Site icon IMLebanon

داخل سجون التعذيب السرية السورية: “ارجوك لا تنسانا”

لفتت صحيفة “نيويورك تايمز” في تقرير للصحافية آن برنارد وهي مديرة سابقة لمكتب الصحيفة في بيروت وحاليا زميل في مجلس العلاقات الخارجية في مركز ادوارد، الى انه مع اقتراب الرئيس السوري، بشار الأسد، من تحقيق الانتصار على تمرّد دام لثماني سنوات، كان لنظام الاعتقالات التعسفية وسجون التعذيب ذي الطابع السري والصناعي، دور محوري في نجاحه. وفي الوقت الذي قاتل فيه الجيش السوري، المدعوم من روسيا وإيران، المتمردين المسلحين من أجل السيطرة على الأراضي، شنّت الحكومة حربا وحشيّة على المدنيين، وألقت بمئات الآلاف منهم في زنزانات قذرة حيث تعرض الآلاف للتعذيب والقتل. لايزال مصير نحو 128 ألف محتجز مجهولا،حيث يُفترض أنهم إما موتى أو لايزالون قيد الاحتجاز، وفقا للشبكة السورية لحقوق الإنسان، وهي مجموعة مراقبة مستقلة تحتفظ بإحصاءات تعتبر الأكثر دقّة. فضلا عن ذلك، لقي حوالي 14 ألف شخص “حتفهم تحت التعذيب”، في حين يموت الكثيرون جراء أوضاع تعتبر مزرية لدرجة أن تحقيقا للأمم المتحدة وصف ما يحدث “بالإبادة”.

اليوم، وحتى مع وشوك الحرب على الانتهاء، وتضاؤل اهتمام العالم بما يحدث، وبينما تبدأ البلدان في تطبيع العلاقات مع سوريا، لا تزال وتيرة الاعتقالات الجديدة والتعذيب والإعدام في تسارع. تجدر الإشارة إلى أن الأرقام بلغت ذروتها في السنوات الأولى الأكثر دموية للنزاع، لكن في السنة الماضية، سجّلت الشبكة السورية 5607 عملية اعتقال جديدة التي صنّفتها على أنها تعسفية، وذلك بمعدل تجاوز 100 اعتقال أسبوعيا وأكثر بنسبة 25 بالمئة تقريبا مقارنة بالسنة السابقة. ومؤخرا، أطلق المعتقلون تحذيرات سرًا بشأن إرسال المئات منهم إلى موقع الإعدام الذي يتمثل في سجن صيدنايا، في حين أفاد السجناء الذين أُفرج عنهم حديثا بأن وتيرة القتل هناك قد تسارعت.

حظيت عمليات الاختطاف والقتل التي ارتكبها تنظيم الدولة باهتمام أكبر في الغرب، لكن نظام السجون السوري احتجز أشخاصا أكثر بمرات عدة من أولئك الذين احتجزهم تنظيم الدولة في سوريا. في الحقيقة، يمثل الاحتجاز الحكومي حوالي 90 بالمئة من حالات الاختفاء التي أحصتها الشبكة السورية. من جانبها، أنكرت الحكومة السورية وجود سوء معاملة منهجية.

مع ذلك، تظهر المذكرات الحكومية تم الحصول عليها مؤخرا أن المسؤولين السوريين الذين يقدمون التقارير مباشرة إلى الأسد قد أصدروا أوامر بالاعتقالات بالجملة، كما أنهم على علم بالفظائع التي تُرتكب. وقد وجد محققو جرائم الحرب لدى منظمة “لجنة العدالة والمساءلة الدولية” غير الربحية، مذكرات حكومية تحمل أوامر بالقمع وتُناقش حالات الوفاة في الحجز. وقد وُقّعت المذكرات من قبل كبار المسؤولين الأمنيين، بمن فيهم أعضاء اللجنة المركزية لإدارة الأزمات، والتي تُقدّم تقاريرها مباشرة إلى الأسد.

تعترف إحدى مذكرات الاستخبارات العسكرية بحالات الوفاة الناجمة عن التعذيب والظروف المزرية، بينما تشير مذكرات أخرى إلى وفاة معتقلين تم التعرف على بعضهم لاحقا في صور لآلاف الجثث تم تهريبها من قبل منشق من الشرطة العسكرية. فضلا عن ذلك، تضمنت مذكرتان السماح بمعاملة معتقلين محددين بشكل “قاسٍ”. كما تشير مذكرة من رئيس المخابرات العسكرية، رفيق شحادة، إلى أن المسؤولين يخشون من الملاحقة القضائية مستقبلا، وبالتالي، أرسلت أوامر إلى الضباط لإبلاغ شحادة عن جميع الوفيات واتخاذ الخطوات اللازمة لضمان “الحصانة القضائية” للمسؤولين الأمنيين.

خلال سنة 2016، وفي مقابلة معه في مكتبه في قصر عثماني بدمشق، شكّك الأسد في صدق شهادات الناجين وعائلات المفقودين. وعندما سُأل عن حالات بعينها، قال الرئيس السوري: “هل تتحدث عن مزاعم أم وقائع ملموسة؟”، مضيفا أن الأقارب كذبوا عندما قالوا إنهم شاهدوا رجال الأمن وهو يجرّون أحباءهم بعيدًا. وأورد الأسد أن أي انتهاكات لم تكن سوى أخطاء منعزلة ولا مفر منها في الحرب، كما قال إن “هذا الأمر حدث هنا، وفي جميع أنحاء العالم، وفي كل مكان، لكنه لا يمثل سياسة يتم اتباعها”.

