Site icon IMLebanon

بين تمّوز الـ2006 وتمّوز الـ2019 مخاوف الضاحية ازدادت

كتبت مريم سيف الدين في صحيفة “نداء الوطن”: 

لم تعد الضاحية الجنوبية هي نفسها الضاحية التي واجهت حرب تموز.
تفاقمت فيها الأزمة المعيشية ومشكلة البطالة ومظاهر الفلتان الأمني، ولم تأت الحرب السورية بنشوة انتصار تموز نفسها. أما الإكتظاظ السكاني فيدفعها للتمدّد شرقاً، وهو توسّع يعكف “حزب الله” و”التيار الوطني الحر” على ترسيم حدوده.

ذاكرة المكان… ورموزه

لكل منطقة من الضاحية رمزية ترتبط بحدث. فساحل الأوزاعي يذكر بتدمير البارجة الإسرائيلية، إذ قيل إن الصاروخين أطلقا من تلك المنطقة. أما المربع الأمني في حارة حريك فلم يحيه الحزب بعد تدميره في الحرب. ومنطقة الرويس التي يقع فيها مجمع سيد الشهداء، بشاشته الكبرى التي يطلّ منها السيد حسن نصرالله، حدّت الحرب من تحركاتها. وروضة الشهيدين، أكبر مقبرة في الضاحية، يرقد فيها أبرز قادة الحزب، معظمهم قضى خلال أعوام الحرب السورية، عمل “الحزب” على ترتيب هذه المقبرة وتحويلها إلى مزار، وبات توجه الوفود الإيرانية إلى هذه المقبرة تقليداً.

لطريق المطار أيضاً رمزيته، مثلما أن وجود المطار المدني الوحيد في لبنان ضمن نطاق الضاحية أعطى الحزب ورقة قوة تضاف إلى سلاحه، ولم يتردّد في استخدام هذه الورقة في الداخل اللبناني، في 7 أيار 2008. ويعدّ أوتوستراد هادي نصرالله طريقاً أساسياً يربط معظم مناطق الضاحية، وقد شهد ازدهاراً اقتصادياً وافتتحت فيه المحال التجارية والمقاهي، لكن المطاعم كانت الاستثمار الأنجح. لبرج البراجنة أيضاً رمزيتها، ففي البرج مستشفى الرسول الأعظم الذي اعتاد استقبال ومعالجة جرحى “الحزب”، الذي توسعت مشاريعه الطبية، فبنى قرب المستشفى المزيد من المنشآت الطبية.

قبل الحرب كانت الضاحية مجموعة من القرى المختلطة طائفياً، العامرة ببساتين الحمضيات وأشجار الصنوبر. تنامت سكانياً بشكل متسارع نتيجة الهجرات الداخلية المتتابعة، بفعل الإحتلال الإسرائيلي في الجنوب، والفقر في البقاع، والإقتتال الداخلي في عدد من المناطق. اليوم يطغى الإسمنت المتلاصق والبناء العشوائي على المنطقة.

قدّر إحصاء أجرته إدارة الإحصاء المركزي في العام 2007 نسبة السكان الجنوبيين في الضاحية بنحو النصف فيما اعتبر ان نحو ربع سكانها هم من البقاع. شهدت الضاحية بعد انتهاء الحرب الأهلية ثورتين عمرانيتين عشوائيتين. أولاهما بعد حرب تموز 2006، فالحرب والدمار شكلا مناسبة لبعض المدخرين لاستثمار أموالهم في ازدياد أملاكهم وإن بطريقة غير شرعية، وما دمر شيد أضعافه. ثانيهما 7 أيار 2008 حيث شكل هذا التاريخ فرصة لاستكمال أعمال البناء العشوائية. فازداد ارتفاع المباني وازداد خطرها على السلامة العامة، وجرى استثمار بعضها. فشكلت الفوضى ضغطاً كبيراً على المنطقة المكتظة أصلاً وعلى بناها التحتية وسببت زحمة خانقة. وحتى الأبنية الشرعية التي شيدت لم ترحم الضاحية، حيث استبدل العديد من المنازل القديمة المحاطة بالحدائق بمبان عالية.

وأتت الأزمة السورية التي دفعت بالنازحين للسكن في الضواحي، لتزيد من الكثافة السكانية، تزامناً مع انتشار الحواجز الإسمنتية عند مداخل الضاحية التي طاولتها التفجيرات الانتحارية. ولا تزال معظم الحواجز صامدة في أماكنها مذكرة دوماً بوجود خطر ما وإن لم يحدد شكله. والمفارقة أن أياً من أعمال البناء المستمرة منذ انتهاء الحرب لم تلحظ بناء ملاجئ تحمي الناس من حرب جديدة يلوَّح بها أول كل صيف. بل المزيد من الأبنية المهددة بالانهيار فوق رؤوس ساكنيها، دونما حاجة إلى حرب. وكثافة السكان واحتكاكهم في ما بينهم زاد من الإشكالات اليومية التي تنتهي عادة بإطلاق الرصاص.

وعلى الرغم من هذه المشاكل إلا أن الضاحية تمكنت من الامتداد إقليمياً. فهذه المنطقة الصغيرة من لبنان باتت تلعب دوراً مهماً في صراعات المنطقة من سوريا مروراً بالعراق حتى اليمن، وإن عجزت عن حسمها دوماً. وكان لحرب تموز دور في هذا الصراع قبل بدئه. فصورة المنتصر التي خرج بها “الحزب” عند انتهاء الحرب في 14 آب جعلته ينجح في تعبئة الشباب المنتشي بالنصر والباحث عن دور فيه. وكما سخت الحرب على الضاحية بالموت والدمار، سخت أيضاً بالمال الآتي من المتعاطفين. مال لا يعوض بالتأكيد الخسارة بالأرواح لكنه ساهم بطبع الملامح الجديدة للمنطقة. وساهم أكثر في تجنيد المزيد من الشباب في صفوف الحزب، ما مكنه من إرسال مقاتلين إلى سوريا من دون إهمال الجبهة اللبنانية الداخلية والخارجية.

