كتب علي الأمين في صحيفة “العرب الللندنية”:
لم تنته ذيول إقالة النائب في حزب الله نواف الموسوي من البرلمان، كما تروج مصادر حزب الله وتسرب للإعلام، أو استقالته كما يصرّ هو في حديثه لأكثر من وسيلة إعلامية.
النائب الموسوي هو عضو في البرلمان اللبناني منذ العام 2009. وكان ضمن مرشحي حزب الله في انتخابات عام 2008 في دائرة الجنوب الأولى (صور) وقد تنقل في مواقع حزبية عدة، منذ أن انتسب إلى الحزب في بدايات التأسيس في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، واتسمت مهماته الحزبية بالطابع الثقافي والإعلامي ثم تولى موقعا شبه ثابت في المجلس السياسي للحزب، وكان يعتبر من المسؤولين الذين يغلب على خطابهم الطابع الأيديولوجي المتشدد.
لم يصدر عن حزب الله بعد مرور عدة أيام على إعلان الموسوي استقالته من مجلس النواب، في رسالة كشف عنها قبل أن يعلنها رئيس المجلس نبيه بري أمام النواب لتصبح نافذة. فمجرد أن أعلن بري عن الاستقالة، أدرك الجميع أن حزب الله موافق على الاستقالة على الأقل، إن لم يكن هو من دفع الموسوي إلى تقديمها، ذلك أن الرئيس بري ما كان ليعلنها لو أن لدى حليفه حزب الله رأيا آخر.
رغم ذلك لم يعلق حزب الله على الاستقالة، ولم تذكر محطة المنار التابعة له أي خبر يرتبط بها، وتعاملت ولا تزال وكأن شيئا لم يكن، على الرغم من أنها شكلت الحدث الأبرز خلال الأسبوع الماضي في معظم المحطات اللبنانية على اختلافها.
استقالة الموسوي، تبقى هي الخبر الصحيح، طالما أن حزب الله لم يصدر عنه أي موقف رسمي علني بشأنها بعد مرور خمسة أيام على إعلانها، وهي كما بات معروفا جرت على إثر نزاع اسري بين الموسوي وطليق ابنته، اقتحم على إثره الموسوي مع مرافقيه أحد مراكز الشرطة، بسبب احتجاز ابنته وطليقها إثر مشادة وقعت بينهما على إحدى الطرقات العامة، وكان الموسوي الذي استفزه تعرض ابنته لاعتداء من طليقها، عمد إلى محاولة إخراج ابنته من الحجز، وأطلق النار تهويلا على طليقها في مركز الشرطة، كما ورد في تقرير أمني رسمي.
كل المعلومات تشير إلى أن المحنة العائلية هذه ليست جديدة، وأن كثيرا من القريبين من الحزبيين وغيرهم يعرفون أن هذه القضية ليست جديدة وإنما تعود إلى فترة زمنية تمتد لأشهر، لكن السؤال الذي يطرح هو كيف أن حزب الله لم يعمل على معالجتها؟ خصوصا وأن والد طليق زوجة الموسوي (الشيخ محمد توفيق المقداد) هو في حزب الله، ويتولى منصب مدير مكتب وكيل ولي الفقيه علي خامنئي الشرعي في بيروت، والمفارقة أن من وظائف هذا المكتب الرئيسة، هي معالجة مثل هذه القضايا المتصلة بالزواج والطلاق والعائلة.
ويستتبع ذلك سؤال آخر، فحزب الله الذي يتسم بطابع أمني، ويفرض على محازبيه ضوابط حزبية ودينية ملزمة باسم ولاية الفقيه، هل كان عاجزا عن معالجة قضية طرفاها من محازبيه أم أنه تقصد إدارة الظهر لها؟
في كلا الحالين ثمة ما يدفع بالأسئلة إلى ما هو أبعد من ذلك، وهو المكان الذي بات فيه الحديث عن مراكز قوى داخل الحزب وتصفية حسابات داخلية هو أمر بدأ بالظهور، وما يعزز هذه الفرضية، أن الموسوي الذي أعلن استقالته من البرلمان، أكد على بقائه في صفوف حزب الله، وبالتالي ما معنى أن يجري الادعاء في المحكمة العسكرية اللبنانية على الموسوي بجرم إطلاق النار في مركز الشرطة، في الوقت الذي كان يمكن لحزب الله -لو أراد- أن يعمد إلى معاقبة الموسوي، ومنع الادعاء عليه رسميا، خصوصا وأن هذه المحكمة العسكرية، يعرف الجميع دالة حزب الله عليها وعلى العديد من أحكامها. لذا فإن الادعاء في الحدّ الأدنى مغطى من حزب الله إن لم يكن هو من أمر به ونفذته المحكمة.
