IMLebanon

إشكالية العلاقة بين القضايا المطلبية والإصلاح الأكاديمي في “اللبنانية”

كتب الدكتور نزيه الخياط في صحيفة “اللواء”:   

مرّت الجامعة اللبنانية هيكلياً منذ تأسيسها وحتى تاريخه بعدة مراحل:

المرحلة الاولى: منذ عام ١٩٥١ تاريخ التأسيس وحتى عام 1975 مع بداية الحرب الأهلية وكانت حينها جميع كليات الجامعة موحدة في نطاق جغرافي واحد.

المرحلة الثانية: ما بين الحرب الأهلية والمرحلة التي أعقبتها حتى إعلان اتفاق الطائف عام ١٩٨٩، أنشئت خلالها الفروع الثانية لكليات الجامعة في المنطقة التي كانت تعرف حينها بالمنطقة الشرقية، فرضها الواقع السياسي والامني وتلبية لحاجات الطلاب الاكاديمية فيها مما أسقط عملياً شعار المطالبة بإعادة توحيد الكليات.

المرحلة الثالثة: بعد وضع إتفاق الطائف موضع التنفيذ وتحوله الى دستور الذي أكد على ضرورة العمل على تحقيق الانماء المتوازن بين جميع المناطق وتعزيز اللامركزية الادارية الواسعة، وبناءً عليه، أقرت جميع القوى التي كانت متواجدة في المنطقة التي كانت تعرف بالغربية تباعاً، بجدوى إنشاء الفروع وبأهميتها على المستوى الإنمائي الأمر الذي دفع بحكومات الرئيس الشهيد رفيق الحريري إلى إتخاذ قرارات مهمة على هذا الصعيد قضى بإنشاء مجمعات جامعية في المحافظات بدءاً من مجمع رفيق الحريري الجامعي الذي أنجز، وفي الفنار الذي أنجز منه جزئياً، وفي الشمال الذي أنجز هذا العام، أما في البقاع والجنوب فلم تنفذ أية مرحلة منهماوبقيت العاصمة بيروت المحافظة الوحيدة التي استثنيت من إنشاء مجمع جامعي يضم الكليات القائمة في نطاق بيروت الادارية، الأمر الذي يتنافى مع ما هو بديهياً وقائماً في هذا الشأن في غالبة عواصم دول العالم.

المرحلة الرابعة: هي مرحلة إنشاء شعب لكليات في الأقضية والتي يمكن وصفها بالقرارات الكارثية بحق الجامعة لأنها جسدت ذروة التخلف في الرؤى وقمة التدخلات السياسية السافرة في شؤونها بعيداً عن التخطيط وغياب الجدوى من استحداثهامما زاد الأعباء المادية خدمة للزبائنية السياسية الامر الذي انعكس تعطيلاً لوتيرة انشاء المجمعات الجامعية المقررة في المحافظات.

إن هذه التحولات الهيكلية التي حصلت على صعيد الانتشار الأفقي لفروع الجامعة لم تكن مرتكزاتها قائمة على إصلاحات بنيوية ولم تكن نتيجة تخطيط مسبق يرتكز على مخطط توجيهي أكاديمي عام واضح المعالم والأهداف، إنما كانت نتيجة ضرورات اللحظة التي فرضتها حاجات الواقع الذي كان سائداً قسرياً أكاديمياً واجتماعياً وسياسياً وهي ما زالت سائدة وفرضت نفسها تباعاً على كافة المحافظات، وهي أتت مترافقة بذلك مع إعادة انطلاق الحركة النقابية وتشكيل رابطة الأساتذة المتفرغين الموحدة في الجامعة اللبنانية عام 1992 حيث كان أولى مطالبها إعادة الاعتبار إلى موقع الأستاذ الجامعي مادياً نتيجة انهيار الأوضاع الاقتصادية والتدني الكبير في القيمة الشرائية مما حدا بالرئيس الشهيد رفيق الحريري إلى تبني وإقرار سلسلة رواتب جديدة لأساتذة الجامعة اللبنانية عام 1996.

 

أولاً – الجامعة اللبنانية في ظل التدخلات السياسية.