خطاب النصر بهت وطافت الشعارات

لكن القوة التي يتم استعراضها بإفراط في الخارج تفشل في إخفاء مشاكل الداخل، وعلى الرغم من محاولة اشاحة النظر عنها عبر التلويح بمخاطر خارجية غير أنها تتفجر بين حين وأخرى. فما إن خف صخب الحرب السورية حتى علت صرخة الناس من الوضع الإقتصادي. ففي مقابل موجة الترف التي تلت حرب تموز، باتت الشكوى من الأعباء الاقتصادية هي الابرز اليوم، حتى بادر بعض سكان الضاحية يتساءل عن قيمة الإنتصارات إن لم يتمكن من العيش بكرامة.

لم يعد إذاً، خطاب النصر هو المهيمن، ولم تعد الأولوية الآن لقتال إسرائيل، وإن كان سكان الضاحية مستعدين لها دوماً، بل بدأوا يطالبون بالعيش الكريم، فهناك خطر أكبر من إسرائيل بات يخيفهم. ففي منطقتهم تزدهر تجارة المخدرات بين الأحياء، وتفرض الخوات على المحال التجارية، وتسود الفوضى ومنطق القوة، وأي خلاف بسيط قد ينتهي بضحايا. البطالة تكاد تخنق الشباب، بينما لم يعد “الحزب” قادراً على استيعابهم في جسمه كما فعل بعد حرب تموز، فهو أيضاً يعاني من صعوبات مالية تشكل تحدياً له. وقد برزت في منطقته صراعات قد تنفجر بوجهه. فاليوم يكبر الصراع بين المتضررين من الممارسات التي ذكرت وبين مرتكبيها.

وإن أيّد الجميع “حزب الله” فهم يطالبونه أيضاً بأن يكون حكماً، في حين يتجنب ذلك خوفاً من صدام ما داخل بيئته. وإن كان تلويح “الحزب” المستمر لناسه بمخاطر خارجية تتهددهم يجعلهم يعضون على جراحهم، غير أن الصرخة ترتفع كلما انخفض التلويح بالخطر، ليعود “الحزب” ويلوح بالمخاطر مجدداً، في ضاحية انقسمت طبقياً، وظهرت فيها أحياء برجوازية تلاصق أحياءها العشوائية. بينما فضّل بعض الأغنياء البقاء في الأحياء العشوائية والاستثمار في الفقر لتحقيق الثروات.

وقد حاول “الحزب” من خلال اتحاد بلديات الضاحية الذي أطلق مشروع “ضاحيتي أجمل”، إظهار بعض الإنجازات للتخلص من عتب ومساءلة الناس، لكن البلديات لم تتمكن من قمع المخالفات. فالمخالفون يدركون اللعبة جيداً ويبتزون “الحزب” بولائهم السياسي له الى حد التعبير عن استعدادهم لعدائه في حال مسّه بمصالحهم. فيما يتعاطى “حزب الله” مع هذه المشاكل وكأنه يراهن على ظهور المهدي قبل إنفجارها، بل ويعترف بعجزه عن مواجهتها مقابل تبجحه بقدرته على هزم إسرائيل وأميركا.

لقمان سليم

يرى الكاتب لقمان سليم أن الضاحية اليوم في حيرة من أمرها. لا تعرف إن كانت عاصمة قرار سياسي، أمني وعسكري أم لا تزال ضاحية، ويشير إلى نجاح “حزب الله” في العام 2006 بتحويل مصطلح ضاحية إلى مصطلح سياسي، ويشرح: “إذا راقبنا حجم الدمار نجد أنه تركز في بعض أحياء الضاحية وانحصر عملياً في حارة حريك، لكن الحزب تمكن من بيع فكرة أن الضاحية بأكملها استهدفت، ومنحها الهوية المنتصرة”.

ويلفت الإنتباه إلى أن الحزب نجح عسكرياً في سوريا لكنه أخفق سياسياً وأيديولوجياً، فهو “نفّذ ما طُلب منه من دون أن يجد له مكاناً على طاولة المفاوضات”. ويرى سليم أن الناس تعاطفت مع الحزب في لحظات الخوف والموت، لكن بات لديها صعوبة في فهم كيف انتصر المحور، ويزيد اضطرار الحزب لمراعاة التوازنات اللبنانية، حفاظاً على صورته، “فالحرب مزيج من المرارة والانتصارية ومن الأسهل إدارة ما خلفته من مرارة، من إدارة انتصارية غير قادرين على المفاخرة بها”.

ويشير سليم إلى أنه جرى تثبيت ضاحية ثرية ووسطى وضاحية يستثمر الحزب في بؤسها. “هناك اليوم ضاحيتان الضاحية الفوقا منطقة بئر حسن والماريوت، والضاحية التحتا حيث يسيطر البؤس فيشعر الناس بحاجة لمن يحميهم”. ويشكك سليم بأن تكون جميع الاستثمارات التي ظهرت في الضاحية قد نشأت لأهداف تجارية، في إشارة إلى استخدامها لتبييض الأموال ونقلها. فهو لا يتوقع مع ذلك “انفجاراً كبيراً هوليوودياً” للوضع الإجتماعي في الضاحية، بل “انفجارات صغيرة” يومية بوجه الحزب الذي يحاول أن ينأى بنفسه عن الشأن الاجتماعي ويتركه للبلديات.