على امتداد سبع سنوات، أجرت صحيفة “نيويورك تايمز” مقابلات مع عشرات الناجين وأقارب لمعتقلين مفقودين أو لقوا حتفهم، كما استعرضت الوثائق الحكومية التي تتضمن التفاصيل المتعلقة بحالات الوفاة في السجون والقمع المُسلّط على المعارضة، ومحصت أيضا مئات الصفحات من إفادات الشهود في تقارير حقوق الإنسان ودعاوى المحاكم. في الواقع، تتوافق روايات الناجين المبلغ عنها هنا مع روايات سجناء آخرين كانوا معتقلين في السجون ذاتها، كما تدعم هذه الإفادات المذكرات الحكومية والصور المُهرّبة من السجون السورية.

إن نظام السجون كان جزءا لا يتجزأ من جهود الأسد الحربية، التي تتضمن سحق حركة الاحتجاج المدني والدفع بالمعارضة إلى صراع مسلح لا يمكنها الفوز به. وخلال الأشهر الأخيرة، كانت الحكومة السورية قد اعترفت ضمنيا بموت مئات الأشخاص وهم رهن الاعتقال. في الواقع، وجراء الضغط الذي فرضته عليها موسكو، أكدت دمشق مقتل ما لا يقل عن عدة مئات من الأشخاص حين كانوا محتجزين من خلال إصدار شهادات وفاتهم أو تسجيلهم على لائحة الموتى في ملفات الشؤون المدنية. في هذا الصدد، قال مؤسس الشبكة السورية، فضل عبد الغني، إن هذه الخطوة أرسلت رسالة واضحة للمواطنين مفادها: “لقد فزنا، وارتكبنا هذا، ولن يُعاقبنا أحد”.

على الرغم من أن الأمل ضئيل في أن يخضع كبار المسؤولين للمساءلة في المستقبل القريب، إلا أن هناك حركة متنامية سعيًا إلى تحقيق العدالة من خلال المحاكم الأوروبية، حيث ألقت كل من النيابة العامة الفرنسية والألمانية القبض على ثلاثة مسؤولين أمنيين سابقين وأصدرت مذكرات اعتقال دولية في حقّ رئيس مكتب الأمن القومي السوري، علي مملوك، إضافة إلى رئيس إدارة المخابرات الجوية، جميل حسن، وغيرهما بسبب ما تعرض له مواطنون أو مقيمون في تلك البلدان من تعذيب وموت في السجون.

مع ذلك، لا زال الأسد وملازموه في السلطة، وفي مأمن من الاعتقال، حيث توفر لهم روسيا الحماية بفضل قوتها العسكرية واستخدامها حق النقض في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وفي الوقت ذاته، تعيد الدول العربية إحياء علاقاتها مع دمشق، في الوقت الذي تفكر فيه الدول الأوروبية في أن تحذو حذو نظيراتها العربية. في الأثناء، يقلل سحب ترامب المُخطط له لمعظم القوات الأمريكية، التي تعدّ 2000 جندي في شرق سوريا، من النفوذ الأمريكي الذي بلغ حده الأدنى بالفعل في الصراع السوري الذي دخل عامه التاسع.

من جهة أخرى، لا يمثل الإفلات من العقاب مشكلة سورية داخلية فحسب، إذ أنه من دون إصلاحات أمنية، يبدو من غير المحتمل أن يعود اللاجئون السوريون البالغ عددهم خمسة ملايين والموزعين في الشرق الأوسط وأوروبا، إلى ديارهم بسبب خطر تعرّضهم للاعتقال التعسفي. وفي عصر يشهد استبدادًا جريئًا يمتدّ من اليمين المتطرف الأوروبي إلى المملكة العربية السعودية، أثبت الأسد أن أقصى درجة من العنف ضد المعارضة المدنية يمكن أن تمثّل استراتيجية رابحة.

في هذا الإطار، صرّح مازن درويش، وهو محامي سوري في مجال حقوق الإنسان، في برلين حيث ساعد المحققون هناك، إن “ما يحدث لن يبقى في سوريا فقط. إن الناس ينسون ما هي الديكتاتورية، خصوصا بعد نحو 70 سنة من السلام إبان الحرب العالمية الثانية، لكن حقوق الإنسان ليست موروث طبيعي لدى الدول أو السياسيون. إن العدالة ليست ترفا سوريا، بل مشكلة معني بها العالم كله”.

يعتبر نظام الاعتقال السوري نسخة من الحجم الكبير عن ذاك الذي بناه والد الأسد، الرئيس السوري السابق، حافظ الأسد. ففي سنة 1982، سحق الأسد الأب انتفاضة مسلحة للإخوان المسلمين في حماة، وسوّى جزءا كبيرا من المدينة بالأرض، كما اعتقل عشرات الآلاف من الناس؛ منهم الإسلاميون والمعارضون اليساريون والسوريون بشكل عشوائي. وعلى مدى عقدين من الزمن، اختفى حوالي 17 ألف محتجزا في غياهب نظام يمتاز بطرق تعذيب تمت استعارتها من المستعمرين الفرنسيين والديكتاتوريين الإقليميين وحتى النازيين، حيث كان من بين مستشاريه الأمنيين، ألويس برونير، مساعد أدولف أيخمان الهارب. وعندما خلف بشار الأسد والده في سنة 2000، أبقى نظام الاعتقال على حاله.

لكل وكالة من وكالات المخابرات السورية الأربع؛ العسكرية والسياسية والجويّة وأمن الدولة، فروع محلية في جميع أنحاء سوريا، كما أن معظم هذه الفروع تتبعها سجونها الخاصة. وقد وثّقت “لجنة العدالة والمساءلة الدولية” المئات منها. وقد كان احتجاز وتعذيب عدد من اليافعين في آذار 2011، بسبب رسم على الجدران فيه نقدٌ للأسد، هو الذي دفع السوريين للانضمام إلى الانتفاضات التي كانت قد اجتاحت آنذاك الدول العربية. وقد انتشرت المظاهرات احتجاجا على معاملة اليافعين من مسقط رأسهم، درعا، ما أدى إلى المزيد من الاعتقالات وبالتالي المزيد من الاحتجاجات.