في موازاة ذلك إذا كان حزب الله عاجزا عن معالجة مثل هذه القضية بين طرفين يعلنان التزامهما بقيادة ولاية الفقيه، بل يبشران بها ويدعوان لها، فهذا ما يجعل الاعتقاد بأن ثمة ما يتجاوز قدرته حتى على إلزام محازبيه، بما يعتبره حكما إلهيا في أي موقف يتخذه في أي شأن، فكيف لو كان الشأن بين ملتزمين بشروط الانتساب إليه؟
لا شك أن الصراعات داخل الأحزاب طبيعية ومشروعة بتلك التي تنتمي إلى مرجعيات فكرية ليبرالية أو ديمقراطية، أما في النماذج الحزبية ذات الطابع الأيديولوجي والديني، ومنها حزب الله الذي يمكن أن نضيف إليه الطابع الأمني والعسكري، فإن الخلاف أو الصراع، هو من الكفر الحزبي، لذا فإن أي حديث عن وجود صراع حول منهج أو فكرة أو قرار ما، هو قول فيه انتقاص وتشويه ومؤامرة، بحسب أدبيات حزب الله وتربيته.
من هنا فإن ما جرى على الرغم من السمة العائلية كما هو ظاهر، فإن حزب الله عبر بطريقة تعامله المتسمة بالصمت وعدم التعليق علنا، عن أمر جلل قد وقع، ليس في أصل المشكلة التي هي واحدة من عشرات، بل في كونها تسربت للإعلام وشاعت بين اللبنانيين.
في انتظار كيف سيتعامل حزب الله مع قضية الموسوي بشكل رسمي وعلني، فإن ذلك لن يخفي ما آلت إليه هذه البنية الأيديولوجية والأمنية، التي انخرطت إلى حدّ كبير في الحياة اللبنانية من موقع أنها “أشرف الناس” وهو الشعار الذي رفعه حزب الله بعد حرب تموز 2006 وجعل منه وسيلة “أخلاقية” لتبرير سلطته ونفوذه وسطوته في السياسة والأمن، وجعل المنتمين إليه في موقع خارج المحاسبة والمساءلة، وهي مقولة تشكل عنوانا فظّا للفرقة الناجية، والتي فتحت الباب واسعا على تنمية شعور الاستعلاء وتحويله إلى ثقافة مجتمعية راسخة في الحزب وبيئته، وأدى ذلك إلى أن يجعل من مجرد الانتساب إلى هذه البيئة أو التحزب لها، معبرا لدخول الجنة في السماء، ووسيلة من وسائل الاستقواء والخروج الشرعي والمبرر على الدولة والقانون.
كانت الموارد المالية والعطاءات التي يوفرها حزب الله مباشرة لمناصريه أو التي يوفرها بشكل غير مباشر من خلال الانتماء إلى خط الحزب باعتباره سلطة تحصن من الملاحقة والمحاسبة، كل هذه الموارد تراجعت، والدولة اللبنانية تراجعت قدراتها المالية أيضا، هذا ما ساهم بكشف الواقع، والسلطة التي صارت بيد حزب الله هي أقصى أحلام الذين ساروا في ركبه بلا أسئلة، لكن الجواب اليوم، أن الواقع غير الأحلام، وأن “أشرف الناس” كبقية الناس، يحبون السلطة ويتنازعون من أجل المال، ويحبون لنفسهم أكثر مما يحبون لغيرهم، لا بل باتت تلك الأماكن التي يسيطر حزب الله عليها منذ عقود، وينشر فيها مراكزه ومساجد وحسينيات، هي من أكثر المناطق التي تشهد تجاوزات للقانون، وتنتشر فيها المخدرات، وتراجع فيها أعداد الذين يلتزمون دينيا، والمساجد تكاد تكون شبه خاوية، إلا بأمر حزبي.
استقالة الموسوي من البرلمان، مهما بلغت الخصوصية فيها، إلا أن في نتائجها السياسية والحزبية ودلالاتها الاجتماعية، ما يعبر عن وجه من وجوه أزمة اجتماعية. لطالما ظن حزب الله أن التعتيم وادعاء النقاء والطهارة وسيلة جيدة من وسائل المعالجة، لكن ما هو واقع اليوم، أن تفاقم المشكلات وتعاظمها، أخلاقيا واجتماعيا، فضلا عن تراجع مريع لنموذجية عناصر حزب الله الأخلاقية لدى الجمهور، جعل من المسؤولية الحزبية مصدرا من مصادر توفير المنافع والسلطة لا الزهد والإيثار.
هذا واقع لا يعني أن حزب الله في وضع يفتقد فيه إلى السلطة والنفوذ، بل العكس هو الصحيح، هو ممسك بزمام السلطة لكنه يقف على أرض تهتز من تحته اجتماعيا واقتصاديا.