Site icon IMLebanon

جنبلاط: أنا الضحيّة والجلاد أنا!

كتب فراس الشوفي في صحيفة “الاخبار”:

قبل حادثة قبرشمون المشؤومة، كان النائب السابق وليد جنبلاط عاطلاً من العمل. سبقها بأيام، مجاهرته بِسَأَمِه من وظيفته الافتراضية مغرِّداً لَمَّاحاً على «تويتر». تلك «البطالة»، لا يُقصد بها عمله اليومي المعتاد منذ سنوات، بتأمل أزمة توريث النائب تيمور جنبلاط والصمود في وجه التآكل الذي يصيب توازنات ما بعد الطائف. بل أتى ذكرها هنا، في معرض استخلاص الناتج الطبيعي لدور جنبلاط زعيماً للدروز اللبنانيين، مع صمود سوريا ورئيسها بشّار الأسد، الذي أخطأ رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي بربط مستقبل زعامته بهزيمته (الأسد) وسقوط الدولة السورية، واضعاً الجزء الأكبر من الدروز اللبنانيين على ضفة العداء لسوريا.

ليس اختراعاً وقوعُ الدروز (منذ 1970 على الأقل)، القاطنين فوق حدود سايكس ــ بيكو، في مثلّث جبل لبنان – جبل الشيخ – جبل العرب، بين تجاذبين: الأوّل، تقوده سوريا، بوصفها الحاضنة الطبيعية والرافعة لدور الموحدين الدروز السياسي في الإقليم (الذي حقّق سابقاً انتصاراً لجنبلاط في حرب الجبل ثم تعويماً بعد الحرب) كجزء من نسيج متجانس سوري – لبناني – فلسطيني – أردني. أما الثاني، فتقوده إسرائيل، التي كانت ولا تزال، على الرغم من التحوّلات العربية والخليجية تجاهها، تطمح إلى قيادة تحالف أقليّات، أبرز مكوّناته الدروز. وأوضح تجليّات هذا الطموح أخيراً، كان ظهور شيخ عقل الدروز في فلسطين موفّق طريف، متحّدثاً وحيداً غير يهودي، في احتفال الذكرى السبعين لإعلان «دولة إسرائيل». في مرحلة ما بعد 2005، حاول جنبلاط البحث عن ملاذ ثالث للدروز اللبنانيين، عند السعودية. ثم لاحقاً، خلال الحرب السورية، اعتقد أنّ هذا الملاذ قد يتّسع ليضمّ دروز السويداء وجبل الشيخ.

«مسكين» وليد جنبلاط. لم تترك له «جبهة النصرة» ولا «داعش» هامشاً للمناورة. بالتكفير والدم المُراق في قلب لوزة (إدلب)، تمسّك الدروز السوريون أكثر فأكثر بملاذهم الوحيد، الدولة السورية. مسكين جنبلاط لأسباب عديدة، ترتبط أساساً بالتوريث ولا تنتهي عند أزمة الشركات والمؤسسات المالية، لكنه ليس خَجِلاً. بل هو يتعمّد منذ مدّة، على الأقل منذ الانتخابات الرئاسية في لبنان، تظهير نفسه ضحيّةً وحيدة في الجمهورية اللبنانية وأمام الشارع الدرزي، لما يسمّيه «حرب آل الأسد» عليه (الرئيس بشار الأسد وشقيقه اللواء في الفرقة الرابعة السورية ماهر الأسد). وأدوات هذه الحرب متعدّدة بحسب الدعاية «الغوبلزية» للاشتراكيين: الأخصام الدروز النائب طلال أرسلان والوزير السابق وئام وهّاب، والمارونية السياسية «المتجددة» بقيادة وزير الخارجية جبران باسيل، وأخيراً، آل فتّوش في عين دارة، ومن خلفهم حزب الله.

و«المظلومية» الجنبلاطية، تجد ما يغذّيها طبعاً، أمام المحازبين على الأقل. ومَن أبرع من باسيل في إيقاظ العصبيّات، على صخب العصبية التي يبني سياقها بعناية في الشارع المسيحي؟

خلال العامين الماضيين، زوّد باسيل جنبلاط بكلّ ما يحتاجه من الخطابات والتصريحات لإقناع الدروز الجنبلاطيين بأن ساعة 1860 تدقّ الآن، وأن عسكر ميشال عون يتأهّب في سوق الغرب. تصريح واحد عن تكسير «رأس جنبلاط العتيق» في الدامور عشية الانتخابات النيابية، رفد ماكينة الحزب الاشتراكي بمئات الأصوات الإضافية.

على هذا الأساس يتصرف وليد جنبلاط. يراكم أمام محازبيه وجزءاً كبيراً من طائفته شعوراً بحرب وجودية وشيكة تقودها سوريا وينفذها باسيل ضده، وأمام السفارات الغربية وممثّليها في بيروت.

لكنّه في ذات الوقت، ليس مسكيناً تماماً. منذ أشهر، والمعلومات عن توزيع الاشتراكيين السّلاح في الشوف وعاليه، تتوالى. وتوزيع السلاح ليس عشوائياً، بل من ضمن إطار تنظيمي وضمن الوحدات الإدارية للحزب الاشتراكي، في خطة لإعادة تعويم «الجيش الشعبي» لكن في إطار «دفاع مدني»، بذريعة أن باسيل شرع هو الآخر في بناء جسم عسكري للتيار الوطني الحر. والأنباء لا تخفى أيضاً عن عمليات التدريب ورمايات الأسلحة التي يقوم بها الاشتراكيون، من المتن الأعلى إلى أودية عرمون وبتلون وعين زحلتا.

أن تكون ضعيفاً داخل طائفة أقليّة كالدروز، يعني أن ينفضّ من حولك المحازبون، وأن يبحثوا عن الأقوى. وتلك لعبة يعرفها آل جنبلاط جيّداً منذ 300 عام. أن تكون ضحيّة لعدو خارجي، فذلك عامل قوّة، لكن في داخل الطائفة، لا ينفع أن تكون ضحيّة، عليك أن تكون جلّاداً، ولو سقط دمٌ عزيز في قبرشمون.

هل لا يزال جنبلاط عاطلاً من العمل/ الدور؟ هو في طور البحث عنه، وسط كلّ هذا الرّكام. أمام الغرب، ظهر جنبلاط مستعداً لمواجهة حزب الله وحلفائه، مع أن الحزب منذ ما بعد 11 أيار 2008، ينتشله دائماً من سقطاته. وأمام الداخل اللبناني، لوّح بورقتين: استعداده للوقوف بوجه قطار باسيل الرئاسي، محرجاً الآخرين من بقايا 14 آذار للاصطفاف خلفه، واستعداده أيضاً لإعلان «الحرب عليّ وعلى أعدائي» من الإعلام إلى الأمن، وصولاً إلى الفوضى، ما لم يراعِ باسيل، وما يمثّل، مصالح زعامته جنوبي خط الشام.

يدرك جنبلاط أن والده الراحل كمال جنبلاط لم يسبق الراحل مجيد أرسلان بكسب قلوب الدروز، بل بتحالفه مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر. الآن الآية مقلوبة، أرسلان مع سوريا والأسد ناصر اليوم، فيما يقف جنبلاط على مقلب «حلف بغداد» هذا الزمن. فهل يستنجد رئيس الاشتراكي بروسيا بدل الخيارات المجنونة للعودة إلى الضفة الطبيعية؟ ربّما ما زال العرض الروسي قائماً لإنزاله عن شجرة الأزمة السورية، وفتح طريق دمشق أمام تيمور جنبلاط.