كتب خالد أبو شقرا في “نداء الوطن”:
“رَفْعُ موازنات المستشفيات، فتحُ السقوف المالية امام المستشفيات الحكومية ومحاسبة كل من يرفض استقبال اي مريض”، “عبارات حملها وزير الصحة جميل جبق في صولاته وجولاته على المستشفيات اللبنانية من اقصى الجنوب الى اقصى الشمال، وأمنت له بطاقات دخول مجانية الى ملعب خصوم السياسة. متنقلاً من مستشفى الى آخر. أغدق جبق الوعود بزيادة حصص المستشفيات من ميزانية الصحة بما يحقق التغطية الاستشفائية لكل الشعب اللبناني، متغاضياً عن أمرين أساسيين، علمه المسبق بالموازنة التقشفية، والاستنسابية في توزيع الاموال على المستشفيات.
الاحلام الوردية التي زرعها جبق في نفوس المواطنين الغارقين بكل اشكال الفقر والبؤس وبعقول اصحاب المستشفيات، تحولت الى اشواك في مجلس الوزراء قضّت مضاجع المستشفيات مع رفض الحكومة طلب الصحة زيادة موازنتها بمئة مليار ليرة، ودفعت نقابة اصحاب المستشفيات الى اطلاق جرس الانذار قبل قليل من خطر اقفال بعض المستشفيات الخاصة. فيما توالت ازمة المستشفيات الحكومية فصولاً وليس آخرها اقفال مستشفى جزين الحكومي امام المرضى لمدة اسبوع.
صحيح ان الارقام التي رصدتها وزارة الصحة للعام الحالي كسقوف مالية للمستشفيات لم تتراجع عن السنوات السابقة وقد قدرت بحدود 450 مليار ليرة، إلا انه بحسب نقيب اصحاب المستشفيات الخاصة سليمان هارون في حديث خاص لـ”نداء الوطن” فإن “هذا الرقم لم يعد يجدي نفعاً مع ارتفاع معدل الطبابة للفرد، وفي تغطية نفقات كل من يدخل على حساب مؤسسات الدولة سواء كانت وزارة الصحة، الضمان الاجتماعي، تعاونية موظفي الدولة أوالطبابة العسكرية. ونتيجة لذلك تراكمت الديون ووصل مجموع مستحقات المستشفيات على الجهات الرسمية الضامنة منذ العام 2012 الى مليار و300 مليون دولار او ما يعادل الفين مليار ليرة. وهو رقم كبير جدا لا طاقة للكثير من المستشفيات على تحمّله”. ويضيف هارون ان “عدم توفر الاموال يوقِع المستشفيات بمشاكل مع مورّدي الادوية والاجهزة والمعدات الطبية الذين يوقفون تسليم الادوية في حال لم تسدّد مستحقاتهم في غضون خمسة اشهر. وهو الامر الذي دفع ببعض المستشفيات الى التوقف عن تقديم العلاج لمرضى السرطان. اما البعض الآخر فبدأ بإقفال غرف وطوابق وتسريح العاملين من اطباء وممرضين وعاملين في مختلف الاقسام”.
وفي الوقت الذي كانت تراعي فيه وزارة الصحة على مرّ السنوات المستشفيات الخاصة وتكرمها بمزيد من رفع السقوف المالية وتسايرها بعقود المصالحة ودفع فروقات تخطيها للسقوف المالية المحددة، كان الاجدر بها بحسب الكثير من الاوساط الصحية المتابعة للملف تصحيح السقوف المالية واعادة النظر بكل الهيكلية الصحية المعتمدة في لبنان، خصوصاً لجهة تنظيم عمل الوزارة التي حددت مهامها عند انشائها بالرعاية والوقاية والتوعية وليس بأن تصبح رب عمل مسؤول عن تمويل ربح المستشفيات.
النائب السابق الدكتور اسماعيل سكرية، يؤكد ان ما يجري في لبنان لا يخالف الاصول وعمل الادارات، فحسب، انما يضرب منطق الامور التي اصبحت “كمن يعبئ الماء في السلة”. فالعلاقة بين وزارة الصحة ومختلف الجهات الضامنة مع المستشفيات تحكمها الفوضى والتدخلات السياسية والزبائنية وهي ما اوصلت الامور الى هذا الدرك. ويقول سكرية ان “الرضوخ لمطالب المتعاقدين مع الدولة وخصوصاً المستشفيات الخاصة يأتي تحت ضغط الحاجة والابتزاز والتهديد بالاقفال… فتلبّي الدولة مكرهة المطالب سواء كانت محقة او لم تكن”. ويتابع سكرية ان “المشكلة لم تكن يوماً بعدم توفر الاموال بل بطريقة صرفها، فمن يستطيع ان يحدد اليوم ما هي الكلفة الحقيقية للاستشفاء؟ ولماذا اصبح تخطي السقوف المالية يتجاوز في 5 سنوات الفي مليار ليرة في حين لم يكن يتجاوز العشرة مليارات في السنة الواحدة؟ ولماذا لا يجري التحقق من كل الشكاوى عن تزوير بعض المستشفيات للفواتير ومضاعفتها والتلاعب بأسعار الادوية؟ ولا اخفي سراً ان ذكرت حادثة تقديم 10 آلاف معاملة للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي اثبتت التحقيقات وجود 7500 معاملة وهمية، تسجل دخول المريض السبت مساء وخروجه الاثنين صباحا. فعن اي رقابة نتكلم؟”.
