كتب محمد وهبة في “الاخبار”:
لم يستجب مصرف لبنان لتحذيرات صندوق النقد الدولي التي انتقدت عملياته المالية مع المصارف (الهندسات)، بل ذهب قبل أيام في اتجاه توسيعها بحثاً عن الدولارات التي يحتاج إليها لترميم احتياطاته بالعملات الأجنبية، ما سيؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة السوقية على الدولار، إذ إن «المركزي» يدفع للمصارف ما بين 19٪ و21٪ مقابل الاستحواذ على الدولارات المجمّعة من الزبائن والمصارف نفسها أيضاً.
خلال الأسابيع الماضية برزت تطورات ”مخيفة“ على الساحة النقدية. ففيما بدأ بعض المصارف يروّج لـ«منتجات» جديدة لاستقطاب ودائع من الزبائن بالدولار بفائدة سنوية تصل إلى 14.33٪ وضمن حدّ أدنى من الودائع يتراوح بين مليون دولار و20 مليون دولار، أصدر مصرف لبنان تعميماً يتيح للمصارف تسجيل الناتج عن الهندسات المنفّذة مع المصارف منذ مطلع السنة الجارية، أرباحاً فورية في ميزان الأرباح والخسائر بشرط ضخّها في رأس المال، وأن تكون دولارات طازجة من غير المودعة لديه أو تكون ناتجة عن عمليات قطع (بيع وشراء العملة). تزامن هذين التطورين أحدهما مع الآخر يوحي بأن مصرف لبنان يتوسّع في تنفيذ العمليات المالية إلى حدود قياسية تعكس مدى حاجته إلى الدولارات في ضوء استنزافها الذي يعبّر عنه عجز ميزان المدفوعات الذي قفز عن مستوى 5 مليارات دولار في نهاية أيار 2019، أي بمعدل مليار دولار شهرياً.
وبحسب مصرفيين اتصلت بهم «الأخبار»، فإن غالبية كبيرة من المصارف انخرطت في هذه العمليات المالية من خلال إصدار منتجات جديدة مغرية للزبائن. هذه المنتجات تختلف بين مصرف وآخر بأمر واحد هو قيمة الحدّ الأدنى للوديعة. تقول المصادر، إن بعض المصارف خفض الحدّ الأدنى للوديعة إلى مليون دولار، فيما بلغ الحدّ الأقصى الذي رصده العاملون في الأسواق المالية 20 مليون دولار.
وتتشابه المنتجات المصرفية المعروضة على الزبائن في طريقة تركيبها، سواء لتسديد مبلغ 10٪ من قيمة الوديعة فوراً ويوضع في حساب مستقل وهي غير خاضعة لضريبة الفوائد. ويحصل الزبون على ما يقارب 30٪ من الفوائد موزّعة على ثلاث سنوات من فترة التجميد، أي إنه وفق الحسابات الدقيقة لهذا المنتج، سيحصل المودع على معدل فائدة سنوية تبلغ 14.33٪.
وبحسب المعطيات المتداولة في السوق، فإن مصرفاً كبيراً واحداً تمكن من جمع مبلغ يفوق 500 مليون دولار بعد عرض المنتج الجديد بأيام قليلة، لكن التوقعات بأن تتمكن المصارف من جمع مبلغ كبير هي متدنية نسبياً. ورغم ذلك، فإن الأموال المستقطبة لا تكمن في أموال الزبائن «الطازجة»، فللمصارف أموال مودعة في الخارج بدأت تحوّلها إلى لبنان للمشاركة في الهندسات الموسعة التي ينفذها مصرف لبنان.
إزاء ما يحصل، برز سؤال محوري في ظل هذه الظروف المالية الدقيقة والحساسة التي يشهدها لبنان: إذا كانت المصارف تدفع للزبائن هذه الفوائد، فما هي الفوائد التي تحصل عليها من توظيف الأموال لدى مصرف لبنان بما يكفي لتسديد كلفة الودائع ولتحقيق أرباح تستعملها في التعميم الذي صدر أخيراً؟
تجيب مصادر مصرفية على هذا الأمر بالإشارة إلى أن مصرف لبنان حدّد آلية لتنفيذ الهندسات مرتبطة بمؤشّر اسعار فائدة سندات اليوروبوندز. فإذا وظّفت المصارف الأموال لدى مصرف لبنان على ثلاث سنوات، فهي تحصل على فائدة سندات اليوروبوندز المصدرة لثلاث سنوات، وإذا قرّرت أن توظّف الأموال لفترة زمنية أبعد، أي لمدة عشر سنوات، على سبيل المثال، فهي تحصل على فائدة العشر سنوات.
