كتبت نوال نصر في صحيفة “نداء الوطن”:
“لأن حدود قدرة الإنسان على الإدراك هي حدود ما يمكنه إدراكه” قررنا أن نعبر الى الحدود اللبنانية- السورية لنرى، بالعين المجردة، حال ما هو أبعد من الحدود المرسومة لنا. هناك، عند حدود قرى وادي خالد، أدركنا حدوداً أبعد وتفاصيل من تفاصيل مشهد الحدود اللبنانية- السورية “العكارية” والنهر الكبير الجنوبي تستحقّ أن تُروى:
تهريب؟ حدودٌ مفتوحة؟ حدود مقفلة؟ شرعية؟ أمن وأمان؟ كيف حال الحدود اللبنانية- السورية؟ وماذا عن سكان قرى وادي خالد الواقعة على الحدود الشمالية الشرقية للبنان؟ الكلامُ كثير لكن ماذا عن الواقع؟ ماذا عن تلك الحدود البريّة الفاصلة بين بلدين؟
كلما توغلنا جغرافياً أكثر في اتجاه الشمال كلما عامت ذكريات ثورة الأرز وصوَر الشهيد رفيق الحريري والشيخ سعد (الحريري) وعبارات “من الرفيق الى سعد مستمرون”. وأحمد الحريري له من الصوَر المتوّجة بكلمة “الأمين” حصة الأسد.
شمس تموز تشرق والهواء الشمالي عليل. نعبرُ “قلعة المسلمين” – طرابلس ونتابع في اتجاه قرى قضاء عكار- حلبا، بنين، قبة شمرا، كورانية، أبو عدر، قعبرين، تل عباس، عفرين، البحصة، الشيخ عباس، الشيخ عياش، الشيخ لار، الشيخ طابا، الشيخ محمد. حتى البلدات اللبنانية “تُعظّم” بألقابٍ وأوصاف.
هنا الجمارك…
نصل الى مركز جمارك العبودية. النقطة مهجورة لكن لا شيء يشير الى نقطة الإنتقال. وفي الجوار مكتب وأسماء: العميل الجمركي القانوني مصطفى القدور. العميل الجمركي القانوني ياسين القدور. آل القدور لهم تاريخ في إدارة الجمارك في العبودية، كما يبدو. على بُعد أقل من مئة متر آرمة تحدد الإتجاه: حمص. والى يسار الآرمة مركز وعبارتان: قاعة المغادرة الى سوريا وقاعة الوصول الى لبنان. المركز أيضا مهجور. نتمهل. نتوقف. النوافذ محطمة. النفايات تتراكم. وفجأة يُفتح الباب ويطلّ عنصر من قوى الأمن العام مستغرباً: ماذا تفعلون هنا؟ صحافة. هل التقطتم صوراً؟ نعم! منعنا “العنصر” من المغادرة الى حين يأتي المسؤول. إنتظرنا على مفترق طريق لبنان- حمص. وصل “مسؤول” في الأمن العام- دائرة الشمال الثانية. محا كلّ الصور التي التقطتها كاميرا “نداء الوطن” وهو يُخبرنا عن انتقال مركز الجمارك الى الحدود. أخذ الأسماء والأرقام وسأل عن طبيعة التحقيق الذي ننوي إعداده. دقّ “سرفيس” يمرّ زموره فقال العنصر: ثلاثة أرباع اللوحات الحمر هنا ملونة مزورة. نضحك؟ نسأل؟ قررنا السكوت. دلنا “المسؤول” على الطريق نحو وادي خالد وهو يخبرنا أن الطريق الى هناك، وتستغرق 45 دقيقة، غير آمنة. ماذا يعني هذا؟ إذا رآكم أحد من الطرف السوري تلتقطون صوراً سيرميكم برصاصاتٍ تصيب. انتبهوا.