انطلاقاً مما تقدّم فإن إشكالية العلاقة بين القضايا المطلبية ذات الطابع المادي وضرورات الاصلاح الاكاديمي والبنيوي كانت وما زالت عالقة، ولم يكن بالامكان إيجاد حل لها حتى تاريخه لأن الانقسام والنفاق السياسي والطائفي والمذهبي الذي تعمّق مجتمعياً في السنوات الاخيرة زاد من أزمة الجامعة اللبنانية، إضافة الى القصور في الرؤى عند القيمين عليها وإحجامهم عن التحرر ولو نسبياً من ضغوط مراكز القوى السياسيّة التي أوكلت اليهم هذه المسؤوليّة يضاف الى ذلك قصورهم على مستوى الكفاءة والقدرات للتقدم بمشروع إصلاحي أكاديمي هيكلي وبنيوي حقيقي يتجاوز الحسابات الفئوية الضيقة يهدف لإعادة إنتاج هيكلة جديدة للجامعة وفق بنية أكاديمية، إدارية متطورة ومناهج تحاكي العصر والثورة التكنولوجية وتلبي الحاجات العلمية والمعرفية ومتطلبات سوق العمل المحلي والخارجي.

بيد أن أخطر ما يواجه مصير الجامعة راهناً هو الخضوع للمطالب السياسية الشعبوية التي أضرت بصورة الجامعة في الداخل والخارج خاصة بالنسبة لموقعها في حاجات سوق العمل والتي أتت أيضاً على حساب عملية تجميع وتموضع الفروع والوحدات الجامعية القائمة في المحافظات في نطاق مجمعات جامعية لائقة إنشائياً وخاضعة لمعايير معتمدة دولياً تليق بأهل الجامعة من أساتذة وطلاب وإداريين.

إن أبرز هذه المخاطر تمثّل في السنوات الماضية كما سبق وأشرنا بقرارات إنشاء شعب غير مستوفية الحد الأدنى للشروط الاكاديمية تابعة لفروع كليات على مستوى القضاء، وهذا ساهم بواقع الحال الى تفتيت الجامعة وتجزئتها من خلال الاستغلال السيىء لشعار الانماء المتوازن بطريقة مشوهة والى استنزاف موازنتها العامة التي هي منذ سنوات تقشفيّة وأقل من الحد الادنى المطلوب للقيام بدورها العلمي والبحثي على مختلف المستويات وأيضاً في توفير الاختصاصات المطلوبة لسوق العمل محلياً وخارجياً.

 

ثانياً – تساؤلات مشروعة حول إصلاحات ممنوعة.

إنّ عرض القضايا المطلبيّة المادية بتقاطعاتها الاكاديميّة مسألة حيوية لفهم الاشكاليّة الحاصلة وعليه نطرح التساؤلات الآتية:

1.كيف يمكن دفع مشاريع إنشاء مجمعات جامعية في المحافظات إلى حيز التنفيذ الكامل وقرارات التشعيب على مستوى الاقضية جارية على قدمٍ وساقمحاباة للمرجعيات السياسية إضافة الى عدم استنادها على قاعدة بيانات ودراسات تحدد الجدوى من انشائها وانعكاسها السلبي على إنجاز المجمعات الجامعية الموعودة في المحافظات؟

إذا كانت الاسباب الموجبة أكاديمياً لإنشاء هذه الشعب غائبة كلياً وهي محصورة عملياً بحجة سطحية وفق منطق أصحاب القرار بعامل المسافة الجغرافية وصعوبة انتقال الطلاب الى الفروعألم يكن من الاجدى تأمين وسائل نقل للطلاب من وإلى مراكز تجمع في الاقضية إلى الفروع القائمة بالتوازي مع العمل على تشجيع الاستثمار في انشاء مساكن خاصة للطلاب في النطاق الجغرافي للمجمعات الملحوظة في المحافظات بالتعاون مع البلديات أو اتحاداتها باعتبارها هي الإطار الاساسي للتنمية المحلية ؟

2.كيف يمكن النهوض بالجامعة ونحن حتى هذه اللحظة لم نتفق على أيّة جامعة نريد؟ ولماذا لا يكون الحل الجذري هو إنشاء خمس جامعات لبنانية متموضعة في المحافظات، مستقلة إدارياً ومالياً ومتكاملة فيما بينها أكاديمياً، يجمعها مجلس أمناء واحد يضم رؤسائها ويشارك فيه من يمثل هيئات اقتصادية وأصحاب فكر بصفة مستشارين، من أجل الدفع بملائمة التخصصات في كليات الجامعة مع حاجات وتوجهات سوق العمل المحلية والعربية مستقبلاً وعندها تصبح المنافسة الإيجابية فيما بين هذه الجامعات الخمس هي الأساس؟ أم نريد جامعات متخصصة موزعة على المحافظات؟ ولماذا التقاعس المقصود لجهة عدم تحديد ملاكات الكليات حتى تاريخه الذي وحده يضع حداً لسلوك التعاقد العشوائي لشعب وهمية وتدخلات سياسية ووضع حد لتحويل الجامعة الى ساحة للتوظيف السياسي غير الكفؤعلى الرغم من صدور قرارات واضحة من مجلس الوزراء في ربط اَي تفرغ جديد في تحديد الملاكات وآخرها كان عام ٢٠١٤ في هذا الشأن.

