كتبت مريم سيف الدين في صحيفة “نداء الوطن”:
في العام 1991 وعند تسلّم وديع الصافي أوّل دكتوراه فخرية تمنحها جامعة الروح القدس في الكسليك، توجّه الصافي بعفويّة إلى زوجته ملفينا الجالسة في الصفّ الأماميّ قائلاً: “شوفي يا ملفينا جوزك صار دكتور”.
وديع الصافي ليس أول فنان يُمنح هذه الجائزة، قبله وبعده كثيرون حملوا هذا اللقب، لكنه ربما كان الأكثر عفوية بالتعبير عن فرحه بهذه الدكتوراه الفخرية. وبتكريم الجامعات الكبرى للمجلّين في شتى المجالات إنما تكرّم نفسها أيضاً، ليصبح منح الدكتوراه الفخرية فخراً لها. معايير عديدة تدخل في اختيار الشخصيات ومنحها الدكتوراه الفخرية، تتخطّى فكرة التكريم لتصبح الغاية منها تحقيق مكاسب. فلعلّ أوّل من خطرت له فكرة منح الدكتوراه الفخرية، رغب بتقديمها لأشخاص تميّزوا في مجالهم وأبدعوا وقدّموا إضافات خدمت البشرية لشكرهم. لكن الفكرة استغلت أحياناً ووظفت لغايات نفعية أو دعائية. فدخلت الشهادة الفخرية في حسابات الربح والخسارة والعلاقات العامة والتملق السياسي. حتى باتت بعض الجامعات تمنح الدكتوراه الفخرية كوسيلة لتأمين تمويل وتحقيق المزيد من الأرباح، أو من أجل تمتين علاقتها بشخصيات ذات نفوذ، لتكون الدكتوراه الفخرية جزءاً من العلاقات العامة التي تسهّل على الجامعة الكثير من أمورها. وتدخل أيضاً الأهواء السياسية في منح الدكتوراه الفخرية لشخصية دون سواها في وطن مقسّم مثل لبنان، حيث لكل طائفة جامعتها، وكل جامعة يملكها أو يرعاها مرجع سياسي.
في السياسة، منحت الجامعة اللبنانية الدكتوراه الفخرية لنحو 12 رئيس بلد ومسؤولاً أجنبياً ثلاثة منهم إيرانيون! وكان شاه إيران محمد رضا بهلوي أوّل حاكم تمنحه الجامعة اللبنانية الدكتوراه الفخرية، وذلك في العام 1957عندما كان فؤاد أفرام البستاني رئيسها، ويومها كان الشاه في زيارة رسمية للبنان. جاءت الثورة الإسلامية وأطاحت بحكم الشاه، والجامعة نفسها تكرّمت بمنح الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي دكتوراه فخرية في العام 2003، ومن بعده الرئيس أحمدي نجاد في العام 2010. سنتئذ لم يأت نجاد إلى التكريم بيد فارغة، بل جاء حاملاً معه “نانوسكوب” هدية إلى الجامعة اللبنانية لتستفيد منه في أبحاثها العلمية.
لكن النانوسكوب اختفى لمدة، إذ روى أساتذة لطلابهم أن هناك من حرص على الحفاظ على الهدية الثمينة في مكان آمن، بدل استخدامها في الأبحاث العلمية. وبالعودة إلى تاريخ الجامعة اللبنانية نجد أنها وفي عهد رئيسها إدمون نعيم، منحت في العام 1972 الدكتوراه الفخرية لرئيس جمهورية رومانيا الاشتراكية نيكولاي تشاوشيسكو. وكرّم تشاوشيسكو قبل 17عاماً من انتفاضة شعبه ضده وإعدامه بالرصاص مع زوجته أمام عدسات الكاميرات. قبل الرئيس الروماني كرّمت “اللبنانية” آخر أباطرة الحبشة، هيلا سيلاسي، في العام 1967. أما آخر رئيس كرّمته الجامعة فهو الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير في العام 2018. ولم تبدأ الجامعة بمنح الدكتوراه الفخرية لشخصيات لبنانية إلا في العام 2009. فمنحتها لشخصيات أبرزها: فؤاد بطرس، غسان تويني، ليلى الصلح حمادة، رياض سلامة، المطران غريغوار حداد والفنانة ماجدة الرومي.