ان كان وضع المستشفيات الخاصة حرجاً فان المستشفيات الحكومية تنزف من دون اي تدخل لتضميد جراحها. فعدم تسديد الجهات الضامنة لما يترتب عليها من اموال، وتأخر دفع مساهمة وزارة الصحة لما بعد اقرار الموازنة افرغ صناديق المستشفيات الحكومية، واظهر عجزها عن دفع مستحقات موظفيها. “لم نتقاضَ أي راتب منذ شباط الماضي، ولدينا في ذمة الادارة السابقة عشرة اشهر من الرواتب غير المقبوضة”، تقول احدى الموظفات في مستشفى جزين الحكومي بحرقة قلب، بعد اعلانهم الاضراب العام واقفال باب المستشفى. وحسب ماري عاقوري، من قسم الإدارة في المستشفى نفسه فإن “القرار الذي اتخذه الموظفون بالاعتكاف عن العمل اتى بعد رفض وزارة الصحة دفع مساهمتها البالغة 300 مليون ليرة قبل اقرار الموازنة. واستحالة دفع بقية الجهات الضامنة من جيش وتعاونية موظفي دولة وضمان اجتماعي ما يترتب عليها قبل تشرين الاول، وهو ما لم يعد للموظفين القدرة على تحمّله”.
مستشفى جزين الحكومي ليس الوحيد الذي يعاني عجزاً بدفع رواتب موظفيه. فقبله حاصبيا وصيدا الحكومي وحتى مستشفى رفيق الحريري الجامعي واللائحة تطول. فالمستشفيات الحكومية تتشارك الواقع نفسه ولو اختلف الدعم بحسب حجم المستشفى وحظوته السياسية ومكان تواجده. فرواتب الموظفين تشكل الهمّ الاكبر والعائق الاساسي في الاستمرار بتقديم الخدمات في المستشفيات الحكومية المختلفة، والحل قد يكون بسيطاً بحسب عاقوري، وهو “تحويل رواتب الموظفين مباشرة الى وزارة الصحة ومعاملتهم كغيرهم من موظفي الدولة. وهكذا ينتفي السبب المباشر لأزمة المستشفيات الحكومية”.
450 مليار ليرة تدفعها وزارة الصحة عن المرضى الذين يعالَجون على نفقتها. لكن السقف المالي المحدد شهرياً ينتهي في منتصف الشهر، لتبدأ من هناك عملية مراكمة الفواتير والتي لا تجد الدولة حلاًّ الا باجراء عقد مصالحة بالفروقات التي يتقدّم بها كل مستشفى. ما كان يحصل في الماضي بطريقة سلسة يبدو اليوم، مع عجز الدولة اكثر تعقيداً وهو ما يخيف هارون بضياع الاموال، “فعقد المصالحة يتطلب قانوناً من مجلس النواب وانا اشكك في قدرة الدولة على دفع مستحقاتها في ظل هذه الظروف، وانطلاقاً من دورنا الانساني لا نستطيع الا ان نستمر بتقديم الخدمات حسب قدراتنا وبالتالي مراكمة خسائرنا”، كما يقول.
قد تكون معاناة بعض المستشفيات صحيحة نتيجة انخفاض حصتها من السقوف المالية وتواجدها في مناطق مكتظة بالسكان. لكن الأكيد ان ليس كل المستشفيات تعاني. فالكثير منها يستفيد من سقوف مالية مرتفعة جداً تفوق حاجته.
التعامل مع ملف المستشفيات بحزم وعدل قد يكون اكثر من ضروري للمحافظة على استمرار هذا القطاع، ليس النوعي فقط انما الكمّي ايضا. اذ يشكل قطاع المستشفيات الخاصة ثلاثة في المئة من الناتج المحلي الاجمالي ويؤمّن اكثر من 30 الف فرصة عمل بشكل مباشر و50 الفاً بشكل غير مباشر.