يمكن القول إن أكثرية القوى السياسية توافقت في موازنة الـ2019 على محاولة تخفيض بعض الإنفاق بما لا يداوي وضع الخزينة ولا يجعل من الموازنة باباً للإنقاذ المالي والاقتصادي، لأن أكثرية القوى السياسية توافقت أيضاً على عدم ولوج باب الإصلاحات الجدية المطلوبة.
فرغم النوايا الطيبة في لجنة المال والموازنة، إلا أن الاستراتيجية التي تتبعها الحكومة، والتي تنبثق من تفاهمات بين قواها الكبرى، تنصّ على حشر مجلس النواب عموماً ولجنة المال والموازنة خصوصاً من باب الضغط بعامل الوقت، فلا يعود ثمة متسع من الوقت لكي يناقش النواب تفاصيل موازنات الهدر والفساد في عدد كبير من الصناديق والهيئات والوزارات. يكفي للتدليل على ما نورد أن لجنة المال استغرقت حوالى 3 جلسات لمناقشة موازنة وزارة السياحة وهي عبارة عن 8 مليار ليرة، في حين تمكنت من شطب 120 ملياراً من موازنة وزارة الاتصالات بشطبة قلم ومن دون أن تتأثر الوزارة أو تعترض!
ما حصل في جلسة التصويت على الموازنة كان معبّراً في هذا الإطار، إذ اعترض الرئيس سعد الحريري بما ومن يمثل على ما اعتبره استهدافاً لمؤسسات ووزارات تابعة للسُنّة وتيار المستقبل مثل مجلس الإنماء والإعمار و”أوجيرو”، حيث تم تخفيض مبلغاً كان طلبه مجلس الإنماء والإعمار من 175 ملياراً إلى 75 ملياراً (وفر بقيمة 100 مليار ليرة)، في حين نجح الحريري في استعادة 14 مليار ليرة إلى موازنة “أوجيرو” كان اعتبر النواب أنها تمثل إضافة إلى الرواتب والأجور بما يعني التوظيفات الجديدة خلافاً للقانون. الحريري قالها صراحة إنه إذا كان المطلوب وقف التوظيفات المخالفة للقانون فلنوقف الـ5000 توظيف، عندها فضّل الرئيس نبيه بري انتظار تقرير التفتيش المركزي، ما يعني تطيير النقاش في هذه التوظيفات!
إنها الصورة المكتملة للتوافق السياسي على الابتعاد عن ولوج الإصلاح الحقيقي المطلوب في الموازنة، حفاظاً على “المكتسبات الزبائنية” للقوى السياسية على حساب الموازنة المنكوبة والإصلاح المفقود في كواليس التآمر على الوضع المالي للبلد!
لم يجب أحد على عدد من أسئلة اللبنانيين، رغم أن وزير المالية طرحها شخصياً في محاولة مكشوفة للتنصّل من تحمّل المسؤولية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
ـ من يتخذ القرار بضبط المعابر الشرعية وغير الشرعية التي عددها وزير المالية بـ136 معبراً؟ وما المطلوب لضبط التهرّب الجمركي في المرافئ الشرعية كالمرفأ والمطار؟ ومن المسؤول عن التسيّب الفاضح الذي يكلف الخزينة هدراً بما لا يقلّ عن مليار دولار سنوياً؟
ـ من يتخذ القرار بالإصلاح الإداري والمالي عبر الولوج إلى كل “المحميات السياسية” من إدارات ومؤسسات ومجالس وهيئات وصناديق “فالتة” من أيا رقابة ومحاسبة فعلية لا بل وجود معظمها بات بحد ذاته عبئاً على الخزينة؟!
أياً يكن، إن كل الذرائع التي أُعطيت لتجنّب ولوج أبواب الإصلاح الحقيقي في موازنة الـ2019 ستكون ساقطة حكماً مع مناقشة موازنة الـ2020 التي لا شيء يعلو عليها، لا خلافات سياسية ولا معارك رئاسية ولا تسويات مصطنعة ولا مصالح طائفية ومذهبية وحزبية وفئوية مقيتة. وبدء مناقشة موازنة الـ2020 في الحكومة وبعدها في لجنة المال والموازنة ومن ثم مجلس النواب على الأبواب، لأن هذه الموازنة إن لم تُناقش ضمن المهل الدستورية وتُقرّ قبل نهاية الـ2019 ستُعرّي كل الطبقة السياسية والحكام، وعندها تصحّ محاكمة الجميع بتهمة خرق الدستور والتواطؤ على نهب البلد وإفقاره وتجويع شعبه!