IMLebanon

إمارةُ الخُوّة تتمدَّد…

كتبت نهلا ناصر الدين في صحيفة “الجمهورية”:

“سلاح وتهديد بالقتل، اعتداء جسدي بالضرب، وتكسير محتويات المحلّ في وضح النهار، كانت سبباً كافياً لتغيير عملي ومكان سكني خلال 24 ساعة»، بهذه الكلمات يصف (و.غ) معاناته المُرّة في الضاحية الجنوبية لبيروت. فسنوات ثلاث مرّت على إغلاقه محلّ الخياطة الذي فتحه في حيّ الجامعة، وذلك بعد اعتداء شابَّين عليه لرفضه منحهما 300 ألف ليرة شهرياً «كلفة حماية له» على حدّ تعبيرهما، كونه «غريباً» عن المنطقة.

هادئة بَدت الأجواء في مطعم الآغا بعد أيامٍ من الحادثة، «الشغل ماشي» وكأنّ شيئاً لم يحصل، وحدها الأحاديث الجانبية بين أهالي الضاحية تدق ناقوس الخطر، وتعيد خاصرة العاصمة الرخوة أمنياً الى عصر الجاهليّة. فما حصل مع «الآغا» ليس بجديد ولا بمُستهجَن، حيثما اتخذ «الزعران» لأنفسهم مصادر رزق غير مشروعة، على حساب عجز الدولة وتلهّي الأحزاب المعنية بحروبِ ما خلف الحدود.

يرفض مصدر عسكري فرضية عجز الدولة أمام هؤلاء، ويعترف بـ»التحديات القاهرة» والتي يأتي في مقدمها عدم تعاون الضحايا أنفسهم على كشف هوية «الزعران»، ولكنه يؤكد أنّ مخابرات الجيش ترصد بالمقدار المستطاع هذه الحالات الشاذة، وتتابعها في الضاحية وفي مناطق أخرى، بدليل توقيف 63 شخصاً يفرضون الخوّة في مناطق مختلفة من لبنان.

خريطة الموقوفين
في معلومات لـ»الجمهورية» أنّ مخابرات الجيش أوقفت منذ بداية السنة الجارية وحتى توقيف (ح. ز) في حادثة مطعم الآغا، 22 شخصاً في جبل لبنان بجرم طلب الخوّة وفرضها على المحال التجارية، المقاهي، سائقي الفانات، أصحاب المولدات، محطات الوقود، المسامك، أشخاص من التابعية السوريّة، أو التوظيف بالقوة.
ويتوزع الموقوفون الـ22 على مناطق جبل لبنان وأهمها أحياء: الأوزاعي، الليلكي، الشياح، حيّ السلم، المشرفيّة، الجمهور، محيط ثكنة هنري شهاب، صحراء الشويفات والصفير. بينما توزعت أسماء بقية الموقوفين على طرابلس وتحديداً في أحياء التبانة والقبة والتل والبداوي والميناء وفوار وباب الرمل، وعلى عكار وبيروت (صبرا، بئر حسن، وكورنيش المزرعة)، وبرجا – الشوف، وبعلبك، وصيدا، والدوير – النبطية.
تتقاطع المعطيات حول أنّ الخوّة التي يفرضها بعض المتفلّتين أمنياً وهم معظمهم من أصحاب السوابق، أو المطلوبين بمذكرات توقيف، تأتي في إطار طائفي، مناطقي، وأحياناً سياسي إستقوائي بَحت. فكل من ليس له «ضَهر» عشائري أو حزبي يحميه، ويفكر في أي استثمار في الضاحية هو ضحية سهلة الافتراس لدى فارضي الخوّة. وتختلف الخوّة بين مادية مباشرة وغير مباشرة، وإن كانت مباشرة في معظمها، لكن في بعض الأحيان تُترجم على طريقة فرض توظيف، اشتراكات مجانية، وحتى فواتير غذائية مجانية. وعلى سبيل المثال لا الحصر، كأن يفرض أحدهم على صاحب المولّد الكهربائي أن يكون اشتراكه واشتراك أقاربه مجانياً.

