كتبت رلى موفّق في صحيفة “اللواء”:
لا رغبة بـ «لهب التوقّعات» ومجموعة الرؤساء ماضية بالعمل اللازم لترجمة النيّات إلى أفعال
يُدرك الرئيس فؤاد السنيورة، العائد لتوّه من المملكة العربية السعودية بعد لقائه والرئيسين نجيب ميقاتي وتمّام سلام خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في قصر السلام بجدة، أن ولادة «مجموعة رؤساء الحكومات السابقين» وكأنها مشروع مؤسسة هو أمر غير مسبوق في الحياة السياسية اللبنانية. واللقاء مع القيادة العليا السعودية شكلاً ومضموناً يحمل في طياته نمطاً جديداً ربما فرضته دقة المرحلة والظروف التي يمر بها لبنان والمنطقة.
العاهل السعودي لبّى طلب الرؤساء الثلاثة الذين طلبوا موعداً للقاء منذ أربعة أشهر، ونسّقوا مع الرئيس سعد الحريري قبل الزيارة، قاطعين الطريق على أي تأويلات أو تفسيرات قد يقفز إليها البعض مغايرة لما ترمي إليه «مجموعة رؤساء الحكومات السابقين». في أصل الفكرة الشعور بالحاجة إلى وضع ما لديهم من خبرة بتصرّف رئيس الحكومة والدولة اللبنانية في وقت تطغى فيه الدويلات على الدولة، ويتم الابتعاد عن الدستور والممارسات المؤسساتية الصحيحة، ونشهد فيه اجتياحاً لـ «اتفاق الطائف»، ومحاولات للنيل منه، أو خلق أعرافٍ ترمي إلى تعديله بطريقة أو أخرى. وبات معه لبنان يُعاني من مشكلات ناجمة عن تخريب يحصل لعقول اللبنانيين، بحيث أصبحت الأزمات متداخلة ومتشابكة، وما عادت تصلح المعالجات بالأدوات المالية والهندسات النقدية، على أهميتها، بل باتت تتطلب حلاً في السياسة، وقوامه عودة الانتظام العام إلى مؤسسات الدولة.
على أن تفاقم الخلل والمخاطر التي تُحيط بلبنان والأوعية المتصلة في المنطقة، وتأثير ما يجري في بلد على آخر، فضلاً عن الحاجة إلى استعادة الدور العربي، ولا سيما دور المملكة التي لها الدور الأساس في صناعة «الطائف»، من أجل العودة إلى «قوّة التوازن» وليس مبدأ «توازن القوى» الذي يُفضي إلى حماسة كل فريق لتحسين أوضاعه لفرض شروطه على الفريق الآخر، هي من الأسباب التي استدعت «لقاء المصارحة» وشفافية في مقاربة واقع الحال اللبناني سواء في الداخل لجهة الخطر على الدستور الذي يحتضن دقائق الميثاق الوطني، ولجهة تلاشي النظام والقانون في الدولة أو في العلاقة مع المحيط العربي لجهة الخروج عن الالتزام بسياسة النأي بالنفس وإضفاء صبغة لا تشبه ثقافته. وبات لزاماً مع ما أنتجه هذا الواقع من تحديات وأزمات التحرّك في اتجاه العمق الطبيعي للبنان لاستعادة المظلة التي فقدها وتأكيد أهمية استعادته دعم المملكة سياسياً واقتصادياً، واتساع مساحة الاحتضان العربي إلى القاهرة التي كانت تاريخياً تلعب مع الرياض دوراً رئيسياً في الحفاظ على التوازنات فيه وعلى سيادته واستقلاله إزاء جنوح بعض الدول العربية في التعاطي معه. كما بات لزاماً طلب دعم المملكة اقتصادياً وسياسياً.
وإذا كان رؤساء الحكومة السابقون قالوا ما عندهم في حضرة الملك سلمان ووزير الخارجية إبراهيم العساف، فيبقى السؤال الأهم: ماذا سمعوا من السعوديين؟ وهل كانت ثمة استجابة لما طرحوه؟
في طبعه وسلوكه، فإن الرئيس السنيورة لا يغادر منطقة الحذر في إجابته على أسئلة وتساؤلات تُطرح عليه أو نقاشات تدور معه، حتى ولو كانت في جلسة دردشة مع ثلة من الصحافيين بعيداً عن آلات التسجيل. ما قاله إن الملك تحدث بحنين عن ذكرياته في لبنان، وعن طبيعة اللبنانيين الذين يتخاصمون نهاراً ويتسامرون ليلاً، وأنهم لمسوا إدراكـاً سعودياً واسعاً بأن الوضع العربي يشهد جزءاً من المشاكل ذاتها مع اختلاف الساحات، وأن لبنان يتأثر بما يحصل في اليمن أو سوريا أو غيرها من الدول العربية كما يؤثر فيها. وقد حرص الرؤساء على أن يعكس البيان الصادر عنهم بدقة ما جرى في اللقاء وذهبوا إلى انتقاء الكلمات والتعبيرات التي استعملها الملك في اللقاء.