3.كيف يمكن تحقيق الأهداف التعليمية والمعرفية والعلمية والبحثية المرتجاة خاصة لجهة ملائمتها لسوق العمل بطريقة صحيحة، ومحاكاتها لاقتصاد واجتماع المعرفة من خلال التحضير لاعتماد المناهج الرقمية في ظل عدم احترام الإطار الناظم لها ممثلة بالأصول والأعراف الأكاديمية المتعارف عليها دوليا وكذلك الإخلال بالقوانين والمراسيم النافذة ذات الصِّلة والتي تحولت في كثير من الأحيان إلى وجهة نظر لا سيما القانون ٦٦ والمرسوم ٩٠٨٤ اللذان يحددان آليات العمل المنسقة بين مختلف وحدات الجامعة بوضعها الراهن أفقياً وعمودياًعلى المستويات الادارية والمالية والاكاديمية وكذلك آلية التعاقد مع الاساتذة وفق الحاجة الفعلية للكليات مضافاً اليها غياب آليات الانضباط الأكاديمي من خلال الحضور الإلزامي للطلاب والذي هو ضروري لتراكم التكوين العلمي والمعرفي لهم طوال سنوات الدراسة الاكاديمية؟

4.هل أن تشكيل لجان وإنشاء مكاتب متعددة ومتنوعة المهام تفتقد الى نظام داخلي رسمي خاص بها يتم بموجب قرار يصدر مركزيّاً عن رئيس الجامعة أو مجلسها من خارج هيكليتها العامة المعمول بها وفق القوانين النافذة حالياً وفي ظل استتباع عدد كبير من أعضاء مجلس الجامعة لمرجعيات شتى خارج الجامعة يعتبر عملاً مؤسساتياً وإصلاحاً بنيوياً لها؟ أم هو استسلام للتدخلات السياسية وهروب الى الإمام ما يزيد من أزمة الجامعة؟ وأين هي أجهزة الرقابة الاكاديمية الحيادية غير المنحازة وتقويم الأداء العام العادل لجميع العاملين في الجامعة بعيداً عن الكيدية السياسية أو الطائفية وحتى الشخصية بفعل التأثيرات السياسية او اتخاذ القرارات الاستنسابية في هذا الشأن غير المستندة الى معايير واحدة تطبق على الجميع؟ ولماذا يتم تعطيل إعداد قانون جديد للجامعة ولو مرحلي بحده الأدنى يُعيد التوزيع المتوازن لصلاحيات رئيسها شبه المطلقة وتوزع بشكل متوازن يسمح بتسيير وحداتها بعيدا عن المركزية المطلقة المعمول بها حالياً؟ ولماذا لا يتم مرحليا وانطلاقاً من الواقع الراهن في الجامعة إقرار قانون يقضي باستحداث نواب لرئيس الجامعة في المحافظات بصلاحيات ادارية ومالية كاملة يشرفون على الوحدات القائمة حالياً عملا باللامركزية الادارية الواسعة المنصوص عليها في الدستور ويكون هؤلاء النواب اعضاء حكميين في مجلس الجامعة وفق القوانين النافذة ريثما يتم تحديد الإجابة عن أية جامعة لبنانية نريد؟

5.لماذا تم التلكؤ في إصدار المراسيم او القرارات التنظيمية العائدة لمعاهد الدكتوراة في الجامعة التي اصبحت بغالبيتها خاضعة للتأثيرات السياسية سواء على مستوى تشكيل اللجان المقررة في قبول الطلاب ام على مستوى غياب المعايير الحقيقية الواضحة والمعلنة في قبولهم والحاجة الفعلية الى الاختصاصات المطلوبة على مستوى الدكتوراة؟ وأين هي برامج التدريب المتقدمة المستدامة التي تسمح لطلاب الدراسات العليا والدكتوراه بإعادة صقل مهاراتهم ومعارفهم وفق مقتضيات سوق العمل المحلي والخارجي؟ ولماذا لا يتخذ قرار بتجميد العمل في معاهد الدكتوراه مؤقتاً بموازاة إعادة العمل بمنح التخصص للمتفوقين في الجامعات الأجنبية المشهود لها في الاختصاصات المطلوبة ريثما يتم تنظيم دور وأهداف هذه المعاهد ووضع نظام داخلي خاص بها وتحديد آليات عملها وصلاحيات عمدائها وذلك من اجل تفادي تخريج عاطلين عن العمل من حملة الدكتوراة انطلاقاً من الواقع الراهن السائد!!

