في آب 2001، اتخذ البطريرك مار نصرالله بطرس صفير القرار في مد اليد إلى الزعيم الاشتراكي وليد جنبلاط لختم جرح حرب الجبل (1983) الذي أحبط المسيحيين طويلا، فولدت المصالحة التاريخية بجهود الرجلين في مشهدية ساد اعتقاد بأن شيئا لن يعيد الجبل وأبناءه إلى ما قبلها… إلى أن جاء الحادث الأليم الذي عصف بالجبل عصر أمس ليكشف هشاشة الوضع. ذلك أن المصالحة ثابتة وراسخة ولا عودة عنها. لكن القلوب المليانة قد تنفجر دماء عند أول فتيل يشعلها.
هذه الصورة تعد تعبيرا عن مشهد سياسي شديد الدقة والتوازنات يستوجب تدخل سعاة الخير في أسرع وقت. لكن هذا الجانب السياسي لا يختصر وحده الرسائل الخطرة التي انطوى عليها التصعيد الأمني أمس في الجبل. إذ أعاد التذكير بأن الكباشات والمزايدات السياسية اليومية ليست وحدها سببا لخروج الأمور عن سيطرة زعماء الحرب والسلم، بل يجب أن يضاف إليها السلاح المتفلت الذي ينتشر كالفطر بين أيدي الناس ويستخدم “عندما تدعو الحاجة”. وإذا كان حزب الله لا يجد ضيرا ولا “يخجل” كونه يمتلك سلاحا رديفا لذاك الذي من المفترض أن تحتكره المؤسسة العسكرية، في غياب الاستعدادات الجدية لوضع حد لهذه الظاهرة الخارجة على منطق الدولة والقانون والمؤسسات، فإن الأغرب- وربما الأدهى- أن يكون السلاح متفلتا إلى هذا الحد بين أيدي أناس عاديين ينتمون إلى أحزاب من المفترض أنها حاضرة بفاعلية في المؤسسات الدستورية، ولا يتوانون عن استخدامه عند كل مفترق سياسي لتصفية حسابات الزعماء مع خصومهم على حساب أرواح الناس وحياتهم في وطن اعتاد أن يحول مواطنيه كبش محرقة الطبقة الحاكمة، التي يبتعد بعض مكوناتها عن الحكمة ويتخذ خطوات وقرارات غير محسوبة النتائج، وهو ما أظهره بوضوح التصعيد الميداني الذي لامس الخطوط الحمر عصر أمس.
غير أن مصادر مراقبة تنبه عبر “المركزية” إلى أن إذا كان القيمون على الحكم قد رموا الكرة في ملعب “زعماء الجبل” لتهدئة النفوس، فإن الأهم يكمن في أن تبادر السلطات المعنية إلى وضع حد لظاهرة السلاح المتفلت بين أيدي المواطنين، مشيرة إلى قصور رسمي فاضح في هذا المجال آن أوان وضع حد له. واعتبرت المصادر أن تقصير الدولة هذا حوّل الأمر إلى ظاهرة مخيفة بات خطرها عميما، في وقت من المفترض أن يعمل القيمون على السلطة على إرساء ثقافة احترام القانون ومعاقبة المخلين بالأمن ليكونوا عبرة لمن تسول لهم انفسهم استسهال العبث بحياة الناس وأرواحهم وممارسة هواية العراضات المسلحة “كل ما دق الكوز بالجرة”.
وفي السياق، لا تقوت المصادر فرصة التذكير بأن هواة السلاح المتفلت لا ينتظرون الظروف السياسية المناسبة لإطلاق الرصاص، بل إنهم لا يتورعون عن استخدامه لأغراض شخصية في مناسبات الأفراح كما الأتراح، بدليل أن عددا من أفراح موسم الصيف لا تلبث أن تنقلب أحزانا لأن رصاص الابتهاج العشوائي في مناسبات الزواج والنجاح المدرسي، يتحول سريعا سببا لحزن عميق يعيش أهالي ضحايا أبرياء، ذنبهم الوحيد أنهم تواجدوا في المكان الخطأ، وتحولوا طريدة سهلة لسلاح ما كان من المفترض أن يكون “مدعوا” إلى المناسبات السعيدة والحزينة هذه. وفي السياق نفسه، تذكر المصادر أن السلاح نفسه يستخدم لتصفية الحسابات الشخصية بين الناس، كما حصل مع الشاب روي حاموش الذي قتل في حزيران 2017، ما يرفع منسوب الخوف من تحول البلاد إلى جمهورية تحكمها شريعة الغاب على حساب سيادة القانون.
وتختم المصادر داعية المعنيين إلى اتخاذ القرار الجريء في المحاسبة الفعلية للمخلين بالأمن والركون إلى التدابير الفاعلة التي تضمن حياة الناس، لأنها ليست لعبة يتسلى بها المسلحون ومحبو الاستعراضات الاستفزازية، وهي أغلى من أن تذهب ضحية رصاصات طائشة، نام مطلقوها طويلا على حرير كونهم أقوى من الدولة…