في الواقع، إن تشابه أسعار الفائدة على سندات اليوروبوندز بين الفترات الزمنية القصيرة الأجل وبين الفترات الزمنية المتوسطة والطويلة، دفع المصارف إلى دراسة جدوى أظهرت أن من الأجدى توظيف الأموال لمدّة ثلاث سنوات والاستفادة من عائد عليها يوازي تقريباً العائد على الفترات التي تصل إلى 10 سنوات. وهذا الأمر فيه إغراء أكبر للمودعين وفيه أيضاً إغراء للمصارف التي لديها أموال مودعة في الخارج.
على هذا الأساس باتت الهندسات الموسعة على الشكل الآتي:
– يستقبل مصرف لبنان ودائع من المصارف بالدولار، سواء أودعتها لديه أو اشترت منه أدوات مالية بالدولار، على أن تكون الفائدة التي يدفعها على هذه الأموال موازية لفائدة سندات اليوروبوندز وفق آجال الاستحقاق (فائدة السنة، أو فائدة الثلاث سنوات، أو فائدة العشر سنوات…). وفي المقابل، يمنحها مصرف لبنان قروضاً بالليرة اللبنانية بما يوازي 125٪ من قيمة المبالغ أو السندات وتكون فائدتها 2٪، ثم توظّف المصارف هذه الاموال لدى مصرف لبنان بنفس الفترة الزمنية لاستحقاقات هذه المبالغ وبفائدة تصل إلى 12٪.
عملياً، إن الفائدة التي ستحصل عليها المصارف من توظيف الأموال لدى مصرف لبنان بالدولار ستتراوح بين 10٪ و11٪ على ثلاث سنوات بدلاً من أن تكون 9٪ على عشر سنوات. وبالتالي سيدفع مصرف لبنان ما بين 19٪ و22٪ فوائد للمصارف.
وتشير المصادر، إلى أنه إذا قرّر أحد المصارف أن يتوسّع هو الآخر في هذه العمليات، فبإمكانه أن يوظّف الأموال التي يحصّلها من الزبائن على ثلاث سنوات، على فترات زمنية أطول لدى مصرف لبنان مقابل الحصول على فوائد أعلى، ما يتيح له الحصول على توسيع ميزانيته ورأسماله بشكل كبير يعوّض له الفرق الزمني بين توظيفاته وودائعه، إلا أن هذا الأمر له محاذيره وقد يرفع مستوى المخاطر على المصارف التي تعاني من سيولة متدنية نسبياً.
يأتي هذا الأمر بالتزامن مع صدور بيان عن البعثة الرابعة لصندوق النقد الدولي التي درست أوضاع لبنان المالية والنقدية والاقتصادية، وخلصت إلى التحذير من ارتفاع كبير في سعر الصرف الفعلي الحقيقي. وانتقدت البعثة كلفة الهندسات على ميزانية مصرف لبنان وارتفاع أسعار الفائدة والانكشاف على الدين الحكومي، معللة الأمر بأن مصرف لبنان يجذب الدولارات من خلال تقديم عوائد مرتفعة، ما سمح للمصارف بأن ترفع معدلات الفائدة للمودعين ولتغطية أرباحها أيضاً، وفي المحصلة باتت السندات الحكومية تمثّل 14% من أصول القطاع المصرفي، والودائع لدى مصرف لبنان تمثّل 55% من هذه الأصول، فضلاً عن انكشاف كامل على الدَّين السيادي بنسبة 68.5% من الأصول، أي أكثر 8 مرات من الأموال الخاصة للمصارف، ما يعني، بحسب الوزير السابق شربل نحاس، «أن تخلّف الدولة عن السداد أو انخفاض قيمة الدَّيْن العام أو تعثّر البنك المركزي ستؤدّي إلى خسارة المودعين لمدّخراتهم بعد خسارة المصارف لكلّ رساميلها». وختم الصندوق بيانه بالطلب من مصرف لبنان ”التراجع تدريجياً عن العمليات شبه المالية (الهندسات)، وأن يعزّز ميزانيته العمومية، وأن يتراجع عن شراء السندات الحكومية».