 

6.كيف يمكن حماية وصيانة الأمن الاجتماعي والصحي لاساتذة الجامعة من عاملين ومتقاعدين في ظل التوسع الفاضح وغير المبرر في التعاقد مع أساتذة جدد وتسكينهم في شعب وهمية في الكثير من الكليات حيث سيصبحون مشروع لتفرغ حتمي بسبب ثقافة الانتفاع الوظيفي السائدة التي حولت الجامعة الى مساحة للتوظيف السياسي والحزبي والطائفي والمذهبي بعيداً عن الدور العلمي والبحثي وعن الحاجات الحقيقية وعن الاعراف والقيم والأصول الاكاديمية المتعارف عليها دولياً، الامر الذي سيزيد من الأعباء الإضافية على صندوق التعاضد الذي يغطي بخدماته، بالإضافة الى الاساتذة، ذوي العهدة أيضا، بحيث بلغ عدد المستفيدين حالياً حوالي ١٢ ألف شخص في ظل موازنة ما زالت ثابتة منذ عام ٢٠١٣ الامر الذي سيصيب مستوى ونوعية تقديم الخدمات المختلفة فيه.

 

ثالثاً – العلاقة العكسية التبادلية بين الإصلاح في الجامعة ورفع مستوى خدمات صندوق التعاضد.

إنطلاقاً من ضرورة الحفاظ على الأمن الاجتماعي والصحي للأستاذ الجامعي ومن خلال إدراكي المسبق لأساس دور رئيس وأعضاء مجلس ادارة صندوق التعاضد الذي ترأسته من عام ٢٠١٤ ولغاية ٢٠١٧ والمحددة في رسم سياسة الصندوق ووضع المشاريع التي تصب في مصلحة الاساتذة فلقد تقدمت من موقعي هذا، وبعد أخذ الموافقة المسبقة والمبدئية من رئيس مجلس النواب ووزير الماليةبمشروع قانون لإصدار طابع تعاضدي يدعم واردات الصندوق المالية انطلاقاً من تقديري حينها بأن المالية العامة للدولة هي باتجاه المزيد من التقلص والعجز وأنه لا بد من معالجة هذا الموضوع عاجلاً للمساعدة في ردم العجز الملحوظ للسنوات القادمة واستباق حصوله أقله نسبياً، بما يسمح في تغطية نسبة التضخم والأعباء السنوية المتصاعدة من خارج مساهمة وزارة الوصاية على الصندوق كونه مؤسسة عامة مستقلة إدارياً ومالياً عن الجامعة، ولقد أحيل مشروع القانون هذا الى الأمانة العامة لمجلس الوزراء منذ أكثر من سنتين ولم تتم إحالته الى المجلس النيابي حتى الان إضافة الى عدم متابعة إقراره من أصحاب الشأن إدارياً ونقابياً.

إضافة الى ما تقدم وانطلاقاً من رؤيتي المستقبلية بضرورة تحصين خصوصية الاستاذ الجامعي الاجتماعية والمادية والحفاظ عليها تقدمت وفق الأصول والأنظمة الخاصة بالصندوق بمشروع مرسوم يقضي باستحداث ما يعرف بـ«الصندوق الترسملي» كدائرة من دوائر صندوق التعاضد وهذا يسمح بتكوين ملاءة مالية للصندوق تسمح له القيام بمشاريع ذات طابع تعاضدي وكذلك بتكوين إضافة الى تعويضاتهم التقاعدية الرسمية المكتسبة تعويضات إضافية لصالح أساتذة الجامعة يستوفونها عند تقاعدهم مع كامل الربحية التراكمية ويتم ذلك بموجب مساهمة محدودة تقتطع من رواتبهم مع إمكانية اي أستاذ الانسحاب طوعاً من الاشتراك في هذا الصندوق ويتم استثمار هذه المقتطعات عبر إصدارات المصرف المركزي حصراً بحيث تكون نسبة المخاطر عليها صفراً، ولقد تم عرض هذا المشروع على مجلس الجامعة مجتمعا ووافق عليه حينها برفع أيدي أغلبية أعضاءه على ان تتشكل لاحقاً لجنة مشتركة من الصندوق ومتخصصين في المجال المالي من كلية إدارة الاعمال لبلورة نصوصه النهائيةولكن مع الأسف وضع هذا المشروع في أدراج نسيان الادارة المركزية.

