كانت دوائر القرار الأمني اللبناني، ودوائر القرار الدبلوماسي العربي والدولي، فضلاً عن مناطق النفوذ، تنظر، الى ما يسمى الثنائي الشيعي (حركة أمل وحزب الله) بأنهما «جسمان» برأس واحد!
ربما كانت الاستعارة أو الكناية هذه، تنطوي على مبالغة أو تشهير مبطن، أو تحريض من نوع ما، أو إثارة خطر، غير قائم، وتركيب مشروع تخويف، مما يسمى في الغرب الأميركي بالنهوض (Rise) الشيعي، ليس في لبنان، بل على مستوى دول الشرق الأوسط.
موضوعي، ليس العلاقة المحكمة، التي تربط وشائج الجسم الشيعي اللبناني، أو ما كان يعرف بـ8 آذار، إنما يتعلق بتحوّل هذا الثنائي، إلى ما يشبه الانموذج في التمثيل الطائفي اللبناني، في مرحلة بالغة التعقيد، في حياة بلد، يقترب من الاحتفال بقرن كامل، أو عدّة أجيال (الجيل 40 عاماً) على إعلانه في 1 أيلول 1920، على لسان الجنرال الفرنسي غورو باسم حكومة الجمهورية الفرنسية، موجهاً التحية له «في عظمته وقوته، من النهر الكبير إلى أبواب فلسطين وقمم لبنان الشرقي».
وفي الخطاب الذي تضمن الإعلان اشادة بزحلة ومدينة بيروت، مقر الحكومة، ومدينتي صيدا وصور صاحبتي الماضي الشهير. من دون ان يغفر له هذا التاريخ الطويل، وطأة الأزمات، وعدم الاستقرار، والانتقال من وضع صعب إلى وضع أصعب..
استهوت «فكرة الثنائي» الطوائف اللبنانية كافة، ليس بوصفها سبيلاً إلى التعددية، ولو كانت على الطريقة اللبنانية، بل بوصفها الطريق الأقصر، لوضع اليد على الطوائف، بتنظيم أو اثنين واحتكار التمثيل في الوظائف من الإدارة إلى القضاء، والقوى العسكرية والأمنية، فضلاً عن المؤسسات العامة، والجامعة اللبنانية، وسائر البنى التنظيمية المرتبطة بلبنان الكبير، الدولة، ذات الدستور الغربي، الذي يعترف بالطوائف، لكنه يتحدث عن أمة وشعب وحقوق وواجبات.. ناهيك عن الرئاسات والنيابات والوزارات..
قد تكون فكرة «الثنائية» هي التي دفعت بحزب «القوات اللبنانية» الذي صار حزباً مدنياً، بعلم وخبر (كما سائر الجمعيات) بعد ان أعاد تنظيم صفوفه، ولملمة شتاته، بعد تحرير قائده سمير جعجع من سجن النظام الأمني اللبناني – السوري، كما كان يقال، إلى الذهاب بعيداً في إنهاء الفراغ الرئاسي، وانتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية.. قالها جعجع صراحة، في معرض التساؤل: لماذا لا تنشأ ثنائية مسيحية، تضم «القوات» والتيار الوطني الحر، على غرار الثنائية الشيعية؟
على طريقة «التركيب الفوقي» للموقف، اعتبر جعجع أن فكرة الثنائية تكسبه تحصيل حقوق في النيابة والوزارة وحتى بالإدارة، وإراحة الشارع المسيحي لوقت طويل، متناسياً، حرب الالغاء، وحرب التحرير، وتأبيد الطوائف، والانزياحات التمثيلية في الشارع المسيحي من أيام «الكتلة الدستورية» (بشارة الخوري المؤيد من المسلمين، والمنفتح على المحيط العربي) إلى الكتلة الوطنية (إميل إده الممثل للانتداب الفرنسي، والمعادي لفكرة القومية العربية)، إلى حزب الكتائب (بيار الجميل، الذي فتح أبواب الحزب، امام الشباب اللبناني من الطوائف الاسلامية)، وصولاً إلى نمور كميل شمعون، حيث شكّل شمعون – الجميل، ثنائي القيادة المسيحية، قبل إنشاء الجبهة اللبنانية وبعدها، وقبل إنشاء القوات اللبنانية، ابان حرب السنتين (75 – 1976).
