كتبت غادة حلاوي في صحيفة “اللواء”:
أين النائب نهاد المشنوق؟ لم نرَه في ممرات مجلس النواب ولا على مقاعده. لم نلمحه يحضّر أوراقه ليلقي كلمةً، ولا صادفه صحافيون في المقاهي المحيطة بمجلس النواب، حيث اعتاد أن يمضي أوقاته قبل الجلسات وبعدها.
المشنوق استطاع أن يفرد لنفسه مساحة خاصة به، مؤيّداً كان أم معارضاً. وبنى أخيراً مسافةً مع الجميع، بمن فيهم “تيار المستقبل”، وتحديداً رئيسه. فهو يكاد يتعاطى في العمل السياسي الداخلي كأنّه الرجل الثاني، أو أنّه رجل الظل، أو حتّى اكثر احياناً. كان مستشاراً لصيقاً بالرئيس الشهيد رفيق الحريري، ويعرف محيطوه أنّه كانت له حظوة خاصة، يكاد لا يرضى أن يكون له مثيلها عند الإبن.
كبُر نهاد المشنوق كثيراً. وزارة الداخلية كانت “حكومة كاملة”. من يدير “الداخلية”، أو من يعرف كيف يديرها، يمكنه أن يقترب من إدارة جزء كبير من لبنان. ومع الوزارة باتت علاقاته، في الداخل والخارج، أكبر من أن يستوعبها الحريري الإبن.
من تابعوا المشنوق في “الداخلية” رأوا كيف صبغها بألوان تطلعاته المتعدّدة. كاد يصير وزير خارجية، لكثرة لقاءاته مع السفراء، ولكثرة أسفاره بين دول العرب وأوروبا، في لندن وباريس وروما، وصولاً إلى موسكو وواشنطن، وليس انتهاءً بدبي وأبو ظبي، وكان ختامها مسك في استقبال ملكيّ حافل في السعودية، في وقت كان وزير تصريف أعمال يودّع “الداخلية”.
هذه الهامة التي بناها المشنوق أزعجت القريب والحليف، قبل الخصم والبعيد. فكان مثار جدل، ولا يزال. وبعدما وقعت الواقعة بينه وبين الحريري، وابتعد بعد خروجه من “الداخلية”، بعث إشارات الى أنّه “طُعن من ماكينة المستقبل الانتخابية”. وهو صارح الحريري بمكامن الطعنات في ظهره، ودلّه على خريطة المتآمرين، قبل أن يدير ظهره.
بعض المحيطين بالحريري يقولون إنّه لولا سعد، لما دخل المشنوق جنّة الوزارة مرّتين متتاليتين. لم يُنقل عن المشنوق إنكاره، بل اعترافه دائماً بهذا الأمر وكان يقدّر تسمية الحريري له وزيراً للداخلية في حكومتين متتاليتين. لكن ألم يسدّد المشنوق بعض ما عليه من منبر دار الفتوى، حين ظهر كأنّه مستعدّ للانتحار السياسي وسط صمت مريب من كل الطاقم المحيط بالحريري، حتى لا نقول إنّ هناك من كان يحضّر نفسه للوراثة. يومها وقف وقال: “نريد الرئيس وبعدها لكلّ حادث حديث”. وأردف حينها: “لسنا غنماً”. ومشت الجملة كالنار في الهشيم السنّي الحائر…كبُر حينها نهاد المشنوق أكثر فأكثر.
لكن أين هو اليوم؟ ألم يكتفِ بالابتعاد عن جلسات “كتلة المستقبل” النيابية؟ هل ابتعد عن مجلس النواب كلّه؟
يغيب الرجل الغامض اخيراً عن جلسات مناقشة الموازنة. هو اعتذر من الأمانة العامة لمجلس النواب، بداعي السفر، حيث يشارك في ندوة حول “الاعتدال السني اللبناني والإرهاب” في بروكسل.
وربما لا يريد أن يقول ما في جعبته باكراً. كلامه عن الموازنة قد يكون ثقيلاً على مهندسيها. لكنّه قبل أيام شارك على صفحتيه في فيسبوك وتويتر، كلام رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع عن الموازنة، وكاملاً. وعنونه: “سمير جعجع: الدقّة وسط الفوضى السياسية”. وزاد منتقياً من كلام جعجع: “زيارات وتصاريح جبران باسيل أعادت إحياء جوّ الحرب الأهليّة”، و”لن تستقيم أمور لبنان والمواطنين طالما هناك سلاح غير شرعي”، و”وجدنا الموازنة عادية بلا إصلاحات وسنصوّت على بنود فيها”.
فهل قرّر المشنوق أنّه بات أقرب إلى جعجع، من الحريري، في مقاربة الموازنة؟ هل يرى أنّ نقاش الموازنة يشبه النقاش الذي سبق إقرار قانون الانتخابات النيابية؟ يومها سجّل المشنوق اعتراضه على القانون في محاضر مجلس النواب، وصوّت ضدّه. وخرج إلى حملته الانتخابية ليسمّيه “قانون قايين وهابيل”. وفعلاً صدقَت نظرتُه. فخرج من الانتخابات ليعلن أنّه “طُعنَ” من أهل بيت المستقبل. كانت نظرية “قايين وهابيل” دقيقة، بل كان يتحسّس إخوته حين أطلقها.
بحسب عارفيه، يتحدّث المشنوق في مجالسه الخاصّة عن أنّ الطريقة التي هُندست بها الموازنة كانت خاطئة، في الشكل والمضمون. كل كلام الموازنة خارج المسار الإصلاحي الجدّي. أما مؤتمر “سيدر” الذي يلوح في الأفق فيشبه الرهان عليه في الموازنة الرهانَ على قانون الانتخاب الذي أوصل البلد، وخصوصاً القوى السيادية، إلى المأساة التي نعيشها اليوم. وهذا يقود إلى استنتاج أنّ المشنوق لو شارك في النقاشات الدائرة داخل المجلس لكانت مداخلته قاسية، إلا أنّ وقت الكلام لم يحِن بعد.
حركة رؤساء الحكومات واضحة وجديّة بالنسبة إليه. وهي تدلّ على أنّها محاولة لتصحيح المسار. ونائب بيروت لطالما أكّد أنّ المشكلة ليست في التسوية الرئاسية، وإنما في إدارتها الفوضوية والخاطئة، وفي التفريط بموقع الرئاسة الثالثة وصلاحياته، وفي التعيينات وغيرها وغيرها من الملفات.
في الأساس لم يكن المشنوق غائباً. وهو كان أوّل من بادر إلى تحريك موضوع صلاحيات رئيس الحكومة لحظة شعر بخطر جدي، فقال ما قاله من على منبر “دار الفتوى”، وأكمل بعده رؤساء الحكومات بعد يومين، ثم استكمل المفتي عبد اللطيف دريان كلامه في خطبة العيد، وانتهت ملاحظات المشنوق داخل خطاب الرئيس الحريري حين عاد من إجازته في المؤتمر الصحافي الذي عقده في السراي الحكومي.