بناء على ما تقدم لا بد من الإشارة إلى أن هذه المشاريع كانت قد لقيت ترحيبا من قبل المسؤولين في المصرف المركزي بدءاً من الحاكم ونوابه اذا اعتبروها خطوات فريدة رائدة ومتقدمة في تاريخ الادارة اللبنانية والعمل التعاضدي إضافة الى ان هذه المشاريع يمكن تطبيقها لصالح الجامعة وأساتذتها أياً تكن هيكلية الجامعة القائمة حالياً او مستقبلاً.

إنها تساؤلات من البديهي لا بل من الضروري الإجابة عنها في القريب العاجل كي لا تتعمق الاتجاهات السلبية القائمة على مستوى مركز اتخاذ القرار في الجامعة الخاضع لتأثيرات القوى السياسية الفاعلة وتأثيرات هذا الواقع السلبي على مستقبل الجامعة ودورها في عملية التنمية البشرية وإعداد الموارد البشرية اللبنانية الكفؤة لمواكبة تطورات العصر باعتبارها احدى أهم ميزات لبنان التفاضلية في هذه المنطقة.

وهنا أيضا لا بد من الإشارة أيضاً الى ظاهرة ملفتة وخطيرة في الجامعة أطلت برأسها في السنوات الاخيرة تمثلت في هيمنة ثقافة الاستسلام والاستكانة للواقع الراهن وتجلى ذلك من خلال إستقالة أعضاء هيئاتها ومجالسها الاكاديمية من ادوارهم وعدم قيام الكثير منهم بمسؤولياتهم المنصوص عليها في القوانين والمراسيم العائدة لها، الامر الذي زاد من أزمتها.

رابعاً- الجامعة اللبنانية بين قيود المركزية ومرونة اللامركزية 

إن المسار العام للجامعات في العالم يتجه نحو المزيد من اللامركزية تجاوزاً للتعقيدات والروتين الاداري وذلك تسهيلاً وتسريعاً لاتخاذ القرار وتثميناً للوقت واختصاراً للبيروقراطية إذ أن التطورات العلمية وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والبرامج التعليمية الرقمية اختصرت عامل الوقت والزمن بسرعة تتجاوز بشكل واضح سرعة تعديل المناهج الكلاسيكية والآليات المعتمدة على كافة مستويات العمل الجامعي، في حين يقابله في الجامعة اللبنانية المزيد من المركزية الامر الذي يعطل عامل المبادرة ويخفف من سرعة التطور والتعديل السريع للمناهج التي تحتاجها بما يتوافق ومتطلبات سوق العمل محلياً وخارجياً ويحد من فرص الابداع في شتى الميادين إدارياً وأكاديمياً وتنافسياً.

إن جوهر العمل الاكاديمي بالنسبة إلى الأستاذ الجامعي يكمن في البحث العلمي الذي يحقق مردوداً معرفياً/علمياً ومادياً/معنوياً. ولطالما كانت هناك مطالبة دائمة بضرورة إيجاد الاطار الناظم والملائم لتوفير شروط العمل البحثي الجدي ومأسسته والذي لا يمكن فصله عن شروط توافر شبكة العلاقات البينية والاتصالات مع الجامعات والمعاهد ومراكز الابحاث الخارجية المشهود لها وذلك من خلال هيئة او مكتب له أنظمته وآليات عمله ويكون من ضمن الهيكلية الادارية العامة للجامعة وليس مجرد إطار عمل ظرفي عبر لجنة تتشكل إستنسابياً بقرار يصدر عن رئاسة الجامعة.

إن علاقة الجامعة اللبنانية البينية بالجامعات الخارجية والهيئات والمنظمات الدولية كانت تتم سابقاً قبل ما يزيد عن ٢٥ عاماً وفق آلية تواصل لامركزية تتم على مستوى الكليات والفروع ويجري التنسيق فيما بينها من خلال مجلس الجامعة، إلى أن صدر قرار من رئاسة الجامعة بتشكيل مكتب مركزي للعلاقات الخارجية حصر بموجبه جميع الاتصالات به وبالتالي أدى هذا الاجراء إلى لجم الحوافز والمبادرة لأساتذتها.

