كتبت هيام القصيفي في صحيفة “الأخبار”:
من قضاء عاليه إلى الشوف، تركت حادثة البساتين – قبرشمون أثراً سيئاً في الأيام الأولى. تدريجاً، عاد الوضع إلى طبيعته، لكنه خلق تساؤلات عن حقيقة المصالحات، والشائعات، عن الحالة المسيحية، وعن السياسيين والمنافع في تأجيج الأجواء وغياب الكنيسة، وعن الأمن والثقة به
على تلة مشرفة على وادٍ أخضر، يتربع دير مار مارون مجدل المعوش (الشوف) التابع للرهبانية اللبنانية المارونية، يتهيأ للاحتفالات بعيد تلامذة مار مارون. عند مدخل كفرحي، ترتفع صورة البطريرك الراحل مار نصر الله بطرس صفير، عرّاب المصالحة. في بيت الدين، تراتيل عيد القديس شربل تصدح في سماء البلدة الشوفية، على مقربة من القصر التاريخي. في عاليه وبحمدون والباروك زحمة المطاعم شبه طبيعية. وفي دير القمر باصات السياح تملأ الميدان، وكنيسة سيدة التلة تقرع أجراسها.
هذه المشاهد كانت ستختصر أيام الصيف الجبلي، لولا حادثة البساتين – قبرشمون (30 حزيران) التي خلقت حالة مجانية من القلق، وشلّت الحركة في المنطقة، قبل أن تعود تدريجاً، من دون أن تنسحب تماماً انطباعات الأيام التالية للحادثة.
مثّل دير مار مارون الذي أعادت بناءه الرهبانية، وأحيت مدرسته المشهورة، أولى بشائر الاطمئنان لعودة المسيحيين إلى الجبل بعد الحرب الأهلية. هو الذي حضن الهاربين والعائدين، كان ولا يزال عنصر اطمئنان يحجّ إليه سكان المنطقة عند أيّ خطر. هكذا فعلوا أخيراً، لكن الدير أشاع أجواء الاطمئنان. والحديث فيه لا يتعدى كلمة السلام، لا شيء يوحي بالقلق في ذلك الدير الهادئ والصامت. إليه حجّ البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، والسفير البابوي جوزف سبتيري الأسبوع المقبل، في توقيت لافت، ما ضاعف من عوامل التهدئة. في الطريق إليه، وسط لوحات طبيعية خضراء نقية، لا تزال معفاة من التهشيم والمقالع والكسارات، ترتفع لافتات المهرجانات التي تستقبلها قرى المنطقة في أيام الأعياد المتتالية بين شهري تموز وآب. على مقربة من الدير تقع شوريت (الشوف)، بلدة صغيرة، تمثل نموذجاً حيّاً عن البلدات المهجرة – و«النصف عائدة». حين انتهت الحرب، عادت إليها قلة من أبنائها. رغم أن جميعهم تقاضوا «حصصاً» عادلة وأكثر من صندوق المهجرين، إلا أنّ معظم بيوتها لا تزال أعمدة، وتلك المبنية بلا سكان ومعظم أراضيها متروكة، وكنيسة مار يوسف مجرد قاعة. وحدها مدافنها عادت إلى الحياة.
ما حدث في البساتين، ارتدّ على البلدة. الشائعات التي بدأت في عاليه، تشبه تلك التي انطلقت أيام الحرب. من ترك بحمدون وعاليه، وصولاً إلى دير القمر عامي 1977 و1983، سارع إلى توضيب أغراضه وعاد إلى بيروت مطلع الشهر الجاري. وصلت الشائعة إلى البلدة، وهي التي لم يصل إليها الزفت لتعبيد طريقها التي انهارت بفعل سيول الشتاء الماضي. من تركها هو من لا يعيش فيها أصلاً، بل يزورها في عطلة الأسبوع. ومَن بقي هو الذي يعيش فيها، منذ أن انتهت الحرب، ويصعب أن يتركها مهما كانت الأسباب، فكيف إذا كانت مفتعلة وواهية. في مجدل المعوش، يقول أحد أبنائها إن «بعض العائلات تركت، لكن نحن بقينا مع أولادنا. لو كنا خائفين لما بقينا. لا شيء يدعو إلى القلق». يضيف آخر: «كل ما حدث هو بسبب التخويف الذي جرى عبر الشاشات التلفزيونية»!
في الأسبوعين اللذين تليا حادثة البساتين، تراجعت حركة السير والمطاعم، في عاليه والشوف، وانطفأت أنوار بيوت كثيرة. أن يكون الحزب التقدمي الاشتراكي قد أخطأ تجاه الوزير جبران باسيل، أو أن الأخير أخطأ بخطابه، لم يعد مهماً. وليس مهمّاً أيضاً إن كانت المشكلة درزية – درزية أو درزية – مسيحية. المهم كيف انفجر عامل الخوف فجأة، وكيف تراجعت حركة الناس ومن ربح في هذا الإشكال، وكيف صارت «مصالح المسيحيين» – ولا سيما في قطاع المطاعم المنتشرة في الجبال وعلى ضفاف أنهرها – فارغة، ولماذا أُلغيت حجوزات في فنادق دير القمر وبيت الدين؟ يسأل مسؤول أمني: «ماذا ربح التيار الوطني من الإشكال مع وليد جنبلاط، إذا كان جنبلاط قد استعاد دوره عند الدروز، وتعطلت مصالح المسيحيين؟».
في دير القمر لا مجال للقلق. حماية البلدة «منها وفيها». أبناء الدير، لم يتركوها سابقاً، ولن يتركوها اليوم، ولا تعنيهم أي حساسيات. لكن الحادثة تركت ذيولاً اقتصادية، سلسلة الحوادث الساحلية وفي الشوف، أخافت الذين يؤمونها عادة للسهر أو للمهرجانات أو للإقامة في فنادقها. يقول أحد أبنائها: «لولا الخطب السياسية الحامية، لكان صيف الشوف رائعاً». لا يمكن ميدان دير القمر أن يكون أرحب ممّا كان عليه وسط صخب العائدين إليه مراهقين وسياحاً. دوريات الجيش تزيد عامل الاطمئنان، وهواؤها الصيفي يلغي إحساس القلق عند أهلها المنصرفين إلى يومياتهم.
في قصر بيت الدين لم تتوقف المهرجانات، بل كانت أحد أسباب تطبيع الوضع، وإن شاب الحضور بعض القلق. السياح الغربيون جالوا في القصر التاريخي غير عابئين بهموم اللبنانين. وفي بلدة بيت الدين، كرم أهلها ولطافتهم، يبعدان كل تشنج سياسي. وأبناء البلدة يتنقلون من بيروت وإليها من دون أيّ خوف. قد يكون عامل الاطمئنان أيضاً مرده إلى أن المنطقة تحت رعاية مشتركة عسكرية – جنبلاطية على السواء.
تتفاوت النظرة إلى ما حصل، وتختصرها ثلاث عبارات: يقول أحد معارضي التيار الوطني الحر: «لولا جبران باسيل لما حصل ما حصل». ويسأل أحد أبناء بحمدون في المقابل: «هل يحق لأيٍّ كان أن يمنع مسؤولاً ووزيراً من الكلام». ويقول أحد العونيين: «كيف يحق لجنبلاط أن يفعل ما فعله؟»، قبل أن يضيف في المقابل: «نحن عونيون. لكن لا نريد العمل السياسي بهذه الطريقة. فنحن لا نريد أن نترك بيوتنا».
ليس أمراً هيّناً أن يستسهل الناس ترك بيوتهم
في الشكل، لا حرب ولا سلاح، والحزب التقدمي سارع إلى احتواء المشكلات، وأوفد ممثلين عنه للتواصل مع المقيمين. أساساً لم تشهد عاليه والشوف أي حوادث تُذكر بين مسيحيين ودروز سابقة لحادثة البساتين. والتوتر الذي وقع بين شبان من منصورية بحمدون وآخرين من بتاتر يوم حادثة البساتين – قبرشمون طُوِّق فوراً، من دون أن يُلغي استمرار بعض المتورطين من فعاليات وسياسيين بتأجيج النار. الأكيد أن بعض أبناء الشوف وعاليه طرحوا إمكان بيع منازلهم والعودة إلى بيروت. لكن الكلام شيء، والواقع شيء آخر. بقي أنّ أسباب المغادرة لا تتعلق حصراً بما حصل، أو بمسؤولية جنبلاط أو باسيل أو غيرهما، بل لأن المسيحيين ظهروا وكأنهم يتعاملون مع عودتهم، منذ نهاية الحرب الأهلية، على أنها مؤقتة. بعضهم يعتبر أن ذلك بسبب غياب الدولة فعلياً. لأن ارتباط الخدمات بالولاء للزعامات يعني أن أي زعيم قادر على استخدام مناصريه لأتفه الأسباب. منهم من يتحدث عن غياب المستشفيات والمستوصفات، وعن شبكة طرق تنهكها السيول كل شتاء وتترك من دون صيانة، وعن غياب الخدمات التي تؤمنها الدولة لا الزعامات، وعن الكنيسة الغائبة إلا عن دفع أموال لبناء كنائس ورفع تماثيل في قرى فارغة. يضاف إلى ذلك أسباب خوف غير مبررة، حتى لدى الذين لم يتعرضوا لأي خطر: هل هي ذكريات، أم تجييش طائفي وسياسي، أم أن الأمن يحتاج دوماً إلى حماية وتطبيع سياسي، كما في كل مرحلة تاريخية حساسة؟ يقول أحد أبناء المنطقة: «لو لم تكن حركة البيع مقيدة، لشهدنا حركة بيع كثيفة. ما يحمي الوجود المسيحي في الجبل لا يزال وقف حركة البيع». أن يستسهل الناس ترك بيوتهم، ليس شأناً هيّناً، تماماً كما حصل في الجبل سابقاً. والسؤال الأكثر حساسية، ويبقى بلا جواب حقيقي: لماذا يبادر البعض إلى حماية نفسه وأرضه، ويفضّل الآخرون تركها والتخلي عنها بسهولة؟ سؤال يحتاج إلى أجوبة من مسيحيي الجبل أنفسهم، بقواهم السياسية، وكنيستهم، وقبل كل هؤلاء، من الدولة. والإجابة ليست محصورة في العلاقة بين الدروز والمسيحيين، ولا بالمصالحة.
الجبل: خدمات عونية وتراجع حضور القوات
علم مرفوع لتيار المردة وصورة للنائب سليمان فرنجية، لا يعبّران، في الجبل، عن «الواقع المسيحي» الذي يتجاذبه التيار الوطني والقوات اللبنانية. بعد الحرب نمت القوات بقوة. في المقابل، ارتفع حضور التيار الوطني الحر، الذي لم يشارك في الحرب، لكنه تحول بعد انتهائها مناهضاً للحزب التقدمي الاشتراكي. حالياً يسجَّل تراجع في الحضور القواتي الميداني، لا السياسي، في ظل غياب الخدمات. النائب جورج عدوان يكتفي بخطبه في المجلس النيابي وصورته المرفوعة في دير القمر. خدمات وزارة الصحة مع تولي غسان حاصباني بقيت شبه معدومة. الوزير بيار بو عاصي أسهم في احتواء بعض مشكلات لها علاقة بوزارة الشؤون الاجتماعية. ومع حادثة البساتين – قبرشمون لم تحضر القوات ميدانياً كما كان يتوقّع أنصارها وغيرهم، ولا رفعت مستوى تدخلها العلني لتطويق الذيول.
العونيون يستخدمون كل أدوات العهد والحكومة الخدماتية والأمنية، مع تجييرها لمناصريهم أو من تحوّلوا مناصرين لهم. نموذج شوريت كمثيلاتها من البلدات المهملة التي تعيش على وقع محسوبيات، كتركيب أعمدة كهرباء واستبدالها كل سنتين، ومدّ شبكات مياه وهمية وبناء جدران دعم خاصة من المال العام، وترك مطالب أهل القرى الموجودين فيها، ومنهم عجزة، من دون طريق ولا ماء ولا كهرباء. علماً أن نواب التيار يحضرون بقوة في القرى. لكن كل هذه الحركة انتكست في لحظة، لانها لم تصبّ في تعزيز الحضور المسيحي. الدليل، أن أول الذين تركوا بلدتهم يوم الحادثة كانوا مناصري التيار.