كتب عيسى يحيى في صحيفة “الجمهورية”:
هو الموت يخطفهم بعمر براعم الورد دون إستئذانٍ أو شفقة على قلوب أمهاتٍ ثكلى، سهرن الليالي وتعبن وربّين حتى يرين نجاح أولادهن يكللّ تلك المسيرة الشاقة المضنية، وآباء ينتظرون أن يروا صورتهم في أبنائهم علّ المستقبل يبتسم ويشق لهم طريقاً قد تكون تعثرت يوماً أمامهم. إلّا أنّ القدر شاء أن تتبخر آمال أبو عباس وأمه وأن يخسرا ضناهما لحظة صدور نتائج إمتحانات الشهادة المتوسطة.
لم تكن تدري عائلة حسين يزبك، ذلك الشاب الأربعيني إبن بلدة نحلة البقاعية، والذي يعمل في مجال البناء لتأمين حياة أسرته المكوّنة من أمٍ وخمسة أولاد، هذا المجال المتوقف عن العمل أيضاً منذ سنوات في مدينة بعلبك والجوار لظروف أثرية سياحية، أنّ إنتظار الفرحة بوصول إبنها عباس الصبي الأكبر إبن الـ 14 ربيعاً إلى الصف التاسع الأساسي لن تكتمل، تلك الشهادة التي تقام لها الأعراس في البقاع ولبنان ككل، وتطلق خلال صدورها جميع أنواع العيارات النارية، حيث كانت نقمةً على العائلة والمنطقة وألبست البلدة السواد جراء فقدانها عباس بين ليلة الجمعة وضحاها.
فجر الجمعة كان قاتماً ومعتماً على عائلة حسين يزبك حيث بدأت نتائج إمتحانات الشهادة المتوسطة بالصدور منتصف الليل، ليسمع الأهل خلالها صوت ثلاث رصاصات إخترقت واحدةٌ منها رأس عباس الذي بدل أن تسمع رقم ترشحه إلى الشهادة ناجحاً. حجم الضغط النفسي والترهيب قبل الإمتحانات من تركيب كاميرات للطلاب في الصفوف، ناهيك عن التسريبات التي كانت تصدر عن الأسئلة وصعوبتها، كانت كفيلة بأن تقفل باب الأمل لدى عباس يزبك الذي درس صف الشهادة في ثانوية البشائر وعرفه أصدقاؤه ذكياً محباً للعلم وطامحاً لمستقبل واعد، هي كلمة قالها وهو ينظر الى والديه النظرة الأخيرة «بابا أنا سقطت» وهمّ في دخول الغرفة حيث حصل ما لم يكن في الحسبان، لقد قرّر عباس دون تصميم وتفكير إنهاء حياته برصاصة إخترقت رأسه وذلك لرسوبه في الإمتحانات الرسمية.
نُقل عباس إلى مستشفى دار الأمل الجامعي وعلى وجه والديه أملٌ بالشفاء والعودة إلى الحياة، غير أنّ عباس لم يصمد أكثر من أربعٍ وعشرين ساعة، ولم تفلح الأجهزة الطبية في إعادته للحياة حيث أصيب بتلفٍ دماغي، ولم تنفع دعوات الأهل الممزوجة بالبكاء والنحيب على فتى في أول عمره ذنبه الوحيد أنه كان يعيش في لبنان وكل شيءٍ فيه مباح.
فارق عباس الحياة مساء السبت ودخل بلدته نحلة ظهر الأحد دخول الأبطال، فصوُره تملأ الطرقات ويافطات الأسى والحزن خيمت على البلدة وعائلاتها، ودخل إلى منزله للوداع الأخير وغرفته لا تزال على حالها، كتبه الدراسية مبعثرةٌ هنا وهناك، وأقلامه التي خطّت أجوبة أسئلة الإمتحانات الرسمية والتي قال لرفاقه أنها سهلة جفّ حبرها. كل النسوة في البلدة لم يستطعن بلسمة فؤاد الأم المفجوعة على ولدها والتخفيف عنها، فالحرقة صعبة والخسارة كبيرة، وكل النساء يشاركن في النحيب والبكاء.
«بكرت كتير يا أمي»، «ضيعان العلم والشهادات من بعدك يا عباس» وعبارات أخرى يحزن لها القلب تصدح في أرجاء المنزل لوداع عباس، ولا تنفك الأم تلقي بنفسها على النعش علّ عيني ولدها تفتحان لها أملاً بالعودة، لكن المصاب جلل، والفراق أصبح محتماً ولا شيء يعيد عباس. وبعبارة «إسمعلي يا الله هالمرة وبس»، «ردّلي عباس»، يغص الوالد حسين وتغمر الدموع وجنتيه وقد كوتهما الشمس الحارقة وهو يعمل في ظلّها.
في حسينية آل يزبك في بلدة نحلة تجمّع ذوو الفقيد وأهالي البلدة والقرى المجاورة من مختلف الأطياف، وبعد الوداع الأخير وعلى وقع نثر الأرز والورد على النعش، سار الموكب إلى مثواه الأخير في جبانة البلدة حيث اجتمع كل المحبين، وأمّ إمام البلدة الصلاة على الجنازة قبل أن يوارى الثرى.
ليست المشهدية الأولى ولن تكون الأخيرة، فالواقع المؤلم الذي نعيشه والأفق المسدود جراء السياسات المالية والإقتصادية المتبعة كفيلة بالقضاء على آمال الشباب وتطلعاتهم، والموت لا يكون بالرصاص حتماً، فكثيرون في لبنان على وجه الأرض أمواتُ.