نتيجة لذلك، انضم طوفان من المعتقلين من جميع أنحاء سوريا إلى المعارضين الموجودين بالفعل في سجن صيدنايا. وقد قال رياض أفلار، وهو مواطن تركي احتُجز لمدة 20 سنة بعد اعتقاله في 1996 حين كان طالبا يبلغ من العمر 19 سنة بسبب إجراء مقابلات مع السوريين حول مذبحة حدثت في أحد السجون، إن المعتقلين الجدد تراوحوا بين “عامل النظافة والفلاح مرورا بالمهندس ووصولا إلى الطبيب. لقد كانوا يمثلون جميع فئات السوريين”.

قال أفلار إن التعذيب زاد، وقد تعرّض الوافدون الجدد للاعتداء الجنسي، والضرب على الأعضاء التناسلية، وأُجبروا على ضرب بعضهم البعض أو حتى قتل أحدهم الآخر. في الحقيقة، لا أحد يعلم العدد الدقيق للسوريين الذين مروا على هذه السجون منذ ذلك الحين، إذ أن جماعات حقوق الإنسان تقدر العدد بمئات الآلاف إلى المليون، بينما تمتنع دمشق عن نشر البيانات المتعلقة بالسجون. مع ذلك، يبدو أن النظام تجاوز حده الأقصى بجميع المقاييس حيث وُضع بعض المعتقلين السياسيين في السجون العادية. كما قامت قوات الأمن والميليشيات الموالية للحكومة بإنشاء زنزانات مؤقتة لا تحصى ولا تعد في المدارس والملاعب والمكاتب والقواعد العسكرية ونقاط التفتيش.

من المحتمل أن تكون إحصاءات الشبكة السورية التي تقدر 127.916 شخصًا معتقلا أقل من الأرقام الفعلية. ولا تتضمن هذه الإحصائية، التي تمثل عدد الاعتقالات التي أبلغت عنها أسر المحتجزين وشهود آخرون، الأشخاص الذين أُفرج عنهم لاحقا أو تأكد موتهم. وبسبب سرية الحكومة، لا أحد يعلم عدد الذين ماتوا وهم رهن الاعتقال۔ في المقابل، تم توثيق الآلاف من الموتى في المذكرات والصور.

كان ضابط سابق في الشرطة العسكرية، يعرف باسم “قيصر”، فقط حفاظا على لسلامته، مكلف بمهمة تصوير الجثث. وقد فرّ من سوريا وهو يحمل صورا لما لا يقل عن 6700 جثة رقيقة العظام وتحمل آثار تعذيب، وقد صدمت العالم عندما ظهرت في 2014. لكن قيصر قام أيضا بتصوير المذكرات التي كانت على مكتب رئيسه في العمل، والتي كانت تحمل بلاغات بالوفيات لرؤسائه.

وعلى غرار شهادات الوفاة الصادرة مؤخرا، تظهر المذكرات سبب الوفاة على أنه “سكتة قلبية”. كما تحدد إحدى المذكرات أحد المحتجزين الذي يظهر في إحدى صور قيصر أيضا وقد اقتلعت عينه. في هذا الإطار، قال محامي حقوق الإنسان، مازن درويش: “يبدو أن السجون قد مرّ عليها وباء غريب من أمراض القلب”، مضيفا: “بالطبع، فعندما يموتون تتوقف قلوبهم عن الخفقان”.

نجا غبّاش، وهو منظم مظاهرات من حلب، من التعذيب في 12 منشأة على الأقل، ما جعله “مرشدا سياحيا” لنظام السجون على حسب قوله. وقد بدأت رحلته في 2011، عندما كان يبلغ من العمر 22 سنة. وقد نظم الابن البكر لمتعهد بناء حكومي الاحتجاجات في حلب مستلهما بالمظاهرات السلمية في ضاحية داريا بدمشق.

قُبض على غبّاش في حزيران سنة 2011، وأُفرج عنه بعد أن تعهّد بالتوقف عن الاحتجاج. وقد استذكر الشاب مبتسما: “لم أتوقف عن القيام بذلك”. ففي آب، قُبض على غبّاش مجددا، في الأسبوع ذاته الذي أمر فيه كبار المسؤولين لدى الأسد، كما تبين ذلك مذكرة من “لجنة العدالة والمساءلة الدولية”، بشن حملة قمع أكثر صرامة منتقدين “تساهل” سلطات المحافظات ومُنادين بالمزيد من الاعتقالات “لأولئك الذين يحرضون الناس على التظاهر”. ووفقا لما أفاد به، عُلّق غباش وضُرب وجُلد في مجموعة من مرافق المخابرات العسكرية والعامة. وفي نهاية المطاف، أطلق محتجزوه سراحه مع توصية صارمة وُجّهت للعديد من الشباب مثله ألا وهي مغادرة البلاد.

لكن حتى عندما أُطلق سراح سجناء سجن صيدنايا الأكثر تطرفا والمسجونين لفترة طويلة، وهم الإسلاميون الذين قادوا لاحقا جماعات المتمردين، فقد كان المسؤولون يهدفون إلى التخلص من المعارضة المدنية. وقد بدا أن كلتا الخطوتان، وفقا للنقاد، كانتا جزءا من استراتيجية سعت إلى تحويل الانتفاضة إلى ساحة المعركة، حيث تمتّع الأسد وحلفاؤه بالقوة العسكرية. ومع فرار أو سجن المدنيين الذي يحملون تفكيرا مشابها له، وإطلاق قوات الأمن النار على المتظاهرين، كافح غباش لثني من معه عن حمل السلاح والتحول إلى لعبة بأيدي الحكومة.

لم يمض كثيرا من الوقت قبل أن يلقى القبض على غباش من قبل إدارة المخابرات الجوية في حلب. ولعل أكثر ما أثار دهشته هو إصرار المحققين على اتخاذ بعض الإجراءات القضائية المجحفة. وقد اتهموه بتنفيذ تفجير وهميّ بتاريخ مزيف، علما أنه آنذاك لم تضرب أي قنابل تابعة للجماعات المتمردة حلب بعد. وعلى الرغم من قدرتهم على توجيه الاتهامات التي تحلو لهم، إلا أنهم أصروا على ضرورة اعترافه بالتهم التي نُسبت إليه.