أخذ وعطاء
تعتمد بعض الجامعات على استراتيجية منح الدكتوراه لأولئك القادرين على رد الجميل بمثله. وقد تستنبط الأسباب الموجبة لمنح أصحاب النفوذ والمال الدكتوراه الفخرية. فهؤلاء قادرون على إنشاء مكتبة ما أو إطلاق برنامج ما أو تشييد مبنىً يخلّد اسمهم في الجامعة. وبعيداً من سوء النية قد تكون صدفة أن يدشّن النائب نعمة افرام مكتبة والده الراحل جورج افرام في جامعة الروح القدس – الكسليك بعد أقلّ من عام على منحها إياه الدكتوراه الفخرية. وربما سوء النية قد يدفع بك، بعد معرفة أن الجامعة اليسوعية مثلاً قد منحت الدكتوراه الفخرية في العام 2018 إلى السيدة الأولى السابقة منى الهراوي، للبحث عن عطاءات هذه السيدة للجامعة، ليتبين مثلاً، أن الهراوي قد منحت في العام 2016 لرئيس الجامعة اليسوعية الأب البروفسور سليم دكاش، جائزة الرئيس الياس الهراوي السنوية. قبل أن يمنحها دكاش بدوره الدكتوراه الفخرية في العام 2018، ولتعود بعد نحو شهرين وتعلن عن تأسيس “صندوق منح الياس ومنى الهراوي” في جامعة القدّيس يوسف. وطبيعي أن تحصل ليلى الصلح حمادة على دكتوراه من اللبنانية وسائر الجامعات تقديراً لعطاءات مؤسسة الوليد بن طلال أيام البحبوحة!
أبو العبد والدكتوراه الوهميّة
من سوء حظ وزير العمل السابق محمد كبارة (أبو العبد) أن الدكتوراه الفخرية التي منحه اياها مجمع النور التربوي لا يُعتد بها وذلك في حفل افتتاح القسم الجامعي في المجمع والذي يضمّ: “جامعة النور الدولية” و”جامعة مصر الأميركية الدولية”، ليتبين لاحقاً أن الجامعتين غير مرخّصتين ولا إسم لهما في لوائح مؤسّسات التعليم العالي القانونية، وغير معترف بشهاداتهما في لبنان، ما يعني أنه لا يحقّ لهما منح إجازة حتى، فكيف بالدكتوراه؟! تكريم نائب طرابلس شكّل فضيحة، إذ كشف لوزارة التربية وجود جامعات تعمل من دون ترخيص. كما كشف أن المؤسّسات غير المرخّصة قد تحظى برعاية رسمية، وقد يغتبط وزير لتسلّم لقبه الفخري منها من دون التدقيق في قانونيتها.
الرؤساء الدكاترة
الدكتوراه الفخرية ليست حكراً على المجلّين في مجالات الثقافة والفن والريادة الفكرية، فالسياسيون لهم منها حصة الأسد، كما في العالم كذلك في لبنان. فالرئيس العماد ميشال عون أضاف إلى لقب صاحب الفخامة لقب دكتور في الإنسانيات وقد منحته إياه جامعة سيدة اللويزة، في أيلول الماضي، في ذكرى تأسيسها “تقديراً لمسيرته وعطاءاته الوطنية”، (طبعاً دكتوراه فخرية!). أما رئيس مجلس النواب الأستاذ الدكتور نبيه بري فقد منحته جامعة الاقتصاد الأرمينية، في ياريفان عاصمة أرمينيا، شهادة الدكتوراه الفخرية في الاقتصاد. وفي 27 حزيران انضمّ رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري إلى الرؤساء الدكاترة بعدما منحته جامعة الروح القدس ـ الكسليك دكتوراه فخرية.