وعلى الرغم من هذا الواقع كان من المتوقع وضع برنامج سنوي للتواصل مع الخارج ينفذ وفق أهداف تلبي حاجات الكليات المتنوعة الاختصاصات من خلال وضع برنامج عمل سنوي يوزع على جميع الأساتذة يحدد فيه مستوى وطبيعة المؤتمرات وورش العمل التي تعترف بها الجامعة مستوفية الشروط العلمية والمعرفية والبحثية وتحفز الأساتذة على المشاركة فيها عبر مساهمة مادية كاملة كانت أم جزئية من الجامعة إضافة إلى إعتبار اوراق الأبحاث أو الدراسات المقدمة من قبل الاساتذة المشاركين مقومة في حال نشرها في المجلات أو الدوريات التي تصدرها الجامعات والهيئات المنظمة لهذه المؤتمرات باعتبارها مصنفة ومشهود لها أكاديميا.

وكذلك فإن مهام هذا المكتب يجب أن تتوسع على صعيد الكليات والفروع كي يتجاوز دور العلاقات العامة وتوقيع بروتوكولات التعاون فقط، والتي تبقى محصورة مركزياً في أروقة الادارة المركزية ولا يبلغ عنها إلا إستنسابياً وفقاً للتدخلات السياسية والحزبية في كثير من الأحيان.

إن هذه المسألة حيوية في أي عملية اصلاح بنيوي يُنوى إجراؤها كما أنه من الضروري عدم الابقاء على مركزيتها بل من المتوجب اعتماد اللامركزية في هذا المجال لما فيها من تعزيز للمبادرة ولروح الابداع عند الاساتذة وتحملاً للمسؤولية الجماعية وللمرونة في عملية التواصل والتفاعل بين الداخل والخارج في الإختصاصات المتنوعة.

ومن القضايا المطلبية ذات المضمون الأكاديمي بامتياز والتي تحتاج الى الاصلاح عاجلاً، تلك المتمثلة بمسألة تقويم أبحاث الاساتذة وضرورة تنظيمها وإيجاد الآليات الملزمة لها وتحديد واضح للفترة الزمنية المطلوبة لإنجازها وذلك إحتراماً للأستاذ أولاً وثانياً من أجل اعادة الاعتبار لأهمية عامل الوقت الذي يبدو حتى الآن خارج ثقافة أصحاب القرار في الجامعة ولا قيمة له عندهم.

إشارة أخرى مقلقة تطرح حول الآلية المعتمدة حالياً في اعطاء منح كاملة أو جزئية لطلاب الدكتوراة المتفوقين المسجلين في الخارج التي أصبحت أيضا في كثير منها استنسابية وخاضعة للمحسوبيات والضغوط السياسية ولموازين القوى الطائفية والمذهبية داخل الجامعة، ولا تحترم الكفاءة والشروط والآليات المنصوص عليها في أنظمة الجامعة والتعاميم الصادرة في شأنها بهذا الخصوص.

وأخيراً، لا بد من القول إن جميع المكتبسات المادية التي تحققت لأساتذة الجامعة إنما كانت بفضل وحدة اداتها النقابية وتعاضد اساتذتها وتجاوزهم للخلافات السياسيّة الحادة التي عصفت بالوطن.

أمام هذا الواقع الهيكلي والبنيوي القائم حالياً في الجامعة وما لم يتم إعلان حالة طوارئ اصلاحية حقيقيّة لإعادة الهيكلة بعيداً عن المزايدات السياسيّة والشعارات الشعبوية فإنه لن يبقى من معنى وقيمة لكل تلك المكتسبات في حال تطور المسار الانفلاشي التفككي والتحليلي للجامعة على كافة الصعد والتغاضي المقصود على إعادة تكوين بنية أكاديمية نهضوية واعادة هيكلة الجامعة تحت اي شكل من الاشكال الذي  يبقى افضل من الاستمرار في الواقع الراهن، بغية توفير الحياة الاكاديمية الحقيقّية وفق المعايير المتعارف عليها دولياً لصالح أساتذتها وطلابها وادارييها في جميع المناطق اللبنانيّة على قاعدة الانماء المتوازن الحقيقي واللامركزية الإدارية الهادفة التي تحقق مصالح أوسع شريحة من طلاب لبنان على كافة مساحة الوطن.