في بعض الأحيان، يقومون بحشره داخل إطار من أجل إبراحه ضربا. وغالبا ما كان يفقد وعيه ليستيقظ لاحقا عاريا وسط ردهة باردة جدا، ليعاودوا ضربه من جديد. وضع أحد الضباط مسدسا في فمه، بينما أصر آخر على إقناعه بأن المرأة البعيدة عن أنظاره والتي ترامى صراخها إلى مسامعه هي والدته.

في الحقيقة، تتطابق روايته مع تلك التي سردها محتجزون آخرون في ذات المنشأة، كما وصف بعضهم ممارسات أكثر سوءا. شاهد أحد الناجين، الذي طلب الاكتفاء بتسميته خليل وعدم الكشف عن هويته كاملة من أجل حماية عائلته التي لا زالت تقطن في سوريا، مراهقًا استغرق موته 21 يومًا بعد أن غمره المحققون بالوقود واضرموا النار في جسده.

يقول غباش: “ضميري لا يسمح لي بالاعتراف بشيء لم أقترفه. يقوم خمسة أشخاص بطرح الأسئلة في آن واحد، بينما أنت تشعر بالبرد والعطش، وشفاهك تقطر دما، وتعجز عن التركيز إذ أن الجميع يصرخون في وجهك و يضربونك”. لقد احتفظ غباش بأظافر أصابع قدميه التي قاموا باقتلاعها، وبقطع الجلد التي انتزعت من قدميه نتيجة الضرب المبرح.، ووضعها في جيبه على أمل تقديمها كدليل لأحد القضاة، غير أنهم في أحد الأيام أخذوا منه سرواله أيضا.

في اليوم الثاني عشر، دوّن مهند اعترافًا حيث طلب منه النقيب ماهر أن “يجعله مقنعا”. تخيل كيف يبدو الشخص الذي أقلك، هل هو طويل أم قصير أم سمين؟ في نهاية المطاف، قرر غباش أن يكون الشخص الذي تحدث عنه ماهر رجلا يملك سيارة فضية، طويل القامة وذو شعر خفيف كما أنه يضع نظارات”. قال مهند مازحا: “في ذلك الحين، لقد بدأت باكتشاف موهبتي في الكتابة”.

في آذار 2012، نُقل غباش على متن رحلة جوية إلى قاعدة المزة الجوية العسكرية، المسماة نسبة إلى أحد أحياء دمشق الثريّة القريبة. بحلول ذلك الوقت، أفاد غباش والعديد من الناجين بأنه يوجد نظام نقل على نطاق صناعي بين السجون. وأثناء رحلاتهم على متن طائرات هليكوبتر وحافلات وطائرات شحن تعرض المحتجزون للتعذيب.

يتذكر البعض الركوب لساعات في شاحنات تُستخدم عادة لنقل جثث الحيوانات، حيث قاموا بتعليقهم من ذراع واحدة وتقييدهم بالسلاسل إلى خطافات اللحم. وقد كانت زنزانة غباش الجديدة تقليدية، بطول 12 قدمًا وعرضها 9 أقدام، وعادة ما تكون شديدة الاكتظاظ لدرجة تدفع السجناء إلى النوم في نوبات مختلفة.

خارج الزنزانة في الممر، كان هناك رجل معصوب العينين مكبل اليدين. هذا الرجل هو مازن درويش، المحامي في مجال حقوق الإنسان۔ حينها تم تعذيبه لأنه قرر أن يملي على أحد القضاة محاضرة حول القوانين السورية التي من المفترض أن تضمن إجراء محاكمات عادلة. وفي رد غاضب على عقوبته، علّق قائلا: “أمكث عاريا، دون ماء ولا نوم، اضطررت إلى شرب بولي”.

بينما كان المتمردون في الخارج يحرزون تقدّما، وتقوم الطائرات الحربية الحكومية بقصف الأحياء المنتفضة، ازداد تعذيب في السجون وحشية. يسرد الناجون تفاصيل المعاملة السادية وعمليات الاغتصاب والإعدام دون محاكمة والحالات التي تُرك فيها المعتقلون ليموتوا إثر جراحهم وأمراضهم التي تُركت دون علاج.

سرعان ما فُرض على غباش عقوبة خاصة به. تم استجواب مهند من قبل رجل يطلق على نفسه اسم سهيل الحسن، ووفقا لقاعدة بيانات حكومية مسربة ربما هو سهيل الحسن زمام الذي كان يترأس السجون التابعة للقوات الجوية۔ سأل المحقق غباش عن الطريقة التي يمكن من خلالها حل النزاع. ويقول غباش إن إجابته كانت كالآتي: “من خلال انتخابات حقيقية، يطالب الشعب ببعض الإصلاحات، لكنكم لجأتم إلى استخدام القوة. تكمن المشكلة في أنه إما أن نكون في صفك، أو أن تقتلنا”. تسبّبت هذه الاجابة في تعرّضه إلى شهر إضافي من التعذيب، حيث خضع لعمليات تعذيب شديدة الغرابة مقارنة بتلك التي تعرّض لها سابقا.

يقوم أحد الحراس الذي أطلق على نفسه اسم هتلر بتنظيم عروض عشاء سادية لإمتاع زملائه. ووفقا لغباش، أحضر الحارس مشروب العرق وأنابيب المياه في إطار “الاستعداد للأجواء”. وقد جعل بعض السجناء يركعون ليصبحوا بمثابة الطاولات والكراسي. ولعب آخرون أدوار حيوانات، كما عزز “هتلر” هذا المشهد المسرحي بالضرب.

