كتب صلاح تقي الدين في صحيفة “العرب” اللندنية:
رغم أنّ ما دُرج على تسميتها بـ”المظلة الدولية” هي التي منعت امتداد نيران الحرائق المشتعلة في المنطقة إلى الداخل اللبناني، إلا أن الحادثة التي شهدتها بلدة البساتين في قضاء عاليه والتي ذهب ضحيتها شابان من مرافقي وزير الدولة لشؤون النازحين صالح الغريب، تبدو وكأنها الفتيل الجاهز لإشعال فتنة داخلية قد تتطور لتمتد إلى سائر أنحاء البلد، ولئن كان ظاهرها “خلافاً” درزياً – درزياً بين مناصري رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، ورئيس الحزب الديمقراطي اللبناني النائب طلال أرسلان، إلا أنها كما ظهر من خلال الترددات التي أعقبتها بدت أبعد من هذا الخلاف. إذ لم يكن بطل الحادثة الأساسي أياً منهما، بل كان صهر الرئيس ميشال عون ورئيس التيار الوطني الحر الوزير جبران باسيل.
وقع الحادث فعلياً بعدما اتجه موكب الغريب من بلدته كفرمتى إلى بلدة شملان ليصطحب معه باسيل حيث كان موكبه المدعوم بمؤازرة كبيرة من الجيش اللبناني قد توقف في البلدة بعدما وصلته أصداء الاعتراضات الشعبية “الدرزية” على زيارته والتي توجت بتجمع كبير في ساحة قبرشمون التي تتوسط الطريق بين شملان وكفرمتى.
قبرشمون قبر التفاهمات
إلا أنه واستناداً للمعلومات فإن باسيل كان قد قرّر إلغاء الزيارة إلى كفرمتى كي لا يتعرّض “لإحراج” من المعتصمين وأبلغ الغريب بذلك ما أثار امتعاض الأخير الذي قال إنه على استعداد لاصطحابه لزيارة البلدة مهما كلّف الأمر.
ومع إصرار باسيل الذي كان يرافقه وزير الدفاع إلياس بو صعب، على إلغاء الزيارة، عاد الوزير الغريب، غاضباً، من الطريق نفسها التي سلكها، لكنه فوجئ لدى وصوله إلى مفرق يقع في بلدة البساتين بوجود عائق بشري أمامه، فما كان من مرافقيه إلا أن نزلوا من سيارات الموكب وراحوا يطلقون النار عشوائياً لكي يؤمنوا مرور الموكب، فكان ما كان، حيث سقط الشابان رامي سلمان وسامر أبو فراج من مرافقي الغريب، فيما أُصيب الشاب سامو غصن -17 عاما- الذي لا ناقة له ولا جمل في كل ما جرى، برصاصة في رأسه جعلته طريح المستشفى في غيبوبة منذ ذلك اليوم وحتى تاريخ كتابة هذا المقال.
الاعتراض الشعبي الكبير على باسيل كان نتيجة طبيعية لخطاباته “الفتنوية” المتنقلة التي يستعيد من خلالها نبش قبور الحرب الأهلية السيئة الذكر، والتي شهدت أقسى معاركها الدموية المنطقة التي كان ينوي الدخول إليها. وبدا أنه لم يأخذ بالاعتبار الحالة النفسية والذاكرة الجماعية لأهالي المنطقة، الذين استفزهم قرار الزيارة، حيث كان عليه أن لا يأتي على ذكر بطولاته التي يصفها البعض بـ”الوهمية” في المحطة الأولى من زيارته إلى بلدة الكحالة، الأمر الذي تسبب بحالة الغليان التي شعر بها أبناء المنطقة.