فتح تفاهم معراب الطريق (تفاهم بين قيادتي «القوات» والتيار الوطني الحر)، امام العماد ميشال عون (مؤسس التيار) الطريق للوصول إلى رئاسة الجمهورية، بعد ان كان حزب الله، قد فتح «اوتوستراد» التسوية السياسية، من خلال وقوفه بشراسة بوجه أي محاولة لانتخاب رئيس الجمهورية، ليس عون من يرشحه، وحسب، بل ايضا هو المرشح الوحيد، الذي من غير الممكن تصوّر رئاسة، أو حتى جمهورية من دونه!
اكتمل مع حقبة الثنائية الشيعية مشهد وضع اليد على مقدرات الطوائف، بل أيضاً مقدرات الدولة ككل، التي تحوّلت إلى كيان موحد في الظاهر، تعيّن الطوائف عبر ممثليها الأقوى الكادرات وكبار الموظفين والقضاة، ورجال الإدارة وسائر الاسلاك المكونة لمجمل الوظائف التي لا تزال الدولة، كدولة، في العلم الدستوري، تقوم بها في العالم ككل، بصرف النظر عن طبيعة الأنظمة ونطاقاتها الجغرافية.
أسقطت الانتخابات النيابية، على أساس قانون النسبية تفاهم معراب، بعدما تبين للفريق الطامح إلى احتكار التمثيل، أي التيار الوطني الحر، ان التفاهم، سبيل إلى ان يأكل «الأخ القوي»، اخاه الأقوى، فأعاد المراجعة فوراً، مستفيداً من تبدلات قاسية في الوقائع السياسية، أبرزها انعطافة تيّار «المستقبل»، بوجه «القوات» بعد حادثة استقالة الرئيس سعد الحريري، من رئاسة الحكومة، وبالطريقة والتوقيت المعروفين..
بررت «القوات» سياسات وزرائها في مجلس الوزراء، في الفترة ما بين أواخر 2016، ولغاية استقالة الحكومة، بعد الانتخابات التي جرت في أيّار من العام 2018، بأنها مواجهة للفساد، والتلزيمات غير الشفافة، الأمر الذي فاقم الاتهامات للطبقة السياسية، بأنها تعاني من مشكلة فساد خطيرة، بما في ذلك وزراء التيار الوطني الحر، وفقاً لمنظمة الشفافية الدولية، التي لاحظت ان القوانين رغم قانون حق المعرفة، لا تسمح للجمهور بالنفاذ إلى الوثائق الحكومية، لمعرفة ما يجري.
كان بالإمكان ابعاد «القوات» عن الحكومة، لولا التدخلات، التي ترغب في الحفاظ على توازنات في الدولة، أو داخل الكيانات الطائفية، في مرحلة البحث عن «جغرافيات» جديدة للطوائف، لأن تعبّر عن ذاتها..
من كسر ثنائية الميثاق (مسيحي – اسلامي) إلى انعاش ثنائية تمثيل الطوائف، أو ابقائه احادي الوجهة، مثل محاولات التيار الوطني الحر الاستئثار بالتمثيل المسيحي ككل، وليس الماروني وحسب، ومحاولة الحزب الاشتراكي الاستئثار بالتمثيل الدرزي، باسم «الخصوصية» التي تجعل حقوق الطوائف رهينة حصرية «حق الزعيم» ولو كان غير مستند على حق إلهي، أو انتخابي، أو وراثي، أو حتى مرتبط بالقوة المسلحة.
كانت «القوات اللبنانية» من الناحية التاريخية القوة المسلحة لحماية المجتمع المسيحي «فوق أي اعتبار»، ولم يكن انفتاحها على التسوية، سبباً في انتقالها إلى «القوة المدنية»، وليس الاقتصار على القوة العسكرية، ليعطيها القوة الشرعية في التمثيل، سبقها التيار الوطني الحر، إلى الائتلاف الديني الممثل.. وهنا محنة الأزمة، المفتوحة، داخل الطائفة المسيحية، المؤسسة، ولكن المتراجعة!