«عِرْف» الخوّة
جالت «الجمهورية» في الضاحية الجنوبية لبيروت ميدانياً، وعادت بمشاهدات تُظهر واقعاً لا يشبه الألفية الثالثة، ولكنه يقترب من وجهِ نظامٍ لبناني أقرَب إلى المزرعة منه إلى الدولة. فهنا في محلّة «موقف رقم 4» ترى (ع. ن) غير آبهٍ بكل ما يحصل، كيف لا وهو ينتمي الى إحدى عشائر بعلبك ـ الهرمل الرئيسية. يضحك (ع. ن) لدى سؤاله عن الخوّة وما إذا كان قد تعرّض لها قبلاً، ويقول: «لا يتجرأون على الاقتراب من السوبرماركت خاصتي، ولا حتى جَرّبوا ذلك أبداً، فأنا ابن البقاع ولا يمكنهم أن يَستوطوا حيطي».
أمّا الحاج (م. ص) صاحب محل للمعجنات قرب مجمع رفيق الحريري الجامعي، فتعرّضَ مراراً وتكراراً لبطش «الزعران» لعدم رضوخه لهم، الامر الذي بلغ حد تخريب المحل ومحتوياته والاعتداء على عمّاله، ما دفعه الى الاستنجاد بحركة «أمل» و»انقضى الأمر». أمّا جاره الذي تعرض مطعمه للتكسير مرات عدة بشهادة أهالي المحلة، فرفض التحدث عن معاناته، ربّما خوفاً من تكرارها، وبرّر المشكلات التي سبق أن حصلت في مطعمه بأنها مشكلات شخصية بين أحد العاملين لديه وأحد سكان المحلّة.
ولا تكمن الخطورة عند حدود تكتّم الضحايا على أسماء فارضي الخوّة، والعَضّ على جروحهم فحسب، فبمثابة العُرف بات فرض الخوّات في الضاحية الجنوبية، وها هو صاحب أحد المشاريع التجارية (أدوات كهربائية) في حي الليلكي بحث بنفسه عمّن يحميه، على حد قوله، وهو يدفع شهرياً 200 دولار لأحد الشبان، بدل حماية له ولمصدر رزقه، ويقول: «أدفع 200 دولار أفضل من أن أخسر لقمة عيشي… فأنا أنتهج في الحياة مبدأ «بَعّد عن الشرّ وغَنّيلو».
لكن حتى الترفيه لم يسلم من شرّ الخوّة لأنّ نشاط فارضيها تجاوز حدود مناطقهم أحياناً، فاعتمد البعض إثارة المشكلات في الملاهي الليلية في كسروان، وتحديداً في الكسليك وجونيه، والكفّ عن إثارة البلبلة مقابل بدل مادي، إلّا أنّ هذا النشاط توقف في الفترة الأخيرة، أي قبل ما يناهز الأربع سنوات، بحسب صاحب أحد الملاهي الليلية، وذلك عبر تسوية قضَت بتوظيف رجال أمن من هؤلاء، مقابل حماية الملهى من أي متفلّتين يتعمّدون اللعب على وتر التوتر الأمني، وبالتالي ترويع روّاد هذه الأماكن وتخريبها.

