للحدّ منها». ويضيف رستم، في تصريح إلى «الأخبار»، أن «حجم الهجرة الداخلية واتجاه تدفقاتها ارتبطا بأشكال التنمية والتطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السائدة في المجتمع، وبعوامل ودوافع الجذب والطرد التي تحكم هذه الظاهرة». وتظهر الإحصاءات الرسمية أن عدد المهاجرين داخلياً بين مختلف مناطق البلاد بلغ نحو 354 ألف مهاجر خلال السنوات العشر الممتدة من عام 1984 لغاية العام 1994، مشكلين بذلك نسبة قدرها 6.2% من إجمالي عدد السكان، ثم انخفضت وتيرة الهجرة في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي حتى العشرية الأولى من القرن الحالي، لتصل النسبة إلى نحو 1.8%، على رغم ارتفاع تكاليف المعيشة وقلة فرص العمل.
حلّت محافظة ريف دمشق في المرتبة الأولى لاستقبالها النسبة الأكبر من النازحين
ليس مبالغةً القولُ إن الحرب غيّرت بشكل شبه كامل خريطة التوزع الديموغرافي للسكان، وهذا كان طبيعياً مع نزوح ما يزيد على 40% من إجمالي عدد السكان، وشمول الظاهرة المحافظات كافة مع اختلاف شدتها بين محافظة وأخرى من حيث حركة النازحين، والتي يوضح معالمها رئيس «الهيئة السورية لشؤون الأسرة والسكان»، أكرم القش، في حديثه إلى «الأخبار»، حيث يبيّن أن تلك الحركة تمت في ثلاثة اتجاهات؛ فجزء من السكان فضّلوا العودة إلى أماكن سكنهم الأصلية، وجزء آخر توجهوا إلى خارج محافظاتهم قاصدين محافظات أخرى، أما الجزء الأكبر من النازحين في بعض المحافظات فقد كانت حركة نزوحهم ضمن المحافظة الواحدة، تماماً كما حصل في درعا وحلب وريف دمشق.
وهذا ما تذهب إليه البيانات الإحصائية الرسمية، التي أكدت أن نحو 30% من إجمالي عدد النازحين نزحوا من محافظة حلب، تلتها محافظة ريف دمشق بنسبة 23% من إجمالي النازحين. أما من حيث استقبال النازحين، فقد حلّت محافظة ريف دمشق في المرتبة الأولى، إذ نزح إليها نحو 22% من إجمالي عدد النازحين في سوريا، تلتها محافظة حلب بنسبة بلغت نحو 20%. وفي هذا السياق، يثير رستم نقطة أخرى تتعلق بحصول تغير في عوامل الجذب والطرد تحت ضغط الظروف الأمنية، ويقول: «مع بداية الأزمة، أصبحت محافظة الرقة من المحافظات الأولى الجاذبة للسكان، بعد أن كانت قبل الأزمة طاردة لهم. لكن مع السقوط المفاجئ للمحافظة بأيدي المجموعات المسلحة، عادت وأصبحت طاردة للسكان مجدداً. كذلك الحال بالنسبة إلى المحافظات الساحلية، التي تحولت من طاردة إلى جاذبة بفعل الوضع الأمني».
وعلى رغم الاعتقاد السائد بزوال تلك المتغيرات مع توقف الحرب، إلا أن استعادة الدولة سيطرتها على مناطق واسعة من البلاد لم تفضِ إلى تحقّق هذا الاعتقاد. على العكس من ذلك، هناك مخاوف من «ديمومة» الخلل الديموغرافي المتشكل بفعل الحرب، ولا سيما أن هناك مؤشرات تدفع بخيار الاستقرار النهائي للنازحين في مناطق نزوحهم، كطول فترة النزوح وعدد مراته. ففي المؤشر الأول، تكشف نتائج مسح السكان الأخير أن 80% من النازحين وصلت فترة نزوحهم لأكثر من سنة، و24% لأكثر من سنتين، وفقط 1% لم تتجاوز فترة نزوحهم ثلاثة أشهر. وتضيف النتائج بالنسبة إلى المؤشر الثاني أن 85% من النازحين نزحوا لمرة واحدة، و11% لمرتين، و3% لثلاث مرات أو أكثر، وبمقاربة نتائج المؤشرين، فإنه يمكن القول إن الشريحة الأكبر من النازحين تعيش حالة من الاستقرار في نزوحها، على رغم تأكيد 62% من إجمالي النازحين رغبتهم في العودة إلى مكان إقامتهم الأصلي، إلا أن هناك في المقابل 33% يفضلون الاستقرار في المكان الحالي. وهي نسبة يبرّرها رستم «بالدمار الكبير في أماكن إقامتهم الأصلية، والاستقطاب الحاد في المناطق التي أتوا منها، إضافة إلى إمكانية توفير مكان النزوح للبيئة الثقافية أو الاجتماعية أو الاقتصادية الموائمة لهم».
ومع أن بيانات المسح الديموغرافي، الذي نفذه المكتب المركزي للإحصاء في العام 2018، تذكر أن نسبة النازحين بتاريخ إجراء المسح لم تتجاوز 18.1% في 11 محافظة شملها المسح، وعلى رغم الشكوك المثارة من قِبَل بعض الباحثين حول دقة تلك البيانات، إلا أن وجود 2.7 مليون نازح هو بحدّ ذاته تأكيد للمخاوف السابقة، ولا سيما أن نسبة العائدين من النزوح كانت قليلة جداً، حيث بلغت نحو 0.6%. وحتى مع عودة بعض النازحين إلى محافظاتهم، فإن ذلك لن يغير من المشهد كثيراً، «بالنظر إلى أن عودة البعض لن تكون إلى أماكن سكنهم التي تركوها، بل إلى مناطق قريبة منها بسبب دمار منازلهم أو خطورة الإقامة فيها»، يقول القش. ويعرب عن اعتقاده بأن «معالجة تفاقم مشكلة التوزع الجغرافي للسكان تحتاج إلى اعتماد سياسة سكانية خاصة، وذلك بالتوازي مع إعادة بناء وإعمار المدن والمناطق المدمرة». وحتى يتحقق ذلك، فإن جميع المدن والتجمعات السكانية تكون قد طالتها الحرب، فإن كانت قد نجت من الخراب العمراني فإنها لم تنجُ من الخراب الديموغرافي.