ولعل ما يميز الجامعة الأميركية في بيروت، حجبها الدكتوراه الفخرية عن السياسيين أكانوا قادة لأحزاب سياسية، أم أعضاء في مجلس النواب أو الوزراء، وحتى رؤساء الدول. “فهؤلاء يكرمون كل يوم” وفق ما يقوله لـ”نداء الوطن” إبراهيم خوري، المستشار الخاص لرئيس الجامعة. وتعد الجامعة الأميركية من الجامعات الأكثر مهنية وتميّزاً في هذا المجال، كذلك لا تمنح الجامعة الأميركية الدكتوراه الفخرية إلى أي من أساتذتها وموظفيها أو أمنائها حتى وإن كانوا جديرين بحملها. ويمكن لأي من هؤلاء الموظفين ترشيح من يراه مستحقاً للحصول على الدكتوراه الفخرية، شرط أن يذكر سبب اختياره للمرشح ومؤهلاته التي تخوله الحصول عليها. وترسل الترشيحات بطلب من رئيس الجامعة الذي يصدر تعميماً إلى أفراد الهيئة التعليمية لإرسال تسمياتهم للمرشحين. وتتم بعدها دراسة ملفات المرشحين واختيار الأفضل بينها. وتمنح الأميركية الدكتوراه الفخرية لأشخاص برعوا علمياً وثقافياً وإنسانياً وفنياً وبذلوا جهوداً لتحقيق الصالح العام.
شخصيات عالمية حصلت على الدكتوراه الفخرية من الجامعة الأميركية ومنها فيروز وإدوارد سعيد والبروفسور أحمد زويل وفاتن حمامة وأمين معلوف ودريد لحام وروبرت فيسك، وغسان تويني والدكتور يوسف حنون وغيرهم كما منحت أيضاً لرجل الأعمال كارلوس غصن. وعما إذا كان من الممكن سحب الشهادة من شخص حصل عليها، يقول خوري إنه من الممكن أن تسحب الشهادة من كارلوس غصن في حال صدر قرار قضائي يدينه، لكن ذلك يتطلب توصية من اللجنة التي رشحته، والتي يعود إليها أن تصدر توصية بسحب الدكتوراه منه لتحولها إلى مجلس الأمناء.
وتمنح الجامعة الأميركية كمعدل عام 4 شهادات دكتوراه فخرية سنوياً، وقد بدأت في هذا التقليد في العام 1890، واستمر ثلاثين عاماً. بعد العام 1920 توقف منح الشهادات هذه ليستأنف متقطعاً. في العام 1966 منحت الجامعة دكتوراه واحدة لثالث رؤساء الجامعة بيارد دودج، ثم دكتوراه للمؤرخ فيليب حتي 1969، بعده صمت طويل استمر 34 عاماً عجافاً، لا دكتوراه فخرية ولا مكرّمون. في الـ 2003 عاد الكبار إلى المنصة.
