كتب علي الأمين في صحيفة العرب اللندنية :
في النظام السياسي اللبناني ثمة حقيقة تاريخية مفادها أن الثنائية المسيحية الدرزية هي النواة الأولى المؤسسة لدولة لبنان الكبير عام 1920، فنظام المتصرفية الذي قام في جبل لبنان عام 1860 كان يرتكز على هذه الثنائية التي تطورت بعد ستين عاما إلى دولة لبنان مع بدء الانتداب الفرنسي، الذي ضم إلى جبل لبنان مناطق جديدة، هي البقاع والشمال والجنوب فضلا عن بيروت، وهي مناطق كان المسلمون، سنة وشيعة، يشكلون غالبية السكان فيها.
منذ قيام الدولة، ظلّ لبنان محكوما بخصوصية شكلت أساس النظام وعنصر قوته، وهي الخصوصية الطائفية التي جرى تغليفها، أو محاولة الخروج منها، بمفهوم العيش المشترك، كمدخل لدولة المواطنة، وسبيلا للخروج من الصيغة الطائفية للحكم نحو إلغائها، ذلك أن الطائفية في الدستور اللبناني هي مادة أُدرجت تحت عنوان المؤقت في دستور 1926 ودستور الاستقلال عام 1946، لكنها ظلت حتى يومنا هذا الثابت الأقوى في الممارسة السياسية.
جاء اتفاق الطائف عام 1989 بعد الحرب، ليعيد التوازن بين المكونات الطائفية، من دون أن يغيب عن بال النواب اللبنانيين الذين اتفقوا على بنوده في ذلك الحين، أن يضعوا مسارا للخروج من هذا النظام يصل بهم إلى التخلص من الطائفية، التي بقيت في ذهن ممارسيها ومتبنيها علّة يجب التخلص منها لكنها بقيت علّة وجود ومنهج سلوك، ومصدر سلطة ونفوذ من داخل لبنان ومن خارجه.
ورغم الحروب التي مرّ بها لبنان ولا يزال، سواء الأهلية منها أو الخارجية، بقيت صيغة النظام الطائفي هي الراسخة، بل تعززت وتجذرت، وهي وإن كانت وسيلة لإضعاف الدولة لحساب “مافيا الطوائف” ولا نقول الطوائف، فإنها وفرت بسبب التنوع في مكونات السلطة هامشا من الحريات والديمقراطية، أتاح لأن يكون لبنان متميزًا في هذا الجانب عن بقية دول المحيط العربي، ووفر هذا الهامش من الديمقراطية دولة غير قابلة للإمساك والسيطرة. قامت إسرائيل باحتلاله، ولكنها لم تستطع السيطرة عليه وخرجت منه مرغمة، وكذا فعل النظام السوري طيلة ثلاثة عقود من الزمن لكنه ما لبث أن خرج جيشه من أراضيه كما لم يتوقع لبناني ولا تمناه.
لم يكن الاحتلال الإسرائيلي ولا الوصاية السورية، يسيطران من خارج آليات النظام الطائفي، بل كان دخولهما إلى لبنان من باب الاختلال الطائفي والنفاذ من خلاله إلى الداخل، وهو ذاته ما كان ينقلب عليهما في لحظة تماسك لبناني للدفاع عن الخصوصية اللبنانية التي كان التدخل الخارجي يسقط حين يفقد القدرة على التقاط مفاصلها أو فهم شروطها وديمومتها.
ما تقدم كان لا بد منه لمقاربة الواقع اللبناني اليوم. نحن إزاء سيطرة حزب الله على لبنان، وهي سيطرة أشبه بالوصاية السورية على لبنان، وهي سيطرة إقليمية تفرض قوتها بالسلاح. صحيح أنها تعتمد على قاعدة طائفية شيعية وهي مكون من مكونات لبنان، لكنها مختلفة عن النماذج الميليشياوية التي أنتجتها الطوائف اللبنانية خلال الحرب، فسلاح حزب الله ليس سلاحا لبنانيا، أي ليس سلاحا في لعبة التوازن بين الطوائف اللبنانية، بل هو سلاح إقليمي وظيفته إقليمية تتجاوز مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وكان تدخله في سوريا عام 2013 كشفا لهذه الوظيفة التي ترتبط بمصالح إيران في المنطقة.
هو كذلك سلاح إقليمي يديره جهاز أمني عسكري وأيديولوجي، وبهذا المعنى فإن حزب الله لا يكتسب نفوذه وقوته من بعد داخلي بقدر ما هو نتاج معادلة إقليمية، أبرز معالمها غياب شبه كامل للنظام الإقليمي العربي، ونفوذ إيراني أمني وعسكري بالدرجة الأولى.