إلى جانب ذلك، أفاد غباش: “يجب على الشخص الذي يتقمص دور الكلب أن يبدأ بالنباح، والقط بالمواء، والديك بالصياح. يحاول هتلر ترويضهم وحين يبدي اهتمامه بأحد الكلاب، ينبغي أن يتصرف الكلب الآخر كما لو أنه يشعر بالغيرة”. وتضمن الحضور أيضًا سجناء من زنزانات مجاورة أو أشخاص معصوبي الأعين ومعلقين على أسوار مكونة من سلاسل، الذين قاموا لاحقا بتأكيد رواية غباش. وقال هذا الأخير إن بعض الحراس دفعوا الأشخاص المعلقين إلى التوسّل والتفوه بعبارات من قبيل “يا سيدي، أنا أشعر بالعطش”، من ثم قاموا برشهم باستخدام خراطيم مياه.

بعد مرور أسابيع أو أشهر، خضع العديد من السجناء لما يسمى بالمحاكمات التي تستغرق دقائق معدودة دون تعيين محامين للدفاع عنهم. كانت محاكمة غباش تقليدية للغاية، وأثناء مثوله أمام “محكمة ميدانية” عسكرية سنة 2012، استمع إلى قاضٍ يصف حكم إدانته “بالإرهاب الذي دمر الممتلكات العامة” ويحكم عليه بالموت كعقوبة. وأشار غباش إلى أن “المحاكمة بأكملها دامت دقيقة ونصف”.

بناء على هذا الحكم، توقع مهند أن يتم نقله إلى سجن صيدنايا الذي خدم آنذاك كمركز إعدام جماعي. ووفقا لتقرير منظمة العفو الدولية، نُفّذ حكم الإعدام في حق الآلاف هناك إثر محاكمات موجزة. وفي ذلك الحين، يتذكر مهند أنه قال في نفسه “جيد، لقد انتهى التعذيب”، بيد أنه استمر في تلقّي الضرب اليومي لمدة سنة أخرى.

قضى غباش فترته الأخيرة في سجن مؤقت يقع تحت الأرض بالقرب من دمشق، وهو مخبأ عسكري للفرقة الرابعة من الجيش السوري وعبارة عن أبنية محصنة تحت الأرض تابعة لماهر شقيق بشار الأسد. ويسترجع الناجون مشاهد الضباط الحاملين لشارات الوحدة حين يقومون بزيارة المكان وتفقّد الظروف هناك. وحسب إفادات الناجين، نفذت المخابرات الجوية عمليات هناك بعد أن غمرت المياه سجن المزة.

صرّح درويش، الذي نُقل إلى السجن ذاته، بأنه لم يكن هناك المزيد من الاستجوابات بل كان هناك: “التعذيب لمجرد التعذيب، التعذيب من أجل الثأر والقتل وإهانة الأفراد”. ومع ذلك، روى الناجون هذه القصص بشيء من روح الدعابة السوداء، فقط لأن أشخاصا آخرين مروا بظروف أكثر سوءا. وأضاف غباش قائلا: “حسنًا، لقد تلقيت ضربا مبرحا، لقد تقمصت دور الكلب، غير أن بعض الأشخاص تعرضوا للقتل أو الاغتصاب”.

خلال السنة الماضية، كشفت تقارير صادرة عن لجنة تابعة للأمم المتحدة وتعنى بحقوق الإنسان عن حقيقة تعرض النساء والفتيات للاغتصاب والاعتداء الجنسي داخل ما لا يقل عن 20 فرعًا تابعا لأجهزة المخابرات، وحدث الأمر ذاته مع الرجال والصبيان في 15 من هذه الفروع.

يعد الاعتداء الجنسي سلاحا ذو حدين في المجتمعات الإسلامية التقليدية، حيث غالبا ما يتسبب في وصم الناجين بالخزي والعار. وتشير إفادات الناجين وتقارير حول حقوق الإنسان إلى أن أقارب بعض المحتجزات السابقات قد ارتكبوا جرائم قتل بحقهن وصفوها بجرائم الشرف، وفي بعض الأحيان فقط استنادا إلى مجرد الاعتقاد بأنهن قد تعرضن للاغتصاب.

تعرضت مريم خليف، البالغة من العمر 32 سنة وأم لخمسة أطفال، للاغتصاب عدة مرات أثناء فترة احتجازها۔ تقول السيدة خليف إنها قدمت المساعدة للمحتجين المصابين كما سلمت الإمدادات الطبية إلى المتمردين، ما وصفته الحكومة بالأعمال الإرهابية.

تتذكر مريم أنه في أيلول من سنة 2012 قام عناصر الأمن بجرها من منزلها. وفي مبنى أمن الدولة في الفرع 320 في حماة، قام مسؤول التحقيق بتقديم نفسه على أنه العقيد سليمان. ويظهر أرشيف لجنة العدالة والمساءلة الدولية أن مريم خليف تم فعلا اعتقالها، وأن العقيد سليمان جمعة كان حينها المشرف على فرع حماة. تسترجع خليف تلك التجربة أثناء وجودها الآن في شقة في بلدة ريحانلي في تركيا: “ كان يتناول الفستق، ويقوم ببصق القشور على وجهي، ولم يترك أي كلمة بذيئة دون أن يوجهها لي”.

كانت مريم وست نساء أخريات محتجزات في قبو لا تتجاوز مساحته ثلاثة أقدام مربعة. وكان الحراس يقومون بتعليقها على الجدران وضربها، وتسببوا بخلع بعض أسنانها. كما أنها شاهدتهم يقومون بجر سجين بعد أن اشتكى من الجوع، واقتادوه إلى الحمام وقاموا بحشو فمه بالفضلات البشرية، وهي طريقة تحدث عنها أيضا ناجون آخرون. وتقول مريم: “في منتصف الليل، كانوا يأخذون الفتيات الجميلات ويقتادونهن إلى العقيد سليمان ليغتصبهن. أنا أذكر جيدا العقيد سليمان وعيناه الخضراوتين”. ويشار إلى أن مريم خليف تمكنت من التعرف على هذا العقيد، بعد أن عُرضت عليها صور من جنازة أحد ضباط الأمن السوريين، وقد أصيبت حينها بحالة انهيار.