لا معايير ثابتة وموحدة بين الجامعات في اختيار المستحقين ولا آليات محددة، فلكل جامعة معاييرها وحساباتها. فالجامعة اللبنانية الأميركية وسعت خياراتها لتشمل السياسيين. وفي الشهر الفائت كرّمت وزيرة الداخلية ريا الحسن، وربط إعلان تكريم الحسن بكونها أوّل امرأة عربية تتولى منصب وزيرة الداخلية. إذ كرمت الحسن “تقديراً من الجامعة للموقع المتقدّم الذي وصلت إليه في هيكلية الدولة اللبنانية، الأمر الذي ينسجم مع رسالة LAU ودورها الرائد في الدفع نحو مزيد من المساواة الجندرية”. وعلى الرغم من ربط الجامعة بين التكريم وكون الحسن إمرأة، يقول المستشار الخاص لرئيس الجامعة اللبنانية الأميركية الدكتور كريستيان أوسي، لـ”نداء الوطن”، إن سبب التكريم لا يقتصر على هذا السبب، “فالحسن كرّمت لأنها امرأة مجلّية ومعطاءة منذ كانت في وزارة المال”. ويلفت أوسي إلى أن معايير عدة تقاطعت مع كون الحسن امرأة. وبغض النظر عن أسباب تكريم الحسن المستحقة، لكنها ليست الدكتوراه الفخرية الوحيدة التي حصلت عليها الحسن، فقد منحتها جامعة بيروت العربية الدكتوراه الفخرية سابقاً. وقد تفوّقت عليها السيدة ماجدة الرومي في عدد شهادات الدكتوراه الفخرية. فالرومي كانت حصلت على ثلاث شهادات فخرية، حيث كرمتها الجامعة اللبنانية والجامعة الأميركية في بيروت وأخيراً جامعة بيروت العربية.
يشرح أوسي الآلية التي تعتمدها الجامعة اللبنانية الأميركية في اختيار الأشخاص الذيـن ستمنحهـم الدكتوراه الفخرية. “فقرار منح شخصية ما الدكتوراه الفخرية يتخذ في مجلس الأمناء في الجامعة، بعد توصية من رئيس الجامعة أو من مجلس الأمناء. أما المعايير التي تتبعها الجامعة في اختيار الشخصية التي ستمنحها اللقب الفخري، فهي أن يكون الشخص مجلّياً في مكان ما، أو حقّق إنجازاً أو قيمة مضافة في ميدان ما”. ويصف أوسي الشهادة بالمكافأة التي تمنح للشخص تقديراً لما يقوم به من عطاءات في ميادين مختلفة لها علاقة بالإنسان، وبتنميته وتعزيز حضوره في الكرة الأرضية. وبشكل عام، تمنح الجامعة اللبنانية الأميركية 3 شهادات دكتوراه فخرية في العام الدراسي. دكتوراه فخرية واحدة في كل حفل تخرّج، وهي تقيم سنوياً 3 حفلات تخرّج لطلابها. لكن لا مانع من أن تمنح الجامعة الدكتوراه الفخرية خارج إطار حفل التخريج في حال رغبت في ذلك. يشير أوسي إلى أن الدكتوراه الفخرية تمنح صفة “دكتور” لحاملها، “لكن مبدئياً من يمنح الشهادة من دون حصوله على شهادة علمية في المجال، لا يكون قادراً على إعطاء المحاضرات كالدكتور الحاصل على شهادة علمية.
وقد يلقي الحاصل على الشهادة الفخرية محاضرة واحدة لا أكثر، لينقل خلالها خبرته إلى الطلاب”. ويرى الدكتور أوسي أن الدكتوراه الفخرية تعزّز علاقة الجامعة مع أهل الفكر والعطاء، لكنه يؤكّد أنها تمنح قيمة مضافة لمن يتسلّمها، لا للجامعة. ويلفت إلى أنه يمكن للجامعة اللبنانية الأميركية أن تمنح الدكتوراه الفخرية لشخص قد حصل عليها من جامعة أخرى، شرط أن تتطابق صفاته مع المعايير التي حدّدتها الجامعة. وعن إمكان سحب الدكتوراه الفخرية من شخصية حازت عليها، يربط أوسي المسألة بالمعايير المعتمدة من قبل الجامعة وحسن الإختيار. ويؤكّد بأنه لم يحدث في تاريخ الجامعة اللبنانية ـ الأميركية أن سحبت اللقب من أي شخصية منحتها إياه، “فجامعتنا دقيقة باختيار الشخصيات”.
عسى أن تكون الخيارات دقيقة في كل الجامعات العاملة على أرض لبنان وأن تكون الدكتوراه مصدر فخر للمانح والممنوح وللبنان الريادة.