نعود؟ نتراجع؟ تقدمنا صعوداً صعوداً نحو وادي خالد. الطبيعة رائعة. أشجار السنديان تتعانق قبل أن تعود وتفترق كاشفة جمال هذه الأرض. نعبر بلدات نورا، الدبابية، “لمبات” توفير تُركّب في الجوار. تُرى هل مرّ وزير الخارجية (جبران باسيل) أو سيمرّ من هنا؟ يسأل سائق مركبة. البيوت ملونة بالزهر والأحمر الفاقع والأخضر. كنيسة “للنبي الغيور إيليا”، يعمل على تركيب قرميد في ساحتها عاملان، سوري ولبناني. إستراحات تتناثر على الميلين وأراض كثيرة معروضة للبيع، سعر المتر المربع لا يزيد عن خمسة دولارات.
شوارع “برتقالية“
لا شيء يشي بخطرٍ ما. لا مخيمات سورية في الجوار. لا وجوه تثير الريبة والحرّ خفيف. الأجواء جدّ لطيفة. مسجد أم القرى ظاهر للعيان من بُعد. الأتراك ساهموا في بنائه. نتابع طريقنا نحو الشوارع البرتقالية. كُلّ الأحياء مرمزة برقم: الشارع البرتقالي رقم 1…الشارع البرتقالي رقم 2…
هنا شدرا. عند مفترق شارع الأب نقولا الخوري رقم 4، نزولاً نحو قرى وادي خالد، حاجز تتشارك فيه سرية المراقبة الأولى- الجيش اللبناني وفوج الحدود البرية الأول. قف حاجز. توقفنا وأوقفنا. أخذوا الأوراق. انتظرنا أكثر من ساعة بحجة أن المرور نحو قرى وادي خالد يحتاج الى إذن. النزول من المركبة ممنوع. الناس يعبرون نزولاً وصعوداً ونحن ننتظر. صورة النائب هادي حبيش أمامنا وأشجار الزنزلخت حولنا. والجمعيات الإنسانية كثيرة. أخذنا قيلولة. أخذنا نفساً عميقاً. وبعد أكثر من استفسار أتى الجواب: ممنوع دخول الصحافيين الذين لا يحوزون موافقة من قيادة الجيش ومن مديرية المخابرات. موافقة؟ أليس من حقّ الصحافيين الإطلاع على تفاصيل أرض لبنانية؟ يجيب عنصر “والله ما خصني… هيدي التعليمات”.
من أجل أمننا منعنا من العبور الى قرى وادي خالد. وإذا كان الأمن غير مستتب هناك فلماذا يُسمح لعموم الناس بالذهاب والإياب؟
عدنا أدراجنا قليلاً الى الوراء. توقفنا في جوار مسجد أم القرى. مجموعة نساء سوريات ولبنانيات يشربنَ القهوة. أطفالٌ يلعبون. نسألهم عن الحال في المناطق الحدودية؟ يصرخون: “جوعانين”. ينضم إلينا رجل كان نائماً: “كنت أعمل “فاعلاً” لكن لا مياه للزرع. لا مستشفى. أقرب واحد هو مستشفى السلام. ولدي يستأجر “فان” يومياً بـ 40 ألف ليرة و”ما بيطلّع ليرة”.
القبور البيض
بالقربِ من المسجد شاب ملتح، يرتدي عباءة، يُعرّف عن نفسه: أنا إمام المسجد بكر محمد. وهذه المنطقة، بالقربِ من شدرا تُسمى “القبور البيض”، وهي ليست مسجلة على الخريطة الجغرافية اللبنانية. نحن نحاول أن نضمها الى عيدمون. أجدادنا عثمان وعلي حين حضرا الى لبنان، إشترى أحدهما عيدمون واشترى الآخر هذه الأرض ووجد فيها قبراً منحوتاً أبيض فسمى الأرض “القبور البيض” وعُرفت لاحقا باسمِ أم القرى. فتح عمي ملحمة سماها أيضا أم القرى. وهكذا اختلطت الأسماء ببعضِها. نسمع الإمام يتحدث عن أمور “مخلوطة” ومختلطة فنعرف كم هي المسائل في هذه البقعة الجغرافية ضائعة.