وفي قراءة السنيورة أن اللقاء لم يأت بشكل منفصل عن مسار أرادت المملكة تظهيره حيال علاقتها بلبنان، من الاتفاقيات العشرين التي جرى العمل عليها مع لبنان وتنتظر التوقيع، إلى قيام وفد مجلس الشورى السعودي بزيارة هي الأولى من نوعها إلى لبنان، إلى زيارة قائد الجيش العماد جوزاف عون، فزيارة رؤساء الحكومات السابقين، والتي ستتبعها لقاءات أخرى. السعوديون واعون لحجم «الفتنة المتنقلة» ومراميها وتداعياتها على الدولة والدستور، وأبدوا اهتماماً شديداً. لكن السنيورة لا يهوى أن «يُلهب التوقعات» حول الخطوات التي ستتخذها الرياض، لكنه يؤكد مثابرة «المجموعة» على القيام بالدور والعمل اللازمين من أجل ترجمة النوايا التي سمعوها. وهم إلى الهاجس الوطني الذي عبّروا عنه، شرحوا الحاجة إلى إيلاء المملكة الرعاية للمؤسسات الإسلامية الاجتماعية.
فالإحساس بالضرورة والحاجة إلى المبادرة من أجل دعم لبنان، ليس فقط مادياً بل معنوياً، كان الحافز وراء لقاء جدة مع الملك. البعض يُشكّك بما يمكن أن ينتج عن الزيارة ما دامت لم تتضمّن لقاءً مع ولي العهد محمد بن سلمان، غير أن السنيورة يرى أن فريق عمل بن سلمان كان حاضراً في المحادثات. الرؤساء عادوا بيقين أن المملكة مع دعم الدولة، وعلى استعداد أن تساعد، ولكن إن لم يُبدِ أهل الدولة إرادة فعلية بذلك، فإن أحداً من العالم لن يساعد لبنان. أقل ما هو مطلوب في الواقع الحَرج، ومع اشتداد العقوبات، أن يتم أخذ مسافة عن كل ما يجعل لبنان يتورّط بشكل أكبر.
ولكن ما الخيارات المطروحة؟ يُبادر السنيورة إلى التأكيد أن الخيارات ليست كثيرة، بل باتت محصورة. فقد وصلنا إلى نقطة حيث لم يعد لدينا ترف الانتظار ولا ترف الاختيار. الوصفة واحدة، تشمل إلى الأدوات النقدية والمالية والإدارية، الذهاب إلى المعالجة السياسية بالعودة إلى احترام الدستور. مبررات هذه الوصفة تقود السنيورة إلى التعبير عن اقتناعه بأن رئيس الجمهورية أساء فهم الدور الذي أناطه به «اتفاق الطائف» الذي أصبح دستوراً، وهو دور الجامع للجميع الذي يرتفع بأدائه والذي بيده «سلاح نووي» هو حماية الدستور. فحين يكون في موقع الدفاع عما هو مؤتمن عليه، لا يستطيع أحد مواجهته، مستهيناً حتى بـ «عنترة بن شدّاد» في هكذا منازلة. فالقوة التي يتمتع بها هي تلك القوة الناعمة التي تتجلّى بكونه مقبولاً من الجميع، وليس القوة الناجمة عن العضلات.
وعلى أن حجم التحدّيات الماثلة يؤول راهناً إلى فكرة تأسيس «مجلس حكماء» لتلاقي مجموعة من رؤساء الجمهورية السابقين ورؤساء الحكومة السابقين وشخصيات رافقت عن كثب «اتفاق الطائف» بهدف العمل على تصويب الممارسات الخارجة عن الدستور، والتي تصبغها سمة اجتياح المؤسسات الدستورية لبعضها البعض ومحاولة ضرب صلاحياتها، وما يُحدثه ذلك من خلل داخلي بات يُهدّد النظام السياسي. المطلوب اليوم هو تحسين إدارة التسوية ليس أكثر، يقول السنيورة. وهذا لا شك يتطلب تحسين القوة التفاوضيّة!.