روبن هود
هذا بالنسبة الى الضحايا، لكن ماذا عن الذين يمارسون هذه «الصَلبطة»؟
يروي (ع. ز) أحد القيّمين الإحترافيين على هذه العملية لـ»الجمهورية» حكايته مع فرض الخوّة في الضاحية الجنوبية، أو»تأمين الحماية» لأكثر من 20 محلاً تجارياً حسب ما يفضّل تسميتها. ويؤكد أنّ لكل منطقة ناسها، ومفاتيحها و»كلّ ديك على مزبلته صيّاح» أو بمعنى آخر هناك توزيع أدوار بين فارضي الخوّات بحسب المناطق التي ينتمون إليها، وكلما كان الحيّ مختلطاً طائفياً ومناطقياً كلما كان عرضة للخوّة أكثر من غيره.
فهناك أحياء عصيّة على هذه العملية، كونها خاضعة لسلطة معيّنة أو لسلطة إحدى العشائر، بينما تنتشر الخوّة في أحياء الليلكي وحي السلم والرمل العالي والرويس، وأوتوستراد السيد هادي نصرالله…
تتراوح الخوّة التي يفرضها (ع. ز) بين 200 و600 ألف ليرة «بحسب المشروع وحجمه، بداية نرفع السعر ثم نفاوض عليه ونخفّضه». وقبل طلب الخوّة يتم الاستقصاء عن صاحب المشروع ومعرفة ما إذا كان مدعوماً سياسياً أو عشائرياً أم لا، و»في حال كان «معَتّر» يصبح هدفاً لنا، وبالتالي، إمّا أن يقبل بدفع الأموال شهرياً أو يتم تهديده باستراتيجيات عدة، تبدأ بإثارة المشكلات: تشويه سمعته وقطع رزقه، تخويفه بالمظاهر المسلحة وتَصل الى حدّ إطلاق النار عليه أو على المحلّ».
بطريقةٍ «روبِن هودية» يتابع (ع. ز) تقديم نفسه، ويعتبر أنه يقدّم «خدمة للناس» مقابل مبلغ مادي بسيط، في الوقت الذي تعجز الدولة عن حماية هذه المحلات، على حدّ توصيفه. ويستطرد: «أنا أصبر عليهم أياماً وأياماً، وأحياناً أرضى بتقسيط المبلغ على دفعات».
ولا يتقبّل (ع. ز) أن يتم التعاطي معه كـ«واحد من زعران الخوّات»، ويقول: «أنا مش أزعر… سُجنت سابقاً لفترة 7 سنوات بتهمة ترويج المخدرات، وعندما خرجت كان من الصعب جداً عليّ إيجاد فرصة عمل، لكوني أصبحت من أصحاب السوابق، وبالتأكيد لست بقادرٍ على فتح مشروعٍ على حسابي لأن لا رأس مال لديّ، فما كان أمامي إلا أن آخذ على عاتقي حماية المحلات في نطاق منطقتي من الزعران وتحصيل الأموال التي أعتاش منها في هذه الحال».

«حزب الله» عاجز
ومن ناحية سياسية، يُشار عند كل حادثة من هذا النوع إلى «حزب الله»، في اعتبار أنّ الضاحية تعتبر مربّعاً أمنياً له، ويُطرَح دائماً السؤال التقليدي: «أين «حزب الله» من كل ما يجري؟».
لا يخفي مصدر مسؤول في «حزب الله» عجزه عن ضبط هذه العناصر المتفلتة، وإن كانوا يمارسون نشاطهم في منطقة تقع تحت سيطرته. فالحزب الذي نجح قبل الحرب السورية في ضبط هؤلاء بنسبة 70 في المئة عبر تعيين مسؤولي مناطق من العائلات نفسها التي ينتمي إليها فارضو الخوّات، عاد ليرفع الراية البيضاء أمام خروقاتهم، بعدما تجاوزت مسؤولياته حدود الضاحية.
علماً أنّ دخول الحزب الحرب السورية، بحسب المصدر نفسه، أزعج القاعدة الشعبية ولاسيما منها العشائرية، بسبب فقدان أحبّاء لهم في الحرب، وبسبب التقصير الإنمائي الذي ضرب مناطق «الحزب» مع توسّع التحديات الإقليميّة. ولذلك، كان لا بدّ من الاستنجاد بالدولة وتحديداً بالمؤسسة العسكرية للجم هذه التجاوزات التي تروّع المواطنين وتهدّد أمنهم ولقمة عيشهم.
في نهاية جولتنا على شوارع الضاحية، إستقلّينا الـ«فان رقم 4» لاستنباط مواقف العامة حول هذه القضية، الحاج مصطفى، السبعيني الذي لم تشفع له شيبته لتكون باباً لحياة كريمة، ينظر بتشاؤم الى ما يحصل، ويؤكد عجز «حزب الله» عن ضبط «الزعران»، ويشدد على أنّ ما يحصل ما كان ليحصل لو لم يكن هناك رأس مدبّر له…
يرفض الحاج مصطفى تسمية الأشياء بأسمائها، ويكتفي بالقول: «من يتم توقيفهم هم كِبش محرقة أو الواجهة الأضعف في مشروع فسادٍ بالتراضي… وطول عمرهم الأربعين حرامي وَراهم علي بابا»…!