قام العقيد وأصدقاؤه الرجال الذين كانوا يرتدون البدلات الرياضية، بالاعتداء على هؤلاء النسوة فوق سرير في غرفة مجاورة لمكتبه كانت معلقة فيها صورة لرئيس النظام بشار الأسد. كما قاموا برش الضحايا بالخمر في إهانة إضافية لهؤلاء المسلمات اللواتي كن يمتنعن عن شرب الكحول.

لم يكن هناك حمام في زنزانة النساء. كما أن الدماء التي تسببت بها عمليات الاغتصاب العنيف كانت تلطخ الأرضية. وقد تعرضت إحدى السجينات للإجهاض. وبعد مرور فترة، تمكن أحد أقارب مريم خليف من التوصل لاتفاق لإطلاق سراحها بعد شهر، وهي تقول إنها خلال تلك الفترة خسرت ثلث وزنها، وتمكنت في وقت لاحق من الهروب نحو المناطق الخاضعة لسيطرة الثوار لتساعد في المجال الطبي.

قدمت ناجية أخرى شهادتها أيضا لمحققي لجنة العدالة والمساءلة الدولية، وأكدت أنها تعرضت للاغتصاب على يد العقيد سليمان جمعة في نفس الشهر وفي نفس السجن. وكانت التفاصيل التي قدمتها مشابهة تماما لما أدلت به مريم خليف. وحتى النساء اللواتي لم يتعرضن للاغتصاب، تحدثن عن التعرض للتحرش والإهانات الجنسية والتهديد بالاغتصاب من أجل انتزاع الاعترافات، والتعرض لعمليات التفتيش المهينة في المناطق الحساسة.

في إحدى المنشآت في دمشق، قالت العديد من الناجيات إن مدير التحقيقات سمح لنفسه بالقيام بعمليات التفتيش الجسدي لهن. وكانت النسوة يسمين هذا الشخص شرشبيل، وهو اسم الشخصية الشريرة في سلسلة الأطفال الصغار السنافر. هذا الشخص كان يقوم بكشف شعر النساء والتحرش بهن وتعريتهن أثناء التحقيق، وهي تفاصيل امتنعت هذه الشاهدة عن كشفها لعائلتها.

لقد تعرضت مريم خليف للرفض من قبل عائلتها بعد خروجها من السجن، لأنها بنظرهم فقدت شرفها وبسبب عملها السياسي۔ وجه لها شقيقها المساند للنظام رسائل تهديد بالموت، وبينما طلقها زوجها. ولكن بالنسبة لبعض الرجال المحافظين، فإن هذا الصراع غيّر مواقفهم تماما. صرحت الكثير من الناجيات من السجون وأقاربهن من الرجال بأن بعض العائلات أصبحت تنظر إلى ضحايا الاعتداءات الجنسية على أنهن بمثابة جرحى الحرب. ولم تخف مريم خليف أي شيء عن زوجها الجديد الذي كانت منتسبا لإحدى فصائل المتمردين. تقول مريم أن زوجها يقول لها: “أنت وسام شرف على صدري، أنت تاج على رأسي”. كما أنه كان يطبخ لها، ويقوم بتدليك وجهها بالزيت، حتى شعرت أنها استعادت شبابها مجددا”.

بالإضافة إلى عمليات التعذيب، فإن ظروف الاعتقال غير الصحية بلغت درجات خطيرة وممنهجة، حتى اعتبرت تقارير الأمم المتحدة أنها ترقى إلى مرتبة عمليات الإبادة، وتعتبرجريمة ضد الإنسانية. تفتقر الكثير من الزنزانات إلى المراحيض، حسب شهادات سجناء سابقين، ويسمح للمعتقلين باستخدام المراحيض لثوان فقط في اليوم. وفي ظل انتشار عدوى الإسهال والتهابات المسالك البولية، فإن أغلبهم يضطرون لقضاء حاجتهم في الزنزانات المكتظة. أما وجبات الطعام فتتمثل في كمية قليلة من الأكل الفاسد والملوث. وبعض السجناء يموتون بكل بساطة بسبب تعرضهم للانهيار النفسي. كما يتم حرمانهم من الأدوية، ومن معالجة إصاباتهم.

من بين هؤلاء السجناء منير فقير، الذي يبلغ من العمر 39 عاما، ويبدو بعد المحنة التي مر بها في سجن المزة وسجن صيدنايا وأماكن أخرى أكبر بعشر سنوات. يقول هذا المعارض القديم إنه تعرض للاعتقال أثناء توجهه للقاء المعارضة السلمية. وتظهر الصور الملتقطة له قبل وبعد السجن نتيجة المحن التي عاشها، فبعد أن كان ضخم الجثة ويتمتع بصحة جيدة، خرج من المعتقل هزيلا وشاحبا لدرجة أن زوجته لم تتعرف عليه.

كان البرد في سجن صيدنايا عقوبة من يتكلم أو ينام دون إذن. ويذكر منير فقير، وهو جالس يحدثنا في أحد مقاهي إسطنبول، أنه مرة في كل شهر تقريبا، كانت تتم مصادرة كل ملابس وأغطية السجناء، ويضطرون للنوم عراة في درجات حرارة منخفضة جدا. كما كانوا أحيانا يُحرمون من الماء، وقد حاولوا الاغتسال من خلال حك جلودهم بالرمل الذي كان النمل يخرجه من ثقوب في الأرضية.