إمام البلدة الضائعة من جذور تركية. بلداتٌ كثيرة تركية في الجوار. وتركيا ترسل أساتذة لتعليم أهالي هذه البلدات اللغة التركية ومن ينجح، ويأتي بعلامات عالية، يربح رحلة الى تركيا. السفير التركي زار “القبور البيض” مرات. يُخبر الإمام هذا متطرقاً الى وجع كثير من الناس. لكن السؤال: ماذا عن التهريب عبر الحدود البرية؟ يجيب: “نقلة بطاطا على بيروت كل عشرة أيام”. لكن ماذا عن شاحنات الماشية التي نراها تروح وتجيء من والى قرى وادي خالد؟ ماذا عن المسارب على النهر الكبير؟ يجيب بسؤال: “أتريدون الذهاب الى هناك؟”. ذهبنا.
ثمة طريق محفورة، مفلوشة بالبحص، على يسار الطريق العام، تقودنا الى النهر الكبير الجنوبي. هناك، على طول هذا النهر، الذي يُشكل الحدود بين محافظة طرطوس السورية وشمال لبنان، ومعظم ينابيعه سورية ويصبّ في البحر الأبيض المتوسط عند بلدة العريضة. هذا في الجغرافيا. ماذا في الواقع؟ ماذا يحصل عند هذا النهر الذي يقترب جداً في قرى وادي خالد من الحدود اللبنانية- السورية ويبتعد أكثر في القرى الأبعد.
مسارب النهر الكبير
ندخل في الحرج. ندخل في العمق. ترابٌ وأشجار غار ومشهد رائع، على مدّ النظر، حدوده سوريا. نتابع نحو الداخل، بين الأشواك، ثمة عائلات تعيش في البراري. هي عائلات مكتومة القيد. إمام المسجد يتعثر مرات على الطريق لكنه يتابع إخبارنا عن المواطنين الذين ينزلون الى النهر لاصطياد السمك النهري “ثمة صيادون من الجانب اللبناني أما سوريا فلغمت بعض الأماكن الحدودية”.
هل نفهم من هذا أن التهريب محال؟ يجيب مزارع: “المهربون يعرفون جيداً أماكن التلغيم”، وعابرو الحدود يختارون المواقع الفاصلة الأقرب، “يشمّرون” عن أقدامهم وينتقلون من ضفة الى ضفة.
كلامٌ كثير يسري بين سكان الأحراج عن أمنٍ استتبّ بعد أن أحكم النظام قبضته على القرى الحدودية مع لبنان. نشعر “بأسدية” هؤلاء أكثر من لبنانيتهم. ثمة حمار متروك في الحرج. الحمير ثروة توازي قيمتها هنا قيمة الأرض. التهريب يتمّ على الحمير والبغال والكدش. تهريب الأعلاف كثير ومهربو الغنم يراكمون ثروات. ثمة بنفسج بريّ ونبات “البطة النهرية” وأشجار زنزلخت. غنية هذه الأرض بهذا النوع من الأشجار. وهناك سنابل قمح. القمح لا يعوز ماء كثيراً، وهذه الأرض شبه قاحلة.
نحاول التقدم أكثر نحو النهر الكبير الجنوبي، في عكار الشمالية. الطريق طويلة. التراكتورات يمكن أن تمر. نحاول الإستعانة بتراكتور معلم حسن لكن رائحة روث الأبقار والماشية المنبعثة تمنعنا. الإقتراب من النهر أكثر خطراً. ثمة من يراقب من الجهتين اللبنانية والسورية. مياه النهر الكبير لا تجف صيفاً. وسوريا تظهر أكثر. هنا حالات وهناك البهلونية وهنالك تل كلخ. يدلنا إمام مسجد أم القرى الى البلدات السورية المحاذية. ثمة مركز للجيش اللبناني على النهر مقابل مركز للجيش السوري على النهر.
