كتبت غادة حلاوي في صحيفة “نداء الوطن”:
بينما تستمرّ هيئة التفتيش القضائي في تحقيقاتها، أحالت إلى المجلس التأديبي عدداً من القضاة بعد تحقيقات أجرتها معهم، وأوصت وزير العدل ألبير سرحان بوقفهم عن العمل، ليصل عدد القضاة المحالين الى التأديب سبعة قضاة حتى الآن.
على الرغم من أن هذه الإجراءات طبيعية وتتكرّر، إلا أن ثلاث مشكلات رافقتها. تتمثل الأولى في تسريب الأسماء خلافاً للقانون رغم عدم ثبوت أدلة الاتهام على بعضهم. والثانية أن عملية التفتيش القضائي طالت قضاة حوّلوا الى المجلس التأديبي، في حين لم تحرّك ملفات لزملاء لهم.
أما المشكلة الثالثة فهي أن الثقة بالقضاء ليست على ما يرام نظراً لما ينشر من تفاوت في التشدد والتراخي في الإجراءات والأحكام التي تتخذ في القضايا المشابهة.
منذ عامين تقريباً، انطلقت حملة إعلامية سياسية، تنادي بما سمي مكافحة الفساد في لبنان. التي لم تكن وفق رأي الكثيرين داخل البيت القضائي مبنية على أسس مناقبية بل سياسية بهدف “الحرتقة”. وفي أوج هذه الحملة، ألقت شعبة المعلومات القبض على أحد كبار تجار المخدرات في البقاع المدعو م. م لتكون المفاجأة بعد فترة صدور قرار قضائي بتخلية سبيله، بناء على تقارير طبية تؤشر إلى إصابته بمرض مميت، تبين عدم صحتها لاحقاً. تكثفت التحقيقات بعدها، ليتم اكتشاف سلسلة من الاتصالات طالت إحدى المحاميات (موقوفة حالياً في ملف مختلف) وطبيب شرعي والقاضي الذي أصدر قرار تخلية السبيل. أحيل الملف الخاص بالقاضي الى النيابة العامة التمييزية، التي أحالته بدورها الى التفتيش القضائي. استمرّت التحقيقات ليتكوّن ما بات يعرف بملف “السماسرة القضائيين”، وأشهر هؤلاء المدعو ج. س.
عندها بدأ التفتيش القضائي يستند في إجراءاته الى تحقيقات شعبة المعلومات التي حصلت تحت إشراف النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان، وتوسّع بالتحقيق مع كل قاضٍ ورد اسمه في ملف السماسرة القضائيين، وانتهى إلى إحالة خمسة قضاة الى المجلس التأديبي، موصياً وزير العدل البيرت سرحان بإيقافهم عن العمل. وبسرعة قياسية أصدر سرحان خمسة قرارات بوقف خمسة قضاة عن العمل موقتاً إلى حين البت بمصيرهم من قبل المجلس التأديبي.
بيتر جرمانوس
وفق مصادر قضائية “انطلقت الأمور بالصدفة، منسجمةً مع الحملة ضد الفساد، وارتكزت في البداية على معايير مهنية وموضوعية”. وفي مرحلة ثانية، واستكمالاً لملف التحقيق مع السماسرة، برز اسم مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية بيتر جرمانوس، كأحد القضاة الذين أتى على ذكرهم المدعو جوزف سكاف بوصفه صديقاً مقرّباً منه أو يعمل لديه بصفة مستشار.
وإلى جانب جرمانوس، ظهر اسم عماد زين، قاضي التحقيق الأول في البقاع، وكان أغلب الظن أن مصيرهما سيكون كمصير الخمسة الآخرين، لكنّ الأمور لم تكن وفق المتوقع. وبدلاً من توقيفهما عن العمل، بناء على توصية التفتيش القضائي، برز رأي سياسي يتحدث عن استهداف لقضاة من جهة سياسية واحدة، وقرّر رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل حماية جرمانوس وتحويله إلى أداة لتصفية حساباته مع المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان، استكمالا للخلاف الذي وقع بينهما على خلفية ملف سوزان الحاج.
ورغم اعتراف السماسرة بعلاقتهم معه، استمر جرمانوس في ممارسة عمله كالمعتاد. يشارك في الاحتفالات محتلاً الصفوف الأمامية، ويحضر اجتماعات المجلس الأعلى للدفاع رغم وجود مدعي عام التمييز بالانابة عماد قبلان ما جعل الأمور تتخذ طابعاً سياسياً نافراً، ليصل الأمر إلى مارسة ضغوط سياسية على وزير العدل لمنعه من إصدار المزيد من قرارات الوقف عن العمل.
يتخوف القضاة من توقف الحملة نتيجة التدخلات السياسية، ويعول هؤلاء على وزير العدل الذي كان من القضاة الإداريين الكبار، في السير قدما بما يخدم الجسم القضائي وينقذ سمعته. ولكن ربما كان السبب الحقيقي في صلاحية السلطة التنفيذية المتشابكة مع العمل القضائي، اذ ان صلاحية الوزير واضحة في الإحالة من عدمها. لكن طالما ان الامر قضائي وليس ادارياً فلماذا أعطى المشرع هذه الصلاحية للوزير وفيها استنسابية واضحة وبالتالي لن يفرط بها هو او غيره من الوزراء الذين توالوا على هذا المنصب.
على الرغم من ذلك، ترى مصادر قضائية “صعوبة طي الملف” لأسباب عدة منها وجود تيار قوي في القضاء لن يقبل بطيه، والسبب الثاني أنه ما زال مربحاً للسياسيين.
وفي حين توقعت مصادر متابعة استمرار جرمانوس في مهامه الى حين صدور التعيينات القضائية المعطلة حالياً، افادت معلومات لـ”نداء الوطن” أن وزير العدل، بات في وضع قد يدفعه الى مخالفة توجهات فريقه السياسي واتخاذ قرار بشأن جرمانوس الذي تحول إلى عبء على رئيس الجمهورية العماد ميشال عون. وقالت إن لا تشكيلات قبل تعيينات النيابة العامة التمييزية، وأن المرجح هو استبدال رئيس مجلس القضاء الاعلى.
وإزاء الواقع الراهن ينقسم الجسم القضائي بين فئتين، فئة منتفعة أو مسيّسة، لا تعوّل على إمكانية النهوض بل تستأنس بالواقع القائم وتستفيد منه، وفئة أخرى، وهي كبيرة، يؤلمها الوضع القائم وترى فيه ضربة قوية جداً لفرصة النهوض بالدولة، إنطلاقا من قضاء مستقيم ونزيه، ومتعاون مع الساسة بالمعنى الإيجابي، لا تابعاً للساسة وأداة في أيديهم . ويبقى الحلّ المنطقي لهذه المعضلة، من وجهة نظر قضائية، هو انتخاب غالبية أعضاء مجلس القضاء الأعلى، وهذا أمر يمكن تطبيقه بسرعة ويمكن أن تبدأ نتائجه بالظهور خلال سنوات قليلة، لأنه في حال باتت الغالبية منتخبة لن تخاف عندها من السلطة السياسية.