يوم لقائنا به، كان السيد فقير يحيي ذكرى وفاة أحد رفاقه في المعتقل، الذي فارق الحياة بسبب إصابته بالتهاب في الفم وعدم حصوله على العلاج، إلى أن تورم فكه وأصبح حجمه بحجم الرأس. لكن حتى العلاج قد يكون سببا للوفاة في سوريا، إذ أن التعذيب والقتل يحدثان أيضا في المستشفيات، بينما تكون أجنحتها الأخرى تشهد حضور كبار الشخصيات لزيارة الضباط الجرحى. نُقل فقير إلى المستشفى العسكري 601 مرتين، وهو مبنى من العهد الاستعماري عالي الأسقف ويطل على دمشق. وكان كل ستة سجناء يربطون بسلسلة في كل سرير. ويقول فقير: “أحيانا يموت أحد هؤلاء فينقص العدد، وأحيانا نحن من نتمنى وفاة شخص لنأخذ ملابسه”.

شاهد فقير في إحدى المرات أعضاء الطاقم الطبي وهم يمتنعون عن تقديم حقنة الإنسولين لأحد المصابين بداء السكري، وهو نادل عمره عشرون سنة، وقد فارق الحياة، “وفي عديد من الليالي، كان هناك رجل يعمل كممرض وحارس في نفس الوقت، ويسمي نفسه ملاك الموت “عزرائيل”، حيث كان يأخذ أحد المرضى ويقتادهم وراء الباب الزجاجي. وكنا نرى خيال ذلك الشخص وهو يتعرض للضرب، ونسمع صراخه ثم يعم الصمت، الصمت الخانق. وفي الصباح، كنا نشاهد جثته في الممر المؤدي إلى المرحاض. كنا نشاهد الجثث مكدسة، وأحيانا كنا نمشي فوق جثث رفاقنا ونحن حفاة”.

يتذكر السيد غباش بدوره “عزرائيل”، فقد تم اقتياده إلى نفس المستشفى لإصابته بعدوى تركت ندوبا عميقة في ساقه. وفي الليل، سمع أحد السجناء مبتوري الأطراف يئن من الألم ويطلب المسكنات، ثم جاء رجل وقال “سوف أجعله يشعر بالراحة”. وقد تظاهر غباش بأنه نائم ليسترق النظر، بينما قام ذلك الرجل برفع عصا حديدية، وصرخ أنا عزرائيل ثم قام بتحطيم وجه ذلك المريض وترك الدماء تنزف منه. قال غباش أنه تم إجباره في الصباح على حمل تلك الجثة نحو مدخل الحمام، وكانت هناك جثتان في ذلك المكان.

يقول فقير إن رفاقه في السجن حدثوه أيضا عن نقل الجثث نحو الحمام، ثم نحو مرآب السيارات في المستشفى، وهي المنطقة التي قام فيها المصور قيصر بتصوير الجثث. وأفاد فقير “لم يكن أحد يصدقني، إلى أن خرجت صور قيصر إلى العلن”. كما صرح واحد آخر من الناجين من سجن آخر يدعى عمر الشغري، بأنه أمِر بكتابة الأرقام على جبين كل جثة، وهو الأمر الذي يظهر في صور قيصر. ولكن بما أن الجثث كانت مكدسة وبدأت تتحلل، فإنه اضطر لكتابة الأرقام على الأوراق.

تشير المذكرات الحكومية التي حصلت عليها لجنة العدالة والمساءلة الدولية إلى أن رئيس جهاز المخابرات العسكرية، وهو عضو في جهاز الأمن القومي الذي يقدم التقارير إلى بشار الأسد، كان يعلم بشأن ارتفاع عدد الضحايا في السجون. وقد أشارت إحدى المذكرات المدونة بتاريخ كانون الأول 2012 إلى ارتفاع عدد المحتجزين الذين فارقوا الحياة، وتكدس الجثث وتعرضها للتحلل في المستشفيات. وقد صدرت أوامر للمسؤولين بإعلام رئيس هذا الجهاز حول كيفية موتهم واعترافاتهم، وأن يتم كتابة هذه البيانات بشكل يحمي الضباط من أي مسؤولية تحت أي سلطة قضائية في المستقبل.

أظهرت مذكرة أخرى صدرت بعد عام أن أعداد القتلى كانت في ارتفاع متواصل، حيث ورد فيها: “إنه من الضروري الانتباه إلى نظافة المكان والحالة الصحية للمعتقلين، من أجل الحفاظ على الأرواح وخفض عدد الوفيات الذي ارتفع بشكل ملحوظ مؤخرا”. وقد تضمنت هذه المذكرة شكوى من نقص المحققين. وبعد سردها لائحة طويلة من الأخطاء، من بينها تأخر المعاملات الورقية، أشارت المذكرة مشكلة “ضرب وتعذيب المعتقلين”.

تقول نيرما يلاسيتش، المتحدثة باسم لجنة العدالة والمساءلة الدولية: “إن الأمر يبدو كما لو أنهم يطلبون من الناس التصرف بلطف، ولكننا نفهم جيدا هذا السياق”. وتظهر وثائق المركز السوري للعدالة والمسائلة أن الضباط كانوا يعاقبون لارتكاب أخطاء مثل عدم اتباع الأوامر. ولكن لم يعاقب أحد بسبب ممارسة التعذيب.

خاطر المعتقلون والمنشقّون بأرواحهم من أجل إخبار عائلاتهم والعالم بأكمله بالمعاناة التي مروا بها. وفي السجن الموجود في الفرقة الرابعة، قرر العديد من المعتقلين تسريب اسم كل سجين يتمكنون من التعرف عليه. ويقول منصور العمري، الذي اعتُقل أثناء عمله لصالح منظمة حقوقية محلية: “إنه على الرغم من أننا كنا على عمق ثلاثة طوابق تحت الأرض، إلا أننا تمكنا من مواصلة عملنا”.

كان نبيل شربجي يعمل صحفيا، وبالصدفة كان هو من ألهم غباش بالمشاركة في الحراك في سنة 2011، ولاحقا تشارك معه في نفس الزنزانة في سجن المزة، وقد حاول هو أيضا الكتابة على قطعة قماش بواسطة معجون الطماطم. ولكن هذه الفكرة لم تنجح حيث أن الكتابة لم تكن ظاهرة، وفي النهاية قرر شربجي استخدام دم المعتقلين الذي كان ينزف من لثاتهم بسبب سوء التغذية، مخلوطا بالصدأ. وقد قام أحد الخياطين المعتقلين بخياطة هذه القطع في قميص العمري، وتمكن من تهريبها إلى خارج السجن.