الحدود البرية طويلة وغير سهل إحكام القبضة على معابر التهريب وأهالي البلدات المحاذية “عمرهم ما فرقوا بين لبنان وسوريا”. إمام المسجد خطب ثلاث مرات في مساجد قرى وادي خالد وتقرّب من ناسها واكتشف عاداتهم وتقاليدهم وخرج بيقين: “الأهالي طيبون لكنهم سوريون بقدر ما هم لبنانيون، وهناك من قتل منهم، منذ فترة، عنصراً في المعلومات. ثمة إرهابيون هناك. وثمة حدود فالتة”. نصدق؟ لا نصدق؟
حاولنا اكتشاف الحقيقة بأنفسِنا لكننا، بأمرٍ من الدولة، منعنا من العبور الى قرى وادي خالد اللبنانية.
يملكُ والد الإمام 250 قفير نحل. سكان الحدود أوجدوا مصادر رزقهم وفق قاعدة “بالموجود جود”. وثلاثة أرباعهم “في الدولة”. الإنتماء الى مؤسسة الجيش اللبناني ملجأ العكاريين.
الحاجز الفاصل بين لبنان ولبنان، بين قرى وادي خالد ولبنان، يتشدد مع ناس ويتساهل مع آخرين. نتابع بحثنا عن حال الحدود. معين الخوري إشترى للتوّ قطعة أرض قريبة جداً من النهر.
على عينك يا تاجر
بلدات عكار مسيحية وإسلامية. عيشٌ جميل. نتمهل لتناول الغداء فنسمع تاجر ماشية يتذمر: “شاحنات الماشية تأتي من سوريا على عينك يا تاجر”، ويقطع كلامه هدير شاحنة محملة أبقاراً لكنه يتابع: “أملك في وادي خالد مئة رأس غنم وكنت أبيع كيلو لحم الغنم بعشرة آلاف (الخروف الحيّ على القبان) لكن كيلو الغنم الواصل من سوريا يُباع بخمسة آلاف وأحيانا بأقل. باعوه في عيد الأضحى بستة آلاف. هناك، في سوريا، يُطعمون الماشية علف الصوص ويخلطونه مع زيت السمك فتكبر بسرعة وتصبح نسبة الشحوم فيها هائلة. ويصبح لون اللحم يميل الى الأبيض”. معلومة برسم وزارة الزراعة.
دوام التهريب
“تهريب الماشية “ماشي” عبر قرى وادي خالد ثلاثة أيام في الأسبوع الأحد والثلثاء والخميس. وتهريب الحديد والخردة ثلاثة أيام أيضاً الإثنين والأربعاء والسبت ومن لا يُصدق فليرصد الأرض”. تاجر الماشية العكاري يُخبر هذا.
سبعة بيطريين في وادي خالد جميعهم سوريون. وهم يصفون مضادات الإلتهاب السورية الصنع، سعر الدواء سبعة آلاف ليرة بدل دواء “الأمايسين” الذي كان يُعطى للمواشي المريضة. الأدوية تأتي من سوريا وتوزع على من يريد. ويعلق تاجر ماشية: “سوريا تستورد من هنا ما هو لمصلحتها وتُصدّر الى هنا ما هو في مصلحتها. سوريا قوية في منطقتنا”.
هذا المسكين معتمد لدى المهربّين
نعود أدراجنا من “عكار الأبية” بفيلم محت “دولتنا” صوره بحجة أننا التقطنا صوَر مركز الجمارك القديم من الخارج وبمعلومة غريبة: ممنوع العبور من لبنان الى لبنان إلا بإذن مرور عسكري!