يطالب بعظام الأجداد
ليست المرة الأولى التي يثير فيها باسيل الملقب أيضاً بـ”السلطان” الاعتراضات الشعبية على مواقفه وخطاباته التي تقع على قلوب أبناء المنطقة كالرصاص، فهو في مرحلة الانتخابات النيابية في العام 2018، أعاد نبش القبور والمطالبة بعظام “أجداده” التي لا يعلم أين دفنت و”أجراس الكنائس” التي سرقت، إلى بقية المطالب التي “لا تقف على قوس قزح”، لكن الفريق المؤيد لجنبلاط اعتبرها آنذاك خطابات شعبوية لا تهدف سوى إلى حشد “الغريزة” المسيحية انتخابياً لكي يستفيد منها في صناديق الاقتراع، فتجاهلها ولم يتعامل معها بندية.
غير أن إصرار وزير الخارجية على الإشارة إلى هذا الموضوع في جميع جولاته المناطقية التي دأب على القيام بها، إلى جانب جولاته الخارجية، ترجمه، بفجاجة، في القداس الذي دعا إليه التيار الوطني الحر في بلدة دير القمر في آذار الماضي تحت مسمى “التوبة والغفران” وبحضور جنبلاط شخصياً، فكان بمثابة “الشعرة التي قصمت ظهر البعير”، ولم يعد جائزاً بالنسبة لأنصار رئيس التقدمي السكوت على استفزازات باسيل و”محاصرة” المختارة، رغم دعوات جنبلاط الدائمة إلى التهدئة وعدم الانجرار إلى ما يبتغيه “محدثو النعمة” في عالم السياسة.
وتطوّرت الأمور أكثر بعد حادثة البساتين حيث واصل أرسلان والغريب رفع سقف مطالبهما إلى حدود اعتبار ما حدث بأنه “كمين” عن سابق ترصد وتصميم “لاغتيال” الغريب، وهو وزير في الحكومة، الأمر الذي يحتّم إحالة الحادث على المجلس العدلي، ما أعاد إلى أذهان الاشتراكي مؤامرة إحالة قضية تفجير كنيسة “سيدة النجاة” إلى المجلس نفسه والذي برّأ رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع في قضية الكنيسة، لكنه أدانه في ملفات أخرى فتحها بعدما أسقطها قانون العفو العام الذي صدر عقب انتهاء الحرب الأهلية، فكانت النتيجة سجن جعجع 11 عاما وحلّ حزب القوات.
المفارقة هنا أن التحقيقات الأولية إلى جانب الفيديوهات المصورة التي انتشرت عقب وقوع الحادث تنفي قضية “الكمين”، وتؤكد بالمقابل أن مرافقي الغريب كانوا البادئين في إطلاق الرصاص العشوائي باتجاه المواطنين المعترضين على زيارة باسيل، لكن أرسلان ووزير الدفاع يصران على وجود “كمين” وأن الهدف كان اغتيال الغريب، ما يؤكد أن “ما وراء الأكمة” مؤامرة تستهدف جنبلاط بقصد كسر نفوذه.
وأمام هذا السقف العالي من المطالبات، انقسم البلد عمودياً، فعارض جنبلاط مدعوماً من جعجع ورئيس الحكومة سعد الحريري ورئيس المجلس النيابي نبيه بري إحالة القضية على المجلس العدلي، في حين كان لافتاً إصرار الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله على الوقوف إلى جانب أرسلان “المظلوم والمقتول” كما قال في خطابه نهاية الأسبوع الماضي، ما طرح التساؤلات العديدة حول ضلوع الحزب في مؤامرة “محاصرة” جنبلاط وكسر نفوذه بقرار سوري واضح ينفّذه باسيل وأتباعه.
واستناداً إلى الدستور، فإن إحالة “جريمة” على المجلس العدلي تتم عبر مرسوم يصدر عن مجلس الوزراء، وهذا المرسوم عادي ولا يحتاج سوى إلى تصويت نصف أعضاء الحكومة، وهو متوفر مع الوزراء الـ11 لـلتيار الوطني الحر ورئيس الجمهورية، ووزراء حزب الله الـ3 إلى جانب وزير تيار “المردة”.
ورقة الثلث المعطّل
لعب باسيل ورقة الضغط بمواجهة الرئيس الحريري عندما تعمّد عقب الحادثة عقد “اجتماع” لوزرائه رغم دعوة الحكومة إلى الانعقاد في السراي الحكومي في جلسة عادية، فكانت بمثابة رسالة للحريري من باسيل بأنه يملك “الثلث المعطل” الذي استخدمه في العام 2010 لإسقاط حكومة الحريري الأولى. لكن الأخير ظل صامداً ولم يعلن تأجيل جلسة الحكومة إلا بعد الاتصالات الكثيرة التي أجريت ودفعت باسيل وفريقه للحضور إلى السراي فتأمّن النصاب لكن الحريري رفع الجلسة بعدها فوراً.
فهم الحريري الرسالة ورفض ولا يزال يرفض دعوة الحكومة إلى الانعقاد لعدم طرح مسألة إحالة قضية البساتين على المجلس العدلي رغم أنه أبلغ باسيل “بالواسطة” أن طرح الموضوع على التصويت في مجلس الوزراء “غير مضمون”، أو على الأقل ليس لمصلحته. لكن ذلك أدى إلى شلّ أعمال الحكومة، وأثار المخاوف من الدخول في مرحلة تعطيل ليست في مصلحة “العهد القوي” الذي يدافع عنه باسيل، وليست في مصلحة البلد برمته الذي ينتظر الإفراج عن أموال المساعدات التي أقرها مؤتمر “سيدر”، وهذا الأمر مرتبط بإقرار الموازنة العامة وقطع الحساب الذي يجب أن يحال من الحكومة على المجلس النيابي بعدما كانت أحالت قبل الحادثة قانون الموازنة.
أسئلة كثيرة طرحتها حادثة البساتين منها: هل سيستمر الوضع القائم حالياً على ما هو عليه وبالتالي سيطيح أصحاب الرؤوس الحامية بالسلم الأهلي من خلال الإصرار على الإبقاء على الانقسام العمودي جراء حادثة لا تتعدى ردة الفعل الغاضبة الآنية، خصوصاً أن من يتهم بتركيب “كمين” كان منذ العام 2000 يتعرّض لكمائن من الفريق الذي يتهمه؟
سقوط ورقة التوت
وإزاء هذا الواقع، هل سيشهد الجبل حادثة أمنية أخرى مفتعلة لكي تستمر مفاعيل المؤامرة التي تستهدف جنبلاط الذي أثبت أنه لا يزال الزعيم الأول لغالبية مطلقة من الموحدين الدروز، كل ذلك بهدف إيجاد حيثية لأرسلان الذي لم يتمكن من الاستمرار في “جنة” النيابة والوزارة لولا المقعد الشاغر الذي تركه جنبلاط لأرسلان منذ انتخابات العام 2009 بعدما كان أذاقه طعم الخسارة في انتخابات العام 2005؟
هل بدأ رئيس النظام السوري تنفيذ التهديد الذي نقل عن لسانه عشية اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري بأنه على استعداد لتحطيم الجبل على رأس جنبلاط “لديه دروز ولدي دروز”، لكن ليس من خلال الأقلية الدرزية التي يمثلها أرسلان بل من خلال “الهالة” العسكرية التي يمثلها حزب الله الرابض على مداخل الجبل من الناحيتين الجنوبية والشرقية المتمثل أخيراً بـ”معمل الموت” الذي يقيمه بيار فتوش في أعالي بلدة عين دارة، والذي كان سبباً مباشراً في بداية انهيار علاقة جنبلاط بالحزب؟
يقال “لعن الله من يوقظ الفتنة”، وهي ليست ببعيدة، لكن حادثة البساتين أسقطت ورقة التوت التي كان يتغطى بها باسيل ومن خلفه حزب الله وكشفت حقيقة النوايا المبيتة ضد مكانة المختارة، والفريق السياسي الوحيد الذي لا يزال قادراً على الوقوف بوجه كل مخططات “التسلل” السوري المتجدد إلى لبنان.