السيطرة والنفوذ الإيرانيان على لبنان يستندان، إلى جانب قوة حزب الله الأمنية والعسكرية، إلى شبكة تحالفات سياسية أمكن للحزب صوغها انطلاقا من السيطرة على مفاصل الدولة، تمت له بالقوة الأمنية والعسكرية، وأتاحت له لاحقا أن يطوّع الانتخابات ونتائجها لصالحه، لكن كل ذلك ما كان ليتم لولا الفراغ الذي أحدثه انكفاء عربي إقليمي أمام التمدد الإيراني.
ولكن سطوة حزب الله في لبنان، لا تلغي أن لبنان بلد صعب التطويع وقابل للانقلاب في أي لحظة على أي سلطة تحاول تهميشه أو مصادرته.
لعل استهداف وليد جنبلاط، من خلال كسر مرجعيته الدرزية، يعبر عن محاولة حزب الله إعادة صوغ المعادلة السياسية في لبنان على أساس يزيد من ضعف جنبلاط، بكسر قواعد اللعبة السابقة وإرساء قواعد جديدة، وهو مسار بدأ منذ 7 مايو 2008 يوم دخل حزب الله بيروت وحاول اقتحام الجبل، وفرض على جنبلاط الخروج أو الانكفاء عن قوى 14 آذار وكان “اتفاق الدوحة” عام 2008 بداية ترجمة غلبة السلاح الإقليمي لحزب الله في المعادلة الداخلية، وتطور هذا الاتجاه في مراحل لاحقة ومع انكفاء الثورة السورية، إلى دفع جنبلاط نحو الانكفاء باتجاه طائفته، وحصر نفوذه الذي كان تجاوز -ولاسيما بعد عام 2005- البعد الدرزي ليتحول إلى القائد الفعلي لقوى 14 آذار.
تراجع جنبلاط وانكفاؤه مرغما أو طوعيا، لم يحصناه من السعي الدؤوب لحصاره وتحجيمه، والمزيد من إضعافه، فصارت منطقة الشوف وعالية عرين الزعيم الدرزي، مسرحا لاختراقات سياسية وأمنية، سواء عبر شخصيات هامشية جرى الدفع بها لإحراجه وإخراجه، كالوزير السابق وئام وهاب، أو عبر الوزير السابق طلال أرسلان الذي يبقى في موقع غير مؤثر لكنه يوفر غطاء مهما لخصوم جنبلاط.
الجديد في محاولة حزب الله محاصرة جنبلاط، هو إعادة العبث بمصالحة الجبل بين الدروز والمسيحيين، ومن خلال إثارة زوبعة من الخلافات في الجبل بين حلفاء حزب الله من جهة ووليد جنبلاط من جهة ثانية. فالخناق الذي ضاق على جنبلاط هذه المرة ربما هو الذي دفعه إلى إعلان ما يشبه الانتفاضة، فهو أدرك أن قرار تهميشه صدر وجار تنفيذه.
وإن كان المنفذون من دائرته الدرزية أو من التيار الوطني الحر، فقد بدأ جنبلاط يخوض معركة وجودية تطال بظنه، منع تغيير قواعد النظام التي رست بعد الطائف. كان جنبلاط أكبر من كونه زعيم الدروز، لذا كان وجوده في السلطة يتجاوز التمثيل الدرزي، هو اليوم أمام خطر انتقاله إلى مجرد مكون في طائفة درزية، لذا يذهب في المواجهة إلى الأقصى بعدما أدرك أن وجوده السياسي صار على المحك، في ظل تحول يستشعر زعيم المختارة أكثر من غيره، أن لبنان الذي قام على ثنائية درزية- مسيحية مؤسسة، هو اليوم أمام مفترق طرق فإمّا التسليم بقواعد السيطرة الإيرانية وأدواتها، أو إعادة استنهاض الدولة اللبنانية من براثن الوصاية، وهذا بالضرورة يفرض خروجا من الدائرة الدرزية إلى دائرة وطنية سيادية، شغرت منذ أن انكفأ جنبلاط وقرر الانحناء أمام العاصفة التي لا زالت تعصف بوجوده وبلبنان.
قالها وليد جنبلاط مرة قبل أكثر من عقد لكاتب هذه السطور إنه ينتظر على ضفة النهر جثة عدوه.. هذه المرة جنبلاط يسابق الانتظار كما لم يفعل من قبل.