Site icon IMLebanon

لماذا التصدّي لمشروع الكيوسكات على كورنيش بيروت؟

كتب الدكتور نزيه الخياط في “اللواء”:

بداية من موقعي كأحد أبناء هذه المدينة العظيمة بتنوّعها، الصابرة والصامدة بيروت، الذي ارتبط اجتماعها وتاريخها بالبحر، ومن موقعي العلمي والأكاديمي كعضو في جمعية الجغرافيين اللبنانيين وكأكاديمي حائز الدكتوراه في الجغرافيا، واستثمار وتطوير الأراضي وكناشط في الحقل العام، من أجل ذلك كلّه أسمح لنفسي بمقاربة موضوعية وعلمية لموضوع مشروع إنشاء الكيوسكات على طول الواجهة البحرية لبيروت، بدءاً من منطقة عين المريسة وصولا الى منطقة الرملة البيضاء، رغم أنّ امتدادها يطال واجهة منطقة سوليدير البحرية الممنوع إنشاء كيوسكات فيها (يجب التساؤل لماذا؟!)

وفق القراءة الآتية: بداية لا بد من الترحيب بطلب دولة الرئيس سعد الحريري وقف هذا المشروع الجائر مشكورا كونه نائبا عن بيروت والأمين على إرث والده التنموي خاصة في بيروت، وهنا لا بد من التعريف كمدخل بأنّ العمل البلدي الصرف، في مفهومه الحقيقي يكون عملاً إنمائياً واجتماعياً وخدماتياً أي أنّه الركيزة الاساس لعملية التنمية المحلية. وبما ان رئيس وأعضاء المجلس البلدي ينتخبون مباشرة من أبناء بيروت أصبح من واجبهم احترام خياراتهم وتوجهاتهم ومطالبهم التنموية كمصلحة عامة لهم، وليس العمل على تغليب المصلحة الهادفة للانتفاع الشخصي، إضافة الى كون بيروت كاستثناء يكون المحافظ هو المسؤول التنفيذي الأول خلافا لمهام باقي المحافظين في لبنان. هذا هو واقع آلية العمل البلدي فيها، وهنا نتساءل هل مشروع الكيوسكات هو مشروع للمصلحة العامة ام لأشخاص بعينهم؟

1- أثبت هذا القرار الجائر بحق العاصمة ان التعاطي معها يجري بأعلى درجات الجشع المادي من قِبل البعض الذي سيغتصب الهواء النقي نسبيا، الذي يتنفسه ابناء العاصمة على كورنيشها، وسيقضي على البقية الباقية من النبض والروح الانسانية والاندماج الاجتماعي اليومي للمدينة، الذي يتجلى في هذا المشهد الصباحي، الذي يتفاعل فيه رواد هذا الكورنيش الذين يمثلون نسيجاً اجتماعياً متنوّعاً مهنياً واجتماعياً، والذين يتناغمون مع بعضهم من خلال ممارستهم لرياضة المشي والهرولة او الوقوف على درابزين الكورنيش للمحادثة الصباحية، او الجالسين بحرية على المقاعد الإسمنتية، وهؤلاء جميعهم يوحّدهم النظر الى الأفق والتأمل ببحر بيروت، الذي يئن شاطئه بالنفايات والملوّثات المتراكمة على أنواعها، والتي تزداد تراكما يوما بعد يوم على صخوره، وهذا شاهد على غياب البعد الإنساني والاجتماعي والبيئي والقيمي لأصحاب القرار في شؤون العمل البلدي في العاصمة.

2- أثبت هذا القرار الموافق عليه من أصحاب الشأن، ولصالح مَنْ يدّعون ان هذا المشروع هو لصالح البيارتة، والمدعاة بأنّه يؤمن فرص عمل لأبنائها، أن هؤلاء المعنيين به لا علاقة لهم بمصلحة بيروت وبأبنائها لانهم يفتقدون الى الذاكرة الجماعية التاريخية وركيزتها أهمية تلازم علاقة البيارتة بالبحر، هذا من جهة، ومن جهة ثانية تناسي ذاكرتهم القريبة التي تعود الى تسعينات القرن الماضي، عندما أنجز الرئيس الشهيد رفيق الحريري عملية إزالة فانات القهوة، التي كانت منتشرة على طول الواجهة البحرية لبيروت، والتي عاث أصحابها فسادا على كورنيشها، من خلال تفشّي عمليات توزيع المخدرات ليلا نهارا، وأصبح الكورنيش مرتعا للدعارة الثابتة والمتنقلة، وسببا لممارسة البلطجة على المتجرّئ من رواد الكورنيش حينها، والإهانات والتهديدات التي كان يتعرّض لها كل مَنْ تسوّل له نفسه ركن سيارته بمحاذاة الرصيف الخاضع لنطاق المحمية، الباسط سلطته عليها من أصحاب تحالف الفنانات حينها، فهل ذاكرة هؤلاء السادة أصحاب القرار والمشروع على السواء حاضرة لاستذكار تلك المعاناة التي عاشها البيارتة في تلك المرحلة؟

3- ألم يتساءل أصحاب الشأن بمشروع الكيوسكات لماذا لم يستبدل الرئيس الشهيد حينها الفانات بالكيوسكات؟، هل كانت تنقصه الرؤية التنموية لإنشاء الكيوسكات التي «ميّزكم الله بها لوجه الله»؟، وهل كان الرئيس الشهيد جاهلاً لكيفية تأمين فرص العمل للبيارتة من خلالها؟، وكيف يقرأ أصحاب الشأن أم إنّهم كانوا غافلين حينها، عن دعوة الرئيس الشهيد لأبناء العائلات البيروتية إلى قريطم لإبلاغهم بأنّ عملية إزالة الفانات والعوائق المختلفة عن كورنيش بيروت قد أُنجزت وأصبح لبيروت والبيارتة متنفساً نهائياً، دون وجود عوائق، يمتد من الواجهة البحرية لسوليدير حتى الرملة البيضاء؟ فهل هكذا تتم المحافظة على ارث رفيق الحريري البيئي والاجتماعي في بيروت ولابنائها وعلاقتهم بالبحر؟

4- من الناحية العلمية والبيئية يُعتبر كورنيش بيروت بدءاً من واجهة منطقة سوليدير البحرية وحتى الرملة البيضاء، أقل المناطق تلوّثاً في نطاق جغرافية مدينة بيروت، ذلك أنّ الرياح التي تهب على الشاطئ اللبناني معظم أيام السنة، ومنها شاطئ بيروت هي رياح غربية وجنوبية غربية، ما يسمح للانبعاثات الملوّثة في الجو، والمتراكمة في أجواء بيروت بالاندفاع والتحرّك حسب قوّة سرعة الرياح، باتجاه الداخل شرقاً، ما يجعل هذا الحيز الجغرافي من المجال الجوي لبيروت من أقل المناطق تلوّثا على مدار الساعة، بنسب منخفضة ومتفاوتة وكمتنفّس وحيد للمواطنين، لذلك فإنّ أي تغيير في وظيفة واجهة بيروت البحرية الحالية سيؤدي الى زيادة معدلات التلوّث المتنوّعة في مجالها، بحراً وشاطئاً ويابسة، أي الى المزيد من الأمراض الرئوية والجلدية الخطيرة، وبوتيرة متسارعة، رغم ان الوضع الراهن لا يُعتبر مثالياً نتيجة تخلف العمل البلدي .

5- يتحدّثون عن تأمين فرص العمل للبيارتة، لكن هذا الإنجاز المزعوم هل سيزيد من الناتج القومي؟، ومن تخفيض معدل البطالة في العاصمة أم إنّها في الواقع هي شعارات للتعمية على الذين سينتفعون، وعددهم قد لا يتجاوز عدد أصابع اليد، من مئات الآلاف من الدولارات شهرياً من مشروع يتعدّى على حقوق البيارتة في هذا المتنفس الوحيد المتبقي لهم من الأملاك العامة ممثلا بالواجهة البحرية لمدينتهم ؟؟؟

6- يتحدّثون عن أن هذا المشروع «حضاري»، لكن مع الأسف، فإنّ هذا التوصيف الفارغ من اي مضمون يشير الى السطحية، التي يتم التعامل بها من خلال محاولتهم استغباء المواطنين، فإذا كان مشروعاً حضارياً كما يوصف، عندها يجب التساؤل عن موقع فرنسا في هذا الشأن، فهل هي دولة من دول العالم الثالث، ومتخلّفة عن الركب الحضاري لأنّها تمنع على طول واجهتها البحرية على المتوسط إنشاء كيوسكات، وأعيدكم هنا الى ما يعرف بـ»الريفييرا» الفرنسية، أي واجهة كان ونيس البحرية، حيث يمنع ولا أثر لأي من الكيوسكات المزعومة لان القوانين في فرنسا صارمة في هذا الشأن، إذ تعتبر أن المجال الجغرافي على الشاطئ بمياهه ويابسته هو حق عام وملكية عامة لجميع المواطنين، ولا يحق استغلاله للربح الشخصي او لمؤسسات، وأنّ أي إنشاءات عليه هي بمثابة اعتداء على المواطنين، الذي سيتعرّضون لتلوّث نظري يعاقب عليه القانون، طبعا ناهيك عن وقائع مشابهة على جميع شواطئ الدول التي تحترم الانسان والقيم الانسانية عندها، والتي أصبحت عندنا مع الأسف وجهة نظر وفقاً لمتطلبات المصلحة الشخصية والربحية المادية فقط لا غير.

7- لقد اصبحت كلمة حضارة، وكلمة تطوير للكورنيش، مبتذلة لكثرة استخدامها على غير حقيقة مضمون وجوهر هاتين الكلمتين، من قِبل القيّمين على العمل البلدي في بيروت. وانطلاقا من المعطيات الواقعية يطرح المواطن البيروتي الأسئلة الآتية:

– إذا كان الادعاء بأنّ الغاية من الكيوسكات تحقيق مداخيل للبلدية، ألم يكن من الأجدى إجراء تقويم وتقدير لجدوى الإنفاقات التي أجرتها البلدية على عشرات النشاطات الفولكلورية المتعدّدة خلال السنوات الماضية، والتي لا تمت الى التنمية المدينية بصلة؟، وهل جرى تقدير عائديّتها على الاقتصاد الجزئي، الذي استهدفته هذه النشاطات المقدّرة بملايين الدولارات، والتي دفعت من جيب المكلف البيروتي؟؟

– إذا كان المعنيون بالعمل البلدي قد أعطوا بُعدا فلسفيا (بالإذن من الفلاسفة الحقيقيين) لأهمية إنشاء الكيوسكات «الحضارية والتطويرية» كما يدّعون، وانعكاسه على الكورنيش، فلماذا تركوا الكورنيش مهملا، أقلّه طوال السنوات الثلاث الماضية، ولم يعمدوا الى صيانة حجارة أرصفته دوريا وصب الجوانات بينها من اجل منعها من التآكل او التحطم، وذلك تشبّها بما يتم اعتماده في الدول الحضارية؟

– بدلا من الاعتداء على مجال الكورنيش الطبيعي، لماذا لا ولم يتم إجراء تلزيم انشاء مراحيض بدل إنشاء الكيوسكات كل 250 مترا، على طول الكورنيش حفاظا على الصحة العامة؟، وهل أي من المعنيين قد عمد الى إلقاء نظرة على المرحاضين الوحيدين الموجودين حاليا على طول الكورنيش لتقدير الحالة المزرية فيهما، وصيانتها بما يليق بالحضارة المرجوة؟، ولماذا تغلق هذه المراحيض أبوابها يومي السبت والأحد والأعياد أمام المواطنين، وهل قضاء الحاجة الطبيعية لروّاد الكورنيش تأخذ عطلة بيولوجية أيضاً؟؟

– لماذا لا يُخصّص مسار محدّد لراكبي الدراجات الهوائية على الكورنيش حماية للمشاة عليه؟

– أين هي التشريعات التي تفرض على المواطن الذي ينزّه حيوانه، والتي تلزمه بضرورة جمع مخلفاته في معدّات مخصّصة لذلك؟، ولماذا لا تفرض غرامة على مَنْ يخالفون تطبيق قواعد النظافة هذه؟ أليس هذا عملا حضاريا يمكن تنفيذه بدون كيوسكات؟

– لماذا لا تعتمد الطاقة الشمسية في إنارة الكورنيش الذي يبقى في الظلام الدامس ليلا؟ أليس هذا عملا تطويرياً؟

– لماذا لا يتم جمع النفايات من شاطئ الكورنيش الصخري يومياً، كما كان يتم سابقاً مع شركة سوكلين، وأين هي الشرطة البلدية كي تغرّم كل مَنْ يرمي القاذورات وأكياس النايلون في بحر بيروت؟ أليس هذا عملا حضاريا يساهم في حماية بيئة بيروت البحرية والحفاظ على ثروتها السمكية؟

– أين هي أعمال تمديد قساطل المجارير التي تصب على شواطئ العاصمة؟

– سوف تطل بعض المواقع الإعلامية للتمجيد بحضارية المشروع المنقطع النظير، وهذا حقها ومجال عملها، لكن هنا يمكن الرد على هذا الامر استناداً الى المثل البيروتي الشائع والاكتفاء بالقول «من برّا رخام ومن جوّا سخام»، طبعاً اضافة الى تداعياته السلبية على ابناء العاصمة.

إنّ ما أُدرج هو غيض من فيض من الأمور التي تحتاج إليها واجهة بيروت البحرية وبيروت عامة، هذه المدينة المتروكة لقدرها، لكنها الصامدة، وتعرف متى وأين ومن، وأنّها ستحاسب كل مَنْ تخلّى عنها، وأهالي بيروت ليسوا شعبويين إنّما يمثلون حالة رأي عام حضاري يعضون على الجرح، لكنهم لا يستكينون.

إنّ بيروت هي درّة المتوسط وواجهتها البحرية لؤلؤتها فاحموها ولا تخذلونها أمام جشع الجاشعين ومكر الماكرين.