لقد وصلت هذه الرسالة المكتوبة بالدم إلى عواصم الدول الغربية، حيث أن قطع القماش عُرضت في متحف الهولوكوست في واشنطن. ولكن السيد شربجي كان لا يزال رهن الاعتقال. كتب إلى خطيبته أثناء فترة قصيرة كان يسمح له خلالها بكتابة الرسائل: “لقد انتشر الإرهاق على قسمات وجهي. أنا أحاول الضحك ولكنه ممزوج بالألم، ولكنني متمسك بالصبر ومتمسك بك أنت”. بعد سنتين، ذكر أحد المعتقلين الذين تم الإفراج عنهم أن السيد شربجي ضُرب حتى الموت.

في سوريا ولبنان وتركيا والأردن وألمانيا وفرنسا والسويد وفي دول أخرى، يواصل الناجون والعائلات النضال. وبعد الإفراج عنه سنة 2013، وصل غباش إلى غازي عنتاب التركية حيث يقوم بالدفاع عن حقوق المرأة وإدارة برامج لإعانة اللاجئين، في آخر رقعة يسيطر عليها الثوار في سوريا.

تعمل السيدة مريم خليف في مدرسة للاجئين وتحاول دعم النساء الناجيات. أما السيد فقير الذي تمكنت زوجته بطبخها اللذيذ من إعادة الصحة إلى خديه، فقد التحق بما يشبه رابطة لقدماء سجن صيدنايا، الذين يساعدون أنفسهم للقيام بتوثيق تجاربهم، وتجاوز آثار تلك الأزمة النفسية، والبحث عن وظيفة.

أما درويش فهو يعاني من الأرق ورهاب الأماكن المغلقة، إلا أنه يواصل عمله في مجال المسائلة. وقد قام مؤخرا بتقديم شهادته حول سجن المزة في جلسة استماع لمحكمة فرنسية، حول قضية الأب الفرنسي من أصل سوري وابنه اللذان توفيا هناك، بعد أن كانا يزاولان نشاطهيما كطالب جامعي ومدرس في مدرسة فرنسية في دمشق.

ساعدت هذه الشهادات المحققين الفرنسيين على ضمان إصدار مذكرات توقيف بحق مملوك، وهو من كبار المسؤولين الأمنيين في سوريا، والحسن، مدير المخابرات الجوية، ومدير سجن المزة. والآن يمكن اعتقال مملوك إذا سافر إلى أي بلد في أوروبا.

يرى درويش إن تهديد الملاحقة القضائية هو الوسيلة الوحيدة التي بقيت متاحة لهم لإنقاذ المعتقلين، حيث يقول: “هذا الأمر يمنحك الطاقة، إلا أنها مسؤولية كبيرة. هذا الأمر قد ينقذ روح۔ بعض هؤلاء هم من أصدقائي، الذين قالوا لي عند الإفراج عني: “أرجوك لا تنسانا”.

خلال العام الماضي، صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة لإنشاء وتمويل هيئة جديدة تحت اسم الآلية الدولية المستقلة والمحايدة، لتعمل بشكل مركزي على التحضير لرفع قضايا جرائم الحرب. لكن هذه الهيئة لا تمتلك الصلاحيات لفرض قرارات أو توجيه اتهامات أو القيام باعتقالات.

تظل الحرب السورية دون أي حل سياسي. وفي ظل وصول محادثات السلام لطريق مسدود، فإن روسيا تدعو الغرب إلى تطبيع علاقاتهم مع دمشق وتمويل إعادة الإعمار على أي حال، وتأجيل الحديث عن الإصلاحات. ومؤخرا، أكد أحد السوريين المطلعين على خفايا إدارة الحكومة السورية لهذه الحرب، فضّل عدم كشف اسمه حفاظا على سلامته، أنه لا توجد أي فرصة لإنجاز أي إصلاحات سياسية من أجل جعل الأجهزة الأمنية تحترم حقوق الإنسان. وفي أفضل الأحوال، فإن روسيا يمكن أن تجعل الأجهزة الأمنية المكلفة بالاعتقال أكثر فعالية في أداء مهامها.

أما الملايين من أقارب المعتقلين المختفين، فلا يزالون يعيشون في دوامة من الفراغ الاجتماعي والنفسي. ودون صدور أي شهادات وفاة، فإن الأرامل لا يمكنهن الزواج مجددا وإعادة بناء حياتهن، والأطفال لا يمكنهم أن يرثوا الممتلكات.ليس لدى فدوى محمود، التي تعيش الآن في برلين، أدنى فكرة عما إذا كان زوجها عبد العزيز الخير لا يزال حيا. ومنذ ست سنوات، سافر عبد العزيز، وهو معارض بارز، إلى دمشق من الخارج بعد حصوله على ضمانات أمنية، لعقد محادثات بين الحكومة والمعارضة السلمية. وقد ذهب ابن فدوى محمود لاستقبال والده، إلا أنهما لم يتمكنا من الخروج من المطار ولم يظهرا مجددا، حيث كان المبنى خاضعا لسيطرة جهاز المخابرات الجوية. ولم تسمع عنهما فدوى أي خبر منذ ذلك الوقت.

قالت فدوى أثناء بينما تحيك بطانية صوفية في منزلها: “ليس لدينا الحق في التعرض للاكتئاب، يجب أن نواصل النضال”. في ركن الغرفة، كانت توجد كومة من البطانيات بألوان مختلفة صفراء وزرقاء وبنفسجية. والكومة في تزايد مستمر، وكانت فدوى تتخيل زوجها يعاني من البرد في السجن لذلك تواصل الحياكة كما لو أنها تقوم